أهمية الحراك في حياة الشعوب والأمم لا تكمن بكل تأكيد في الحشود التي تخرج إلى الشوارع وحدها مهما كانت أعدادها سواء عُدَّت بالمئات أو بالآلاف أو حتى بالملايين، وإنما تكمن في مشروع التغيير الذي يحمله والرغبة الجامحة في تحقيقه وفي الروح المشتعلة والحماس المتوهج للحركة والقدرة على الانجاز والفعل وصناعة التاريخ والحضارة. وإذا كان الحراك الجزائري الذي انطلق في 22 فبراير الماضي قد حقق لصالح الوطن نتائج يتفق الجميع في الداخل والخارج على أنها فارقة واستثنائية من شأنها أن تكون ذات أثر عميق في المسار المستقبلي للمجتمع والدولة في الجزائر، فإنه بعد أن تجاوز عتبة النصف سنة على انطلاقته يمكن ملاحظة أنه أصبح يعاني من بعض الجمود والسكون ولم يتطور بالشكل المطلوب والمرغوب وينتقل طبيعيا من طور الحراك الاحتجاجي المطلبي في الشارع إلى طور الحركة القائمة على المبادرة وشغل الفضاءات وطرح الأفكار وتكوين الأطر السياسية والمدنية البديلة الحاضنة لعملية التغيير وبناء الجزائر الجديدة. وبعبارة أوضح لقد استطاع أن يوقف مسار العهدة الخامسة والتمديد لها وهو المسار الذي كانت تقوده عصابة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة والذي كان سيدمر الدولة الجزائرية ويقوض أركانها لامحالة لولا لطف الله ويقظة الشعب ومؤسسة الجيش، لكنه لم يستطع حتى الآن الدخول في حركية جديدة هي حركية بناء الجزائر الجديدة من حيث أنه لم يستطع جمع صفوفه وأطيافه وواجهاته الحزبية والمدنية على خريطة طريق للمرحلة القادمة ولم يستطع حتى الآن إفراز قيادات جديدة ذات كفاءة ومصداقية يعول عليها لقيادة مشاريع التغيير المنشود، ولم يستطع حتى الآن إصدار جريدة أو مجلة فضلا عن قناة اذاعية أو تلفزيونية تنشر فكره بين الناس، ولم يستطع حتى الآن إخراج قوة أو قوى سياسية جديدة تكون بديلا للطبقة السياسية الجامدة والمتكلسة التي استنفدت غرضها وينبغي أن تختفي عن المشهد مع اختفاء النظام البائد. وليس من قبيل المبالغة أو التجني على الحقيقة القول إن الحراك قد دخل في المراحل الأخيرة في مسار من التآكل الداخلي المدمر من خلال فوضى الشعارات والانقسامات والفرز والصراعات الأيديولوجية والجهوية والعرقية وتصاعد نبرة خطاب الكراهية والتهديد بالتصعيد والتلويح بالعصيان المدني والمواجهة وما إلى ذلك. هذه المظاهر والمؤشرات وإن كانت ربما هامشية ومحدودة ولا وزن لها في حسابات تقييم فوائد الحَراك ومزاياه ولا تستطيع أن تشوه صورة الحراك أو تحجب أنواره المشرقة أو تحيد به عن مساره الصحيح وأهدافه السامية النبيلة فإنها تنبِّه الجميع إلى ضرورة التحلي باليقظة والانتباه الذي يدفع إلى الاستثمار الأمثل في الحَراك والمحافظة على انجازاته وعدم تفويت فرصة الاستفادة منه على الجزائريين كما تم تفويت الفرصة عنهم في أحداث وتجارب سابقة مماثلة. ولعلنا لا نحتاج هنا إلى إثبات أن حالة الانسداد التاريخي الكبير لذي وصلت إليه البلاد على كافة الصُّعد والذي هز الضمير الجمعي وأدى إلى اندلاع هذا الحراك الشعبي العارم هو خيبات الماضي وضياع فرص ولحظات الوعي واليقظة التي عرفها الشعب الجزائري في مختلف الفترات وعجزت نخبُه عن الاستثمار فيها وتحويلها إلى محطات تحوُّل حقيقية وانطلاقة في بناء الدولة الحديثة. وخير مثال يمكن الإحالة عليه في هذا الصدد الحَراك الذي عرفه الشعب الجزائري نهاية ثمانينيات القرن الماضي والذي بدل أن يكون محطة للولوج في مسار صناعة المستقبل بكل ما يعنيه من تحديث وتقدُّم كان بكل أسف محطة للدخول في نفق مظلم من الخيبات والنكسات والسياسات الخاطئة إلى اليوم، ولا داعي هنا للخوض في التفاصيل فالكل يعرف كيف تم استغلال الجزائريين فيها وكيف تم السطو على نضالاتهم المخلصة أثناءها وكيف تم التصرّف فيها وسرقتها وكيف استغلها المغرضون والوصوليون والانتهازيون في الداخل والخارج في خدمة مصالحهم وتحقيق أغراضهم وحتى في ضرب الوطن وتقويض استقراره وتوقيف عجلة التنمية والتقدُّم فيه. وإذا كانت بعض الأطراف قد استطاعت أن تفوِّت على الجزائريين هذه الفرص في الماضي ربما لتفوّقها عليهم في رصيد خبرة وتجربة القدرة على المناورة والمكر والخداع وسرقة الجهود والأحلام، فيفترض أن تكون تلك التجارب وغيرها قد علّمتهم وجعلتهم أكثر حنكة وحكمة في التعامل مع مختلف الوضعيات والدسائس والمؤامرات، وأكثر قدرة على التعامل مع المستجدات والتكيف مع المتغيرات المختلفة، وأكثر دهاءً ومهارة في تفكيك الألغام المزروعة وإبطال الكمائن المنصوبة على طريق تحقيق أهدافه. إذا أمكننا التسليم بهذه القضية أمكننا القول إن الحَراك الجزائري الحالي مدعوٌّ إلى تجاوز حالته العاطفية الطوباوية الطاغية ومراجعة منهجه الجذري وموقفه الحِدِّي الجامد الذي يقوم على الثنائيات الضدية التي ترتكز على رؤية العوالم المختلفة بلونين متضادين هما لونا الحق والباطل والوجود والعدم والأبيض والأسود وتهميش كل ما عداهما من الوضعيات والخيارات والألوان الممكنة والعبور إلى حالة أخرى يكون فيها أكثر وعيا ورشدا وجدوى وفاعلية يحتكم فيها إلى العقلانية والتخطيط والواقعية السياسية وإلى التميز بين الأهداف الاستراتيجية البعيدة الثابتة والخيارات التكتيكية الظرفية المتحولة المحكومة بزمانها ومكانها وظروفها، وهو ما يمكن أن يجعله وفيا للأهداف المبدئية التي قام من أجلها لكن من دون أن يبقى رهيناً للحظة 22 فبراير من حيث الخيارات التكتيكية والتعاطي مع المستجدات والمتغيرات. ولعل الامتحان العسير أمام الحَراك اليوم هو: هل يبقى محتميا بالشارع واقفا عند مطالبه المبدئية مصرا على تحقيقها كاملة غير منقوصة وبالجملة وليس التقسيط واضعا أمامه خيارين فقط: إما الانتصار والانكسار؟ أم أنه مطالَبٌ بالتفاعل إيجابيا مع المسار الانتخابي المطروح حتى وإن كان ليس من اختياره ولا يتوافق مع ما يضعه من مواصفات واشتراطات إذا لم يكن من منطلق القناعة بجدوى الانتخابات وأولويتها بالنسبة للبلد في هذه المرحلة كما يذهب إلى ذلك طيفٌ واسع من المؤسسات والأحزاب والمجتمع المدني، فمن منطلق التكتيك والواقعية السياسية على الأقل؟ ومع احترامنا لكل المواقف والخيارات الممكنة، وبعيدا عن أي حكم أو خلفية أو مزايدة حول المواقف المختلفة، فإنه يبدو أن وضع الحراك في الكفة المضادة للمسار الانتخابي كما تذهب إلى ذلك بعض الأوساط يبدو أنه موقف بعيد وشارد تعوزه الدقة والحنكة السياسية ويحتاج إلى إعادة نظر وفحص وتقييم؛ فالانتخابات مهما كانت ظروفها والمعطيات التي ستجرى فيها لا يمكن بحال أن تتناقض مع مسعى الحَراك أو تكون مضادة لمطالبه مهما كانت حتى وإن أريد لها أن تكون كذلك فهي في كل الأحوال وإن لم تؤد إلى تحقيق أو تجسيد كل مطالب الحراك فهي لن تؤثر كثيرا على مساره واستمراه لسبب بسيط وهو أن الحراك مسارٌ نضالي ثوري يعبر من خلاله الشعب عن موقفه وتطلعاته ومطالبه وعن تقيمه للسياسات المختلفة، وهذا ليس حقا أصيلا للشعب فقط بل هو واجب عليه إن كان شعبا حيا حريصا على مصالحه وغيورا على حاضره ومستقبله، وهو بهذا ينبغي أن يكون سيرورة مستمرَّة لا ترتبط بظرف أو بزمان أو بمحطة سياسية معينة سواءً كانت انتخابية أو غيرها يمارسه صاحب الحق فيه متى رأى ذلك أسلوبا مناسبا، بينما الانتخابات آلية إجرائية وظيفية لحل النزعات السياسية وتجاوز الأزمات المرتبطة بالحكم والسلطة، إما أن تنجح في القيام بوظيفتها وتحقيق المراد منها فتكون نتائجها محترمة، أو لا تنجح في مهمتها فتسقط مصداقيتها وتكون الأطراف التي احتكمت إليها في حاجة إلى إعادتها من جديد. وإذا عُلم هذا فإن الحكمة تقتضي من الحَراك أن يتعامل معها بمنهجية خاصة تعتمد على مسارين اثنين: مسار يقوم على استمرار الحراك وتنويع أساليبه وتكييفها مع طبيعة المرحلة، ومسار يقوم على استغلال مختلف المحطات السياسية والانتخابية لصالحه فإذا لم يحقق فيها كل مطالبه فعلى الأقل يجعلها خطوة على طريق تحقيق بعضها من منطلق أن السياسة هي فن الممكن وفن الأخذ والعطاء والكر والفر والمرونة والتنازل وأن المطالب التي لا يمكن أن تتحقق جملة يمكن أن تُؤخذ على مراحل، والتغيير الذي لا يتم بصفة فورية وجذرية يمكن أن يتحقق مع الزمن، أما المواقف العدمية الصفرية فلن تؤدي إلا إلى تفويت الفرص وتعريض الجهود والانجازات والمكتسبات للضياع. هذا المنظور من المتوقع أن لا يستوعبه المنطقُ العامي ويرى فيه تحريضا للحَراك على الاستسلام والخضوع للسلطة، لكن المنطق البراغماتي المرن المتحرك والمتفاعل مع الأحداث والتطورات والمعطيات سوف لن يجد فيه خيارا ممكنا ومقبولا فحسب بل سيجد فيه واجب الوقت كذلك. والعبور بوعي الحَراك ومساره من حالة السكون والجمود إلى حالة الفاعلية والامكانية السائلة هي مسؤولية نخب الحراك في المقام الأول والأخير التي ينبغي أن تكون مهمتها الأساسية التنوير والترشيد والقيادة البصيرة التي تعمل على تأطير الحراك وتوجيه إلى ما يخدم تحقيق أهدافة النبيلة ويحافظ على أمن واستقرار ووحدة المجتمع والدولة ويدفع باتجاه الايجابية وروح المبادرة التي تعمل على توفير الشروط الضرورية للتغيير وتكوين الثقافة والوعي والأطر المؤسسية السياسية والمدنية اللازمة لبناء المجتمع الجديد والدولة الجديدة المؤهَّلة للعيش في القرن الواحد والعشرين ولا تكون في الصفوف الخلفية تتبع السيل الهادر حيث توجَّه ولو إلى مسارات مجهولة فيها خرابُ الوطن وتعريض مكتسباته للخطر.