استرعى انتباهي هذا الكتاب في هذا الوضع الذي نعيشه هذه الأيام.. وبشكل خاص ما تناوله عن انتشار المخاوف في كل شبر من بيوتنا وكوكبنا كما يقول.. من الشوارع المظلمة، وشاشات التلفاز، وغرف نومنا، ومطابخنا، وأماكن العمل ومحطات المترو ومن الناس الذين نقابلهم ومن الأطعمة التي نأكلها ومما نلمسه من أشياء.. من العنف والحروب المعلنة وغير المعلنة.. ومن موجة ارتفاع حرارة التحذيرات العالمية.. إننا محاطون بسيولة الخوف وسيول الخوف من كل جانب.. بل إننا إنسان الخوف وإنسان عصر المخاوف دون منازع… اشتهر باومان بكتبه التي تتمحور حول السيولة، الحب السائل، الخوف السائل، الأزمنة السائلة، الحداثة السائلة، الثقافة السائلة، حيث يكشف باومان زيف الحداثة وهشاشة الإنسان، وانعدام ركون العلمانية إلى ثابت. الحداثة التي أزاحت كل ما عداها.. لتفرض نفسها كبديل شرعي للحياة.. فأماتت الله والمؤلف والتاريخ.. ولكنها في الحقيقة أماتت الإنسان ذاته الذي ادعت أنها جاءت لتحييه.. كتاب الخوف السائل جزء من منظومة متكاملة هي هذه العناوين التي ذكرناها التي تعد تشريحا لإنسان ومرحلة ما بعد الحداثة، تشريحا من عمق الحياة الإنسانية ذاتها وما تعيشه وكيف تعيشه وما تفكر فيه. لقد كانت الحداثة قفزة كبرى بعيدا عن الخوف الذي لا يعني ذلك الشعور المعروف لدى كل كائن حي بل الخوف المشتق من التقولب في رؤية للعالم.. الخوف من العجز وانعدام الأمان.. الحياة المدججة بكل صنوف الخوف.. وهي التي تحدق بها الأخطار والتهديدات من كل جانب.. لكنها وعلى العكس من ذلك.. أوقعت الإنسان في أوهام القوة وتحرير العقل وإرادة الهيمنة وإخضاع الطبيعة.. لكن لم تجن سوى الفردانية المقيتة بمركزيتها الغاشمة وسياسات الحروب والدمار من أجل أنانياتها ومصالحها.. أصبح الأمن والأمان مطلبا بعيد المنال.. وسال الخوف ليكوكب الحياة واليوميات في ضروب جديدة لم نعهدها. ويصنف باومان الأخطار التي يخشاها المرء إلى ثلاث فئات: فئة تهدد الجسد والممتلكات، وفئة تهدد دوام النظام الاجتماعي والثقة به. بما فيه متطلبات الدخل والوظيفة. وفئة تهدد موقع المرء من العالم – مكانته وهويته، حيث لم تعد الدولة قادرة على حماية الإنسان من هذه الفئة. يركز باومان على فهم تحولات واقعنا الإنساني الذي يشهد هزات وجودية خطيرة ومتسارعة.. لا في معمار الحياة والحضارة.. بل في معمار الكينونة الإنسانية ذاتها.. والتي سيطرت عليها العولمة التي تسعى باستمرار إلى تغيير العالم، حتى غدا مستعصيا فهمه.. وسجنت الذوات داخل فردانيتها وعوالمها الافتراضية الوهمية.. إنها الحرية دون أمان.. والتي لا تقل لا جدوى عن أمن دون حرية.. الانحباس داخل ترسانة معلوماتية جاهزة وموجهة للعالم مجتمعات وأفرادا، ما دعا إلى تفكك المجتمعات وانعزال أفرادها.. حيث تحوّلت التجمعات السكنية إلى ما يشبه الثكنات العسكرية والعلاقات الإنسانية وإلى ما يشبه الحسابات البنكية المحسوبة بدقة وبجداول الربح المادي والخسارات، إنها العقلانية الحداثية والعولمة التي أطلقت الخوف من حدوده المعلومة نحو مداءات جديدة ليتحول كل شيء إلى موضع للخوف بما فيها الأمراض والفيروسات المقاومة للمضادات والإرهاب والعنف والأطعمة السامة والهواء الملوث والماء. سيولة الخوف تعني أنه لا يمكن الشعور بالأمن طوال الوقت. إن ذواتنا وعقولنا المستلبة لمصفوفة تسيرنا وفق شرائح لا مرئية بإكراهات مفروضة صارت كمخدر لا غنى عنه. لقد صرنا محفوفين بعالم من الأخطار حيث تكتشف كل يوم أخطارا جديدة في أغلبها صناعة بشرية تطوّر نفسها باستمرار لصالح المنظومة المتحكمة في كل شبكات الحياة. إنها حياة القلق والخوف من معلوم ومجهول معا حيث المخاطر وهي الأخطار المتوقعة والأخطار وهي غير المحتملة تحدق بنا من كل جانب. الخوف السائل الذي يحتوينا فيه متلازمة تيتانيك حيث مخاوف الكارثة التي تحل على الجميع.. وسببها الحضارة الواهنة الهشة.. يكتب تيموني جارتون آش في مقال له بعنوان "الخطر دائما تحت أقدامنا" قائلا: "قشرة الحضارة التي نطؤها هي دائما هشة كالرقاقة، وارتجافة واحدة كفيلة بسقوطنا تحتها، فنحفر وننبش بأظفارنا من أجل النجاة كالكلاب الضالة. إن هذا الواقع المرآوي.. زمن الكورونا.. يكشف حقيقة إنسان الكارثة الذي لم يستطع الصمود تجاه الفيروس.. وهاهي حضارته بكل ترساناتها التكنولوجية والعلمية تتهاوى لتكشف هشاشة ما وراء أسوارها. الكائن الأصغر وهو يفتك بهذا العملاق الذي أخضع العالم. الكائن المجهري المتناهي في الصغر. وهو يتحول إلى كابوس مريع ومرعب والوحش المفترس الذي يفتك بالبشر والدول والعلاقات والمجتمعات والاقتصاديات. ويكشف هشاشة العمالقة. الكائن الذكي الذي يطور نفسه ضد دفاعات البشر في تحد للذكاء البشري الذي استصغر شأن كل الكائنات الأخرى وعاث فيها وفي جيناتها كل أنواع التجارب والفساد. هاهو يجابه بالخوف السائل، الخوف منه، من الموت، بغلق محلات الحياة والانعزال في حجر صحي إجباري يقف فيه البشر مكتوفي الأيدي لا يملكون لغيره سبيلا. الفيروس الذي أخضع أعتى الدول وأشدها بطشا وفتكا. هاهو ينتقم من غرورها، ويرديها صريعته. إنه العدو الميكروسكوبي الذي لا يرى وهو يثير حالة غريبة من الخوف العالمي السائل الذي لم ينج منه بشر.