كان مخططا في بداية هذا العمل، أن ندخل بيت الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، بمناسبة ذكراه الثلاثين، لنقف على أعماله الخالدة، فهو صاحب مدرسة أدبية وفكرية ثرية، بما يمثله أدبه من نقلة نوعية متميزة في الرواية العربية، جعلته ينجح في الخروج من المحلية إلى العالمية، وتُرجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة، ولذلك اتصلنا بابنه محمد عبد القدوس، وشرحنا له الفكرة، فرحب بالموضوع وفتح لنا أبواب بيته على هذا الأساس.. ولكن، لما دخلنا بيته فوجئنا بالسيدة عفاف الغزالي، ابنة الشيخ العلامة "محمد الغزالي"- رحمه الله- تستقبلنا في بيتها، وعرفنا أنها زوجة ابن الأديب الراحل، فاستغربنا كيف لابنة الشيخ محمد الغزالي أن تتزوج بابن الأديب الليبرالي، الذي لطالما حاربه أبوها في مقالاته.. غيّرنا مجرى الموضوع، وفضلنا أن نكشف لكم أسرار هذا الارتباط، وكيف كان له أن يكون مع الاختلافات الواضحة في التنشئة والثقافة، ومع توجهات الأسرتين المتباينة.. طرحنا فكرتنا على السيدة عفاف، فوافقت مباشرة، لأن المجلة بكل بساطة جزائرية، وهي تعشق كل ما هو جزائري، ونظرا إلى هذه المعزّة، فقد سمحت لنا بفتح خزائن صورها لتخرج لنا بخجل صور زفافها، وقد أظهرت بعض الصور الشيخ الغزالي والأديب الكبير إحسان عبد القدوس مجتمعين. توجهنا إلى السيد محمد عبد القدوس، ابن الأديب إحسان عبد القدوس، بسؤالنا الواضح: كيف فكرت في الزواج من ابنة شيخ علامة، لطالما حارب والدك شخصيا من خلال مقالاته، حيث كان يعتبره متحررا زيادة عن اللزوم وخارجا عن قيم المجتمع المصري المحافظ؟ فرد علينا الأستاذ محمد: "أنا من جيل هزيمة 1967، وهذا الجيل شهد انهيار الاشتراكية والتوجه نحو الدين، وفى أيام الرئيس السادات تم تعيين الشيخ محمد الغزالي إماما وخطيبا لمسجد عمرو بن العاص، وكنت معجبا به ومتابعا له، وقتها كنت صحفيا تحت التمرين في جريدة "أخبار اليوم"، فتم تكليفي بتغطية أخبار ولقاءات الشيخ محمد الغزالي، فتوطدت علاقتي بالشيخ وكنت أزوره كثيرا، وذات مرة زرته فى بيته وتعرفت على أسرته، وحين شاهدت ابنته عفاف خفق قلبي وتمنيتها زوجة، لما كشفت عن رغبتي صدمت الأسرتين معا، فأفراد أسرتي استغربوا وتفاجؤوا ورددوا جملة كنت أسمعها كثيرا آنذاك وهي: "كيف سيتزوج ابن نادى الجزيرة من ابنة الشيخ؟ وكيف ستقيم معنا في ظل اختلاف طبيعة الأفكار؟!" أما في أسرة زوجتي، فكانت هناك مشكلتان وليس مشكلة واحدة ، الأولى أن الشيخ الغزالي كتب مهاجما أفكار والدي في كتاب (ظلام من الغرب)، فكيف سيزوج ابنته لمن يهاجم أفكار أبيه.. المشكلة الثانية، أن بيت الزوجية لم يكن جاهزا بعد، وهو ما يعني أن نقيم في منزل أبي لفترة طويلة، ولهذا السبب شعر الشيخ الغزالي بالخوف على ابنته، فكيف لها أن تعيش في بيت إحسان عبد القدوس الليبرالي، المنادي إلى الحريات بغير حدود، كما خاف عليها من أن تتأثر بأفكار والدي وببيئتنا المتحررة". يبتسم محمد عبد القدوس ويضيف قائلا: "الغريب، أن الشخص الوحيد الذي وافق منذ البداية على الزواج كان والدي، الذي كان يعرف طريقة تفكيري جيدا ويحترمها، فوالدي كان يحترم الحريات والأفكار، حتى التي لا يقتنع بها، إذن وافق والدي وقال: "محمد بتفكيره أقرب إلى بيت الشيخ محمد الغزالي من بيت نادي الجزيرة"، كان والدي يتكلم دائما عن الحرية ويطالب بها، وكان يطبق أفكاره علينا، ويمنحنا حريتنا كاملة، لذلك وافق على أن أتزوج ممن أريد". سألنا محمد عبد القدوس: وكيف وافق الشيخ الغزالي؟ فأجابنا: "لم يوافق الشيخ بسهولة، لكن مع إصرار ابنته وافق أخيرا، فهو كان يحب ابنته كثيرا وكان أيضا من النوع الذي يحترم حرية المرأة". ومع أن توجه والدي كان يختلف تماما عن توجه الشيخ محمد الغزالي، إلا أنهما كانا يتشابهان في نقاط عديدة، من بين هذه النقاط احترام المرأة وحريتها ومكانتها. كما كان هناك تشابه في دور زوجة كل منهما، حيث وقفت كلتا السيدتين بجوار زوجها في بداياته، وكانت كل منهما تتولى مسؤولية البيت كاملة، من تربية وإدارة شؤون المنزل، لأن الزوجين تفرغا تماما لعملهما، وكانت لوالدي مقولة شهيرة: "لولا لُولا- بضم الواو- ماكانسانو (دلع إحسان كما كنا نناديه)، أيضا كانت الكلمة في البيت والقرار النهائي للزوج، سواء في بيتنا أم في بيت الشيخ الغزالي". خلال حديثنا مع السيد محمد عبد القدوس، دخلت علينا زوجته عفاف الغزالي، وجلست معنا في غرفة الاستقبال نفسها، التي كان يجلس فيها والد زوجها مع نجوم الفن والأدب والثقافة، على غرار أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.. رحبت بنا في حياء وأدب، وبدأت تمدح الجزائر لكونها تعلم أن المجلة جزائرية فقالت: "لقد زرت والدي في الجزائر الحبيبة، وأعتز بها لحب أهل الجزائر لوالدي، وقد سافر أخي علاء منذ فترة لتسلم تكريم لشخص والدي، وقد تأثرنا كثيرا بوفاء الجزائريين وحبهم لوالدي". واستطردت: "أتذكر أنني سافرت إلى والدي وطلبت من الرئاسة الجزائرية توفير طائرة طبية ليسافر أبي بها إلى مصر، وجدت الرئيس الشاذلي بن جديد يقول لي بالحرف الواحد: "الشيخ في رعايتنا، وكل ما تطلبونه مجاب"، ووافق على توفير الطائرة الطبية، ولم يكتف بذلك بل خصص لنا طائرته الخاصة لتقلنا إلى القاهرة، وأبي كان يحب الجزائر جدا ويحب أهلها وعاش بها أسعد أيام حياته". بنت الإمام تعيش بكل سلام في بيت الأديب المتحرر أردنا أن نسأل عفاف الغزالي عن تجربتها في بيت إحسان عبد القدوس، لكن كل شيء كان واضحا من خلال كلامها عن الأديب الراحل، والد زوجها، فتخوف الشيخ الغزالي من أن تتأثر ابنته بأجواء البيت الليبرالي لم يكن في محله، عفاف لم تتأثر ولم تتغير، حتى بعد مرور كل هذه السنوات مازالت ابنة الإمام الشيخ المتدينة والملتزمة والمحافظة، وورثت عن أبيها احترام آراء الناس وثقافات غيرها، حتى لو كانت مختلفة عنها، وهذا ما سهل لها التأقلم مع بيئتها الجديدة المختلفة عن البيئة التي ترعرعت فيها، فاستطاعت عفاف أن تعيش بسلام مع زوجها في بيت إحسان عبد القدوس، الكاتب الأديب المتفتح والمتحرر، الذي فتح لها أبواب بيته واستقبلها بين أفراد عائلته، وعاملها معاملة الأب لابنته واحترم توجهاتها وأفكارها. عفاف لم تترك بيت والد زوجها حتى لما جهز بيت الزوجية، لأنها كانت مرتاحة فيه، ولأن الأديب إحسان عبد القدوس أراد أن يعيش مع أحفاده ويتمتع بهم، فلبت له عفاف هذه الرغبة. وبالنسبة إلى الشيخ الغزالي، فبعد الزواج تقرب من الأديب الراحل وتعرف عليه عن قرب، وكانا يجلسان لساعات يتناقشان في أمور عديدة، وكانا يحترمان آراء بعضهما ونشأت بينهما مودة واحترام كبيران، فكلا الشخصيتين كانتا تتميزان بأسلوب راق ومتفتح، في مناقشة الأمور وفي التعامل مع الآخرين، حتى مع اختلاف التوجهات، ما سمح للزوجين محمد عبد القدوس وعفاف الغزالي بأن ينعما بحياة هادئة وراقية.