تعود ذكرى الفاتح نوفمبر 1954، لتعود معها الأمجاد الخالدة التي صنعها الجزائريون بثورة مجيدة سقتها دماء مليون ونصف مليون من الشهداء، إلى أن استقلت الجزائر ونهضت بعدها من تحت الردم، وانتقلت من جهاد أصغر في سبيل الله، إلى جهاد أكبر من أجل تحرير الوطن من التبعية الاقتصادية والثقافية واللغوية والإدارية. رائحة نوفمبر لن تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد مدّت الثورة المباركة الروابط الوطنية بين جيل الثورة وجيل الاستقلال، ولأن عدو الأمس لمس هذه الرابطة القوية بين الجيلين، فقد جهر ذات يوم وقال بأن “تطور العلاقات بين الجزائر وفرنسا مرهونة بانقراض جيل الثورة”! لكن، تهبّ الرياح بما لا تشتهيه سفن “الاستحمار” الموروث عن الاستعمار والاستدمار، فجيل الثورة لن ينقرض، لأن جيل الاستقلال هو امتداد فطري وغريزي لجيل الثورة، وشباب اليوم هم أحفاد مجاهدين أحرار وشهداء أبرار، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. 65 سنة، لم تكن دون شك بردا وسلاما، في كلّ المحطات والمنعرجات، ولم تكن كلها أبيض في أبيض، لكنها كانت سنوات قليلة لاستعادة ما فقده البلد من خيرات، وخسائر ونهب وتدمير وتكسير وتدنيس مبرمج ومحاولات المسخ والفسخ، حيث نجحت الأمة في التقاط أنفاسها بعد استرجاع سيادتها، لتفسح المجال لاسترجاع هيبتها ومقوماتها وممتلكاتها! لقد واصل الشعب الجزائري ثورته المظفرة، بثورات “تكميلية”، ثورة في الإدارة، وثورة في اللغة، وثورة في المدرسة، وثورة في الاقتصاد، وثورة في الجامعة، وثورة في الطب، وثورة في البناء والتشييد، وثورة في التسيير، وثورة في الاتصال والإعلام، وثورة داخل مختلف المؤسسات، إلى أن وقفت الدولة على رجليها، واستكملت استقلالها بفضل الأبطال والرجال. لم تعد هذه الثورات المصيرية، سهلة، أو على طبق من ذهب أو فضة، ولم تكن هدية أو “مزيّة”، لكنها كانت حاسمة وصعبة، وفي بعض الأحيان اقتربت من دائرة المستحيل، لولا حكمة الأوفياء والنبلاء، وإخلاص الشرفاء والشجعان، ممّن وضعوا اليد في اليد للدفع بالمسيرة إلى الأمام، دون لفّ ولا دوران، وبالتضحيات صنع هؤلاء وأولئك المعجزات بفضل ربّ العالمين. تجريم المستعمر الغاشم، مازال مطلبا جزائريا ملحّا، من أجل تأدية أمانة الشهداء والإخلاص إليهم و”مواصلة” الثورة المعجزة، التي لم تتوقف في عقول كلّ الجزائريين إلى اليوم، فبها يحتفظون بالذاكرة التي لن تسقط بأيّ حال من الأحوال بالتقادم والنسيان والتناسي، ولا بالاتفاقيات والكلام المعسول، ولا بنكتة “الأبناء لا يعتذرون عن أخطاء الآباء”(..) مثلما وردت بكلّ وقاحة على ألسنة “الجيل الجديد” من أحفاد المستعمر! رسالة بن مهيدي وزيغود وبن بولعيد وعبان وديدوش وعميروش وعلي لابوانت و”جميلات الجزائر”، وقبلهم فاطمة نسومر وبوبغلة والأمير عبد القادر وبوعمامة، وغيرهم من صانعي الأبطال والبطولات التي يرويها جيل بعد جيل دون ملل ولا كلل.. ليستمر “قسما”.. وبعده في كلّ مقطع وكلّ مكان وزمان “فاشهدوا.. فاشهدوا فاشهدوا”.