السيدة منصوري تترأس أشغال الدورة ال 38 لاجتماع لجنة نقاط الاتصال الوطنية للآلية على المستوى الأفريقي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ..لا دفع لرسم المرور بالطريق السيار    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في الكارثة وما بعدها
نشر في النصر يوم 24 - 03 - 2020

يقدم الكاتبان والأكاديميان عبد السلام يخلف وشرف الدين شكري ملاحظات حول تأثير كارثة كورونا في العالم وما سوف تفرزه من تغييرات في العلاقات الدولية والنظم، وما سيتغيّر في حياة البشرية بعد هذا الوباء، فيما ترصد نخبة من الكتاب الجزائريين والعرب (عبد الحفيظ بن جلولي، حسن داوود، لونيس بن علي، بوداود عميّر، وليد سليمان ومحمد معتصم) آثار الوباء في ربيرتوار الأدب العربي، وتخلص قراءات إلى القول إن الأدب العربي انشغل بالأوبئة السياسية والاجتماعية عن أوبئة الطبيعة. في هذا العدد من «كراس الثقافة» الذي يحاول مواكبة الوباء بالتفكير فيه، وسنواصل سلسلة من الحوارات مع باحثين و أكاديميين في الأعداد القادمة.
الكاتب والمختص في العلاقات الدولية عبد السلام يخلف للنصر
الليبرالية التجارية القائمة على البضاعة قادت إلى الكارثة
الصين ستجد لها مكانة كبيرة بعد الوباء يجب الانتقال من أمن الدولة إلى الأمن الإنساني
حاوره: سليم بوفنداسة
يؤكد الكاتب و أستاذ العلاقات الدوليةعبد السلام يخلف أن كورونا ستكون عتبة فارقة بين نظامين دوليين، ويرجع الكارثة على عولمة مجدت السلعة ووضعت التجارة فوق سيادة الدول، ويقول أن الصين ستصبح لاعبا كبيرا في مرحلة ما بعد كورونا، إلى جانب قضايا أخرى تطالعونها في هذا الحوار الذي خصّ به النصر.
ما الذي سوف يتغيّر في العلاقات الدولية بعد كورونا في نظرك؟
من منطلق تخصص نظريات العلاقات الدولية فإن المنظوريْن المسيطرين على التحليل لدى متخصصي العلاقات الدولية هما «الواقعية» (نظرية القوة) و «الليبرالية» (نظرية التعاون والسلم). ترى الواقعية أن الفاعل الأساسي في النظام الدولي هي الدول ولا ترى منافسًا لها سواء من المنظمات الدولية أو التجمعات الإقليمية، وتعتبر أن هدف الدولة هو زيادة القوة ولهذا فإن الدول التي تمتلك الأسلحة النووية هي التي لها المكانة الأولى في النظام. غالبا ما تجد الدول نفسها في صراع دائم يقود إلى المنافسة على الموارد وبالتالي يكون الناتج هو الشك الدائم في نية الآخرين والذي بدوره يقود إلى حالة اسمها «المأزق الأمني». كل حركة تقوم بها دولة ما لزيادة قوّتها فإن الدول الأخرى تعتبر ذلك تهديدا لأمنها وسلامة أراضيها. فكل دولة تقوم بكل الأدوار ولا تسمح لدولة أخرى القيام بالدفاع عنها وإذا حصل ذلك فإن دخول الأحلاف يكون مؤقتا كي لا ترهن الدولة سيادتها ويمكنها الانسحاب متى شاءت (كما حدث مع البريكسيت). النظام الدولي تحكمه «الفوضى» التي تعني غياب سلطة عليا تفرض القوانين كما يحدث داخل الدولة والتي تتميز «بالهرمية»، هذا الوضع هو ما وصفه فلاسفة علم الإجتماع السياسي أمثال هوبس «بحالة الطبيعة» حيث الكبير يأكل الصغير. كل دولة في هذه الحالة تعتمد على نفسها أو ما يسمى «مساعدة الذات». الوضع الدولي هو الواقع الذي نراه «هنا الآن» بلغة الفلسفة.
كورونا امتحان للحضارة الحديثة
على العكس فإن النظرية الليبرالية ترى أن النظام الدولي رغم اتسامه بالفوضى (مع الاختلافات الكثيرة بين مفكري هذه النظرية أو ما يسمى بالحوار داخل المنظور الواحد) فإن امكانيات التعاون الدولي متوفرة باعتبار أن الإنسان قابل للتحسين من خلال إدراكه للواقع على أن السِّلم خيرٌ له من الحرب باعتبار أن ما يجنيه يكون أحسن للجميع. ترى أنه يمكن نقل ما يحدث في النظام السياسي الداخلي للدولة إلى النظام الدولي ما دام ناجحا فإن له فرصة للنجاح أيضا. تعتبر أن الاعتماد المتبادل (حاجة الدول إلى بعضها البعض/ سياسة الربط) هو التقنية التي تقود إلى تحقيق السلم الدولي من خلال القضاء على الأنظمة الدكتاتورية وبناء أنظمة تقوم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وذلك بإتباع قواعد نظرية «السلم الديمقراطي». تصبح الرأسمالية والديمقراطية هما التعبير التقني عن فرضية «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما.
من هنا يمكن أن نرى بأن كورونا الوباء الذي أودى بحياة الآلاف لحد اليوم له مكانه في التحليل. فالنظرية الواقعية ترى أن الذي حدث هو بسبب العولمة التي قلصت من سيادة الدولة وفتحت الحدود للمصالح التجارية التي تمكنت من نقل الفيروس وإضعاف إمكانيات الدولة. لو كانت الدول قوية بما فيه الكفاية وركزت على أمنها وبناء ترسانة من الأدوات التي تحصّنها من الأوبئة التي هي جزء من الحرب البكتريولوجية لكانت الآن بخير.
على العكس ترى الليبرالية أن المأساة سببها أنانية الدول وتخطيطها للقيام بالحروب البكتريولوجية وتحضير الأسلحة النووية والبيولوجية وعدم تطبيق تعليمات العولمة بفتح الحدود بما فيه الكفاية للسلع والخدمات التي تمكن من الزيادة في القدرة الشرائية للمواطنين في كل دول العالم وبالتالي رفع معدل متوسط العمر وتطوير المستشفيات. كورونا كان ليكون لعبة في يد الدول المتعاونة في شكل قوة واحدة تركز على الأمن الجماعي وتعتبر أي هجوم على دولة منها بمثابة الهجوم على المجتمع الدولي.
فشلت النظريتان في التعامل مع الوضع باعتبار أنهما تركزان على الدول والقوة والتعاون وكلها أشياء لا تنطبق على كورونا باعتبار أنه خطر عابر للحدود إضافة إلى أنه فوق امكانيات كل دول العالم. ما لاحظناه في الآونة الأخيرة بعد استفحال الوباء هو الأنانية التي طغت على سياسات الدول ورأينا كيف أغلقت أمريكا وفرنسا حدودهما بدل مساعدة الآخرين وخاصة إيطاليا التي تضررت كثيرا وكذا سلطات صربيا التي لجأت لطلب المساعدة من الصين. ستنقلب الموازين الكثيرة وخاصة في الإتحاد الأوروبي الذي كان يجد تماسكه في استغلال الضعفاء وخاصة أوروبا الشرقية بما يسمونه «سياسة الجوار». ستجد الصين لها مكانة كبيرة في النظام الدولي لأنها أثبتت قدراتها في التعامل مع الوباء بشكل مدهش للدول المصنعة أو التي تقدم نفسها على أنها كذلك غير مدركة أن مراكز المال والأعمال والإبداع قد تغيّر أماكنها بسرعة وكتاب المؤلفيْن هارت ونيغري «الإمبراطورية» يتناول بعض هذا النقاش. قد يكون هناك ما قبل كورونا و ما بعد كورونا في النظام الدولي وهذا ما أشار إليه الكثير من الباحثين من خلال التركيز على وباء 1918 الذي لم تتعلم منه الإنسانية.
الحضارة التي نعيش في كنفها قدمت في قالب إقصائي
هل يعيد الوباء النظر في بعض القواعد والنظم؟ وهل يتخلى صنّاع القرار عن وحشيتهم ويجنحون نحو أنسنة قراراتهم أم أنهم سيزدادون ضراوة في تقديرك؟
أكيد أن الوباء سيعيد النظر في القواعد التي تحكم النظام الدولي. مر القرن العشرون وتخللته حربان عالميتان ثم الحرب الباردة التي قادت إلى الحروب بالوكالة في دول العالم الثالث وسباق التسلح وحرب النجوم وحروب التحرر. أصبحت قواعد النظام الدولي هي المال وتوابعه من نفط وذهب وثروات أخرى حتى أصبح يقال «لا دوام للأصدقاء أو الأعداء في العلاقات الدولية، الدائم هو المصلحة». أصبح الموت بالدبابات والطائرات والقصف و»الدرون» (الطائرات بدون طيار) يملأ شاشات التلفزة وكأنه ألعاب كمبيوتر لكن الضحية هم دائما سكان دول الجنوب الفقير «المحقور»، المستعمرات السابقة التي لا يجب أن تنتفض أبدا. ابتكر الأمريكان «الحرب بصفر ضحية» أي الهجوم على الدول الأخرى بطريقتين: إما بالطائرات والصواريخ العابرة للقارات أو بتجنيد المعارضين من أهل البلد المختار للتدمير وبالتالي تحدث الحرب بصفر ضحية «أمريكية». هذا قصدهم. كل هذا سيتغير إذا ما استفاقت شعوب الدول الغربية من خلال بناء جبهة واعية من مجتمع دولي قادر على لعب دور المعارضة وكشف المؤامرات والدسائس. إنهم يجعلون من السياسة «فن المراوغة والكذب» أو «فن تخييب الظن» لكن الأشياء أصبحت واضحة بأن كورونا إحدى المخاطر التي تتهدد مواطني الكرة الأرضية كاملة دون الإعتراف بالحدود وجوازات السفر ولذا فإنه من الواجب الآن الانتقال من أمن الدولة إلى «الأمن الإنساني» الذي أصبح جزءا من خطاب المنظمات الدولية دون أن يصبح سياسة في الواقع.
كورونا وفتكه بالبشر وإمكانياته اللامحدودة ستقود البشرية إلى فكرة «كوسموبوليتانية» تتجمع حولها البشرية جمعاء بهدف بناء عالم آمن للجميع لأننا ننتمي إلى نفس النوع. أنسنة القرارات السياسية هي المآل الذي يقود إليه كورونا الذي هو الدرس الخلاق (إذا ما اعتبرناه إيجابيا في هذا المنحى) والباعث للوعي والواخز حتى لا يختار الإنسان طريق الإنتحار. لقد تمكن العالم في سنوات الحرب الباردة من تجنب حرب نووية كبرى تدمّر العالم وذلك بوجود مساواة في ملكية الأسلحة النووية التي أدت إلى حالة اسمها «توازن الرعب» الذي منع القوتين العظميين، أمريكا والإتحاد السوفياتي، من استعمال الأسلحة النووية. ربما بنفس المنطق فإن كورونا هو السلاح الفتاك الذي يجب الوقوف في وجهه بردع قوي لأن عدم الإتحاد يقود إلى الفشل بحيث يصبح الإتحاد والتعاون مع الآخرين ليس خيارا أو بديلا بل ضرورة حيوية لتفادي التدمير الشامل كما حدث مع الحرب الباردة.
الإشكال مع كورونا هو أنه يتكاثر بشكل رهيب وتتضاعف أعداده بطريقة عجيبة حتى أنه قد ينتقل من واحد إلى ألف خلال أيام قليلة وهذا ما يجعل رجال السياسة في حيرة من أمرهم لأنه يعطل كل طرق حساباتهم وتخميناتهم. من عادتهم تقديم أرقام تقريبية أو مزيفة لضرورات الانتخابات وإقناع المواطن بالخيارات الحسنة والرشادة التي يتبعونها والسبرنطيقا (التسيير العلمي للإدارة) التي ينتهجونها أما مع كورونا فعليهم اليوم تقديم أرقام دقيقة عن الأسرّة المتوفرة في المستشفيات لاستقبال المرضى والأطقم الطبية العاملة. لقد أدى الوباء إلى تغيير روتين العمل السياسي وفتح عن آخرها «العلبة السوداء» (بلغة دايفيد إيستون) التي هي النظام السياسي بكامل أسرار عمله. لا يستطيع النظام السياسي الآن إخفاء الحقائق والكذب والمراوغة لأن ذلك قد يقود إلى مأساة أو كارثة بشرية تقضي على ثقة المواطن في المؤسسات السياسية والاقتصادية إلى الأبد. كي يفهم السياسيون الذين لا يعرفون سوى لغة الأرقام والمصلحة والفوائد تحدث أحد الاقتصاديين قائلا: «الفيروس يشبه القرض البنكي الذي يقبض 25 بالمائة من الفوائد كل يوم. إذا اقترضنا دولارا واحدا (الكورونافيروس الأول الذي ظهر) وتقاعسنا 40 يوما فنصبح مدينين للبنك بقيمة 7500 دولار وإذا انتظرنا ثلاثة أسابيع كي ندفع فإننا نضطر لدفع مليون دولار». هذا هو كورونا الذي سيغير المفاهيم واستراتيجيات العمل إلى الأبد ولكن في أي اتجاه؟ لا أحد يعرف لكن المعلوم اليوم هو أن البشرية تملك الآن فرصة لتغيير مسارها أما إذا أرادت الانتحار فما عليها سوى الاستمرار في السياسات الحالية بكل تعنت.
كشف الفيروس عن ضعف وهشاشة الحضارة الحديثة التي تدعي التفوق على سابقاتها، كيف تقرأ هذه الوضعية؟
كورونا امتحان رائع للحضارة الحديثة لأنها قامت على عمليات بشعة لا تحترم الكائنات الحية ولا المحيط الحيوي ولا الثروات الزائلة التي تملأ الكوكب. تعتبر التيارات الثقافية والحضارية المعاصرة أن العالم ينقسم إلى ثقافات «دنيا» وثقافات «عليا» ومن البديهي أن الأولى متواجدة خارج الدول الصناعية. كل ما لا ينتمي إلى الحضارة الغربية (المهيمنة اليوم) فهو ناقص ولا يعتد به باعتبار أن التراكم المعرفي بلغ أوجَهُ مع الحضارة الحديثة التي يعتبرها المساندون على أنها الأحسن والأكثر تطورا من كل الحضارات السابقة. المشكل اليوم هو أن الحضارة التي نعيش في كنفها قد تم تقديمها في قالب إقصائي، فهي تمتد حسب ما يرى «المفكرون» من الإغريق والرومان وعصر التنوير في أوروبا أما الباقي فلا ضرورة لذكره لأنه لم يقدم للإنسانية شيئا يذكر. الملاحظ أن الدول الاستعمارية خلقت نمطا من التفكير عبر الكتب وأدوات النشر والمدارس والجامعات وسبل خلق الرأي المختلفة أصبح هو السائد اليوم ومن الصعب قلب الأوضاع لأن وسائلهم كثيرة (اكتسبوها في معظمها من استعمار الشعوب الأخرى) تمكنهم من ذلك. المركزية الأوروبية قادت إلى إقصاء الكثير من المعارف التي سبقت الحضارة الغربية مثل الصين ومصر الفرعونية أو تخللتها مثل الحضارة الإسلامية. إعادة بناء المعارف اليوم تتطلب أكثر من علم الإبستيمولوجيا و ما يقوم به «المراجعون» (Revisionists) في كافة المجالات المعرفية من أجل تنقيح ما نعرفه وتنقيته من الشوائب والأكاذيب تماما مثل تغيير أسماء الفلاسفة المسلمين ومنحها نغمة لاتينية كي لا يتعرف القارئ على انتمائهم الحضاري فأصبح ابن رشد يسمى (Averroès) وابن سينا (Avicenne). تم تهميش المعارف القادمة من أراضي غير أوروبا وأصبح الطلبة يرون في أوغست كونت أبًا لعلم الإجتماع عوض ابن خلدون الذي يكادون لا يعرفون عنه شيئا. كما قال محمد ديب: سرقوا الأنبياء أيضا حتى أن المسيح أصبح بشعر أصفر وعينين زرقاوين.
جاءت الحضارة المعاصرة جراء الصراعات المختلفة بين الحضارات المسيحية ضد الإسلامية وداخل الديانة المسيحية ذاتها، بين البروتيستانت والكاثوليك، الشيء الذي أدى في النهاية إلى عصر التنوير والحداثة والعلمانية وكل المفاهيم التي صاحبت «الفردانية» وخلق الإنسان الجديد الذي لا يعتمد على الميتافيزيقا أو اللاهوت بل يعتمد على العلم الذي يقوده إلى اكتشاف كل القوانين التي تحرك العالم ومن بينها القوانين الاقتصادية مثل قانون العرض والطلب ومبدأ «دعه يعمل دعه يمر». تحدث باحثوهم عن التفرقة بين المقدس والمدنس وأصبح العالم الذي نعيش فيه هو ذلك العالم المدنس الذي يجوز فيه كل شيء باعتبار أننا لسنا في عالم مثالي أو في «ما يجب أن يكون».
الغرب أراد سرقة كلّ شيء من البشرية
إن الليبرالية التجارية القائمة على البضاعة قادت إلى الكارثة لأنها جعلت من كل شيء سلعة تباع ولها قيمة تبادلية في السوق. تم التلاعب بالغابات وقطع الأشجار وتحويل الأدغال إلى أراضي زراعية أو لتربية الحيوانات التي يتم التعامل معها تماما مثل الجماد بحيث تربى ثم تقتل ثم تعلّب بشكل سريع ويتم تسريع عملية نموها بواسطة الأدوية التي يقولون أنها خالية من الأعراض الجانبية على صحة البشر. تم القضاء على آلاف الأنواع من النباتات بدعوى أنها أعشاب ضارة تعيق نمو الحبوب المختلفة التي تزرع بالآلات الكبيرة في أراضي شاسعة تغطيها الأسمدة حتى أن الكثير من الخضراوات تنتج اليوم في بيئات غير طبيعية مغلقة وخالية حتى من التربة. بسبب الزيادة في عدد السكان راح الناس يفرغون البحار والمحيطات من أسماكها ويتناولون على الطاولة كل الكائنات الحية الطائرة والزاحفة والماشية ولم ينج الثعبان والخفاش والديدان. الإنذار الأول كان ثقب الأوزون والاحتباس الحراري والكوارث الطبيعية التي نتجت عن ذلك والتي ستؤدي بعد قرن إلى إغراق جزء من أوروبا (الأراضي المنخفضة). الإنذار الثاني هو التلوث الذي أصبح يلف المدن ويدمر المحيط الحيوي مما أدى إلى انقراض الكثير من الكائنات الشيء الذي قاد إلى اختلال التوازن الطبيعي بين الفريسة والصياد.
إن الحضارة المعاصرة هي حضارة البلاستيك الذي سيدمر الكرة الأرضية خنقا، حضارة الربح الذي قاد إلى الحروب وقتل الشعوب الضعيفة ومحو آثار الحضارات القديمة الرائعة (العراق وسوريا)، حضارة الاستعلاء والعنصرية التي تقود اليوم إلى احتقار الشعوب التي تم استغلالها سابقا ويتواصل حاليا وتعاني اليوم من سوء التسيير والرشوة والولاء للغرب. إن فيلسوف مثل ميشال أونفري واحد من أولئك الذين يقولون الحقائق عن الحضارة اليوم وسلبياتها. كورونا باستفحاله اليوم يقول أن الحضارة الحالية هي حضارة الكمبيوتر / الموجة الثالثة بلغة ألفن توفلر، لكنها لم تستطع إطعام وإسكان ساكني الكرة الأرضية ثم أنها تلك التي تبرمج للذهاب إلى الكواكب خارج المجرة في حين أنها عجزت عن مواجهة فيروس مجهري فتك بمواطنيها. بلغة بول كينيدي إنها نهاية الحضارة الغربية التي حكمت حقبة من الزمن ولكنها كباقي الحضارات تخضع إلى قانون القوة والضعف الذي تحدث عنه ابن خلدون. لقد أصبحت الأسئلة التي لم تعد الحضارة الغربية قادرة على الإجابة عنها كثيرة جدا وأصبحت بمثابة الثقوب في جسدها (بلغة توماس كوهن المختص في تطور العلوم) ولذا فإن العالم اليوم بحاجة إلى تغيير جذري. قد لا يحدث بالسرعة المنتظرة لكنه سيحدث لا محالة.
الكاتب والباحث في علم الاجتماع شرف الدين شكري للنصر
الغرب لم يعد متحكما في صناعة التاريخ
يرى الكاتب والباحث في علم الاجتماع شرف الدين شكري أنّ الغرب لم يعد متحكما في صناعة التاريخ ويقرّ بأن البشريّة ستؤرخ، بعد كورونا، لتاريخ جديد سيتسابق فيه أقوياء العالم نحو القيادة ، لذلك يدعو «الأبرياء» إلى الاتحاد ضد أشرار العالم.كما يقدم قراءة في المعالجة الإعلامية الأبوكاليبتية للوباء إلى جانب قضايا اخرى تطالعونها في هذا الحوار الذي خصّ به النصر.
حاوره: سليم بوفنداسة
- نجح كورونا في ظرف أيام في تغيير حياة سكان كوكبنا، هل تعتقد أن هذا الفيروس بريء؟ وكيف تقرأ ما يحدث؟
- لكلّ فكرة، فكرة مضادة. لا يمكن الحدّ من جدلية نظام الأفكار. هذه هي الطبيعة البشرية. فمِن قائلٍ بأنه محض صدفة، وأنّه نتيجة طبيعية لتطوّر فيروسي نتج عن اجتماع حيوانين هما: الخفاش والحية، إلى قائل بأنّ هناك تطوير خبيث لفيروس «السارسّ الفتّاك الذي قتل أكثر من 120.000 إنسان لحدّ الساعة، وقد أراد مطوّره ضرب الاقتصاد الصيني، إلى قائلٍ بانفلات الفايروس من المخابر الصينية عبر خفاش هارب تم اصطياده وبيعه بسوق يوهان، إلى قائلٍ بأنه صناعة مخبرية أيضا، لغازات سامة تم بعثها في الهواء لكي تجوب العالم وتقتل أكبر عدد ممكن من البشرية في رقعة جغرافية بعينها من أجل تعطيل اقتصادها الذي يعدّ الأقوى في العالم، رغبة في وضع نظام جديد يقضي فيه أغلب الضعفاء، وتبقى الحياة فقط للأصحّاء عبر ما يمكن تسميته داروينيا بالانتخاب الجيني Genetic selection إلى قائل بأنه زمن «الدجّال» ونظرية حتمية الحتف...إلخ. كل هذه المقاربات التي تتأرجح بين العفوية والقصدية تتكاثف فيما بينها كي تزرع إعلام الرعب الذي أثبت في الأخير (أي الإعلام) أنه السيد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في صناعة الحياة والموت بامتياز.
على أبرياء العالم أن يتحدوا لحماية أبنائهم من أشراره
لا يمكن المراهنة على أي من المقاربات أعلاه الآن، لأن زمن الحرب، يمنعنا من التفكير السليم. حين تنتهي هذه الحرب، وتَعُدّ البشرية ضحاياها الذين قتلهم الفايروس، والذين تسبب الفايروس في مقتلهم، من انتحار وجنون وخروج عن القانون والمنطق، وربما أيضا من انفجار مفاجئ لسكان المدن من شدّة الضغط الناجم عن الحجر الذي قد يؤدّي إلى ثورات المدن الموبوءة Infected city revolutions ، تضاف إليها ثورات المدن المحجورة الجائعة التي لا يمكن لاقتصادها أن يوفر ما يكفي سكانها من زاد لأكثر من أيام قليلة، والتي ستمتنع الأسواق العالمية عن تموينها مستقبلا بسبب التخزين الضخم المجنون من المواد الغذائية الذي لجأ إليه أغلب سكان العالم المتقدّم. ستدّخر كل اقتصاديات الدول الكبرى منتوجاتها من الطعام لسكانها. في زمن الحرب..كل شيء يمكن توقّعه.. !
الشيء الأكيد الآن، هو أنّ الإعلام، يقود أكبر حملة لتشريد البشرية في التاريخ الحديث، ضمن حرب نعلم مسبّقا بأن ضحاياها يعدّون على الأصابع، ومخلفاتها بالملايير...
سنؤرّخ بعد انتهاء هذه الحرب لتاريخ جديد: قبل، وبعد «الكورونا»، ولقيم ومعان فلسفية جديدة، ولتكتلات قوى جديدة، ولمخططات حروب أيضا جديدة، ربما بين الضحية والجلاد، وبين الجلادين الجدد للعالم فيما بينهم، وبين الضحايا الجدد والجلادين. ستكون للحروب معان جديدة على نهج المعاني والقيم الفلسفية الجديدة. الكل الآن، يفكر في كتابة التاريخ الجديد مستقبلا، وفي بطل العالم الجديد الذي سينقذ البشرية باللقاح المتين. هذا العالم الذي سيبدو في الأيام الأولى بعد الطوفان أنّه عالم موحّد، بيد أنه يضمر في خباياه، المخططات الجديدة للسيطرة التي تقوم على مبدأ مسرح القسوة لأنطونان آرطو: «الحياة دائما، هي موت أحدٍ ما». أقوياء العالم سيدسّون لبعضهم بعضا السمّ في الدسم حتى يتبين قويهم من ضعيفهم. هم يعلمون جيدا أنّ المعاهدات التي امتدت لقرن من الزمن بعد الحرب العالمية الأولى (2019)، والتي انتهت فيها سيطرة قطب بعينه على العالم، ستتطلب قيادة جديدة، لا زالت بعد لم ترتسم، وربما هذا الوباء، سيعجّل في ذلك !
الإعلام يقود أكبر حملة تشريد للبشرية عبر التاريخ
هل نشهد، برأيك، عهداً جديداً ومختلفاً في تاريخ البشريّة، أم أنّ الإنسان تلميذ غبي لا يتعلّم، كالعادة؟
- العقلاء، سيقولون لك بأن الأمر مجرّد اختلاق إعلامي لفوضى جديدة تريد بناء عالم جديد - حسب المبدأ الفوكويامي، والذي أصبح اليوم كلاسيكيا نوعا ما ويدخل في فلسفة القرن المنصرم البعيد- . سيقول أصحاب مبدأ البراءة، بأن الإنسان معرّض لمثل هكذا هزات سرعان ما سوف تخبو بعد انقضاء مسبباتها. لكنّ عهدي بالمجتمعات الغربية أنها، لا تؤمن بالصدفة ولا بمجانية الفعل !. التاريخ «خبيث» كما رآه ماركس، والغرب اليوم، وقع في شرك احتمالاته ومخططاته غير البريئة، ووقعنا معه طبعا كحتمية، نحن أيضا. دفْعُ ثمنِ كتابة التاريخ اليوم، يكون في الغالب، بحسب التخطيط لخارطة شِباك غير مضمونة. لم يعد الغرب متحكّما في صناعة التاريخ، وأصبحت الصدف المنفلتة من مخططاته ترسم وضعيات في أحيان كثيرة، خارجة عن السيطرة. وهو الأمر الذي نعيشه اليوم مع أحداث السارس كوفيد 19، وأيضا الحروب العديدة التي صنعتها أمريكا وغرقت فيها ولم تعرف حتى كيف دخلتها !. لست من أنصار نظرية العمالة، لكنني أيضا، لا أؤمن كثيرا (ببراءة الاختراع). الفيروسات التي تهدد البشرية، لا يمكن لها إلاّ أن تكون شريرة وخبيثة وأنانية في كتابة تاريخها المؤلم الذي يكون على حساب مرضى ومستضعفي الأرض(أتكلم طبعا هنا عن سقام الأبدان). سيكون هناك مصلا مضادا، وسوف ينقشع الرعب ربما قبل حتى المصادقة القانونية على هذا المصل، لكي يستفيق العالم من غفلة التهويل الإعلامي القاتل (وحتما سيحدث هذا)، لكنّ اختبار صبر البشرية، سيجعل العقل يفكر بطريقة مغايرة تماما مستقبلا، وعلى رأسها: منع التجارب الجرثومية نهائيا. سيكون لأنصار الطبيعة رأيهم مستقبلا في مراقبة أشرار العالم الكبار الذين بأيديهم إفناء البشرية، ولو بمحض الصدفة التي بإمكان خبثها أن يكون أكبر فاجعة مما قد نتصوّر ! لذلك، على أبرياء العالم أن يتحدوا من أجل حماية أبنائهم من أشرار العالم الذين يحلمون مجددا بقيادة العالم. يمكن للقيم والمعاني الفلسفية الجديدة، أن تتّحِدَ وتشكل جيشا كبيرا من الإنسانية وتضع قوانين جديدة لحقوق الإنسان، أكبر من تلك التي تربض منذ سنين في هيئة الأمم المتحدة، وترفِسُ عليها الدول الكبرى وقت ما تشاء، دون أن تجرؤ أي قوة إنسانية على ثنيها.
اختبار صبر البشرية سيجعل العقل يفكر بطريقة مغايرة مستقبلا
لقد صنعَت القوى الكبيرة في العالم، بعد سنين بسيطة من نهاية الحرب العالمية الثانية «بؤس العالم». فشِلت في جعل الإنسان سعيدا، وأدخَلته حروبَ تعاسة دفع ثمنها القويُّ والضعيف على حدّ سواء. الإنسان ليس سعيدا. لم تنجح الديانات في إسعاده. لم ينجح الاقتصاد في إسعاده. لم ولن تنجح الحروب في إسعاده.هذه هي القيم المنفلتة من عباءة الفلسفة، منذ أفلاطون. هذه هي المشكلات التي حاولت الفلسفة الإجابة عنها ولم تفلح. تجاوزنا أسئلة الوجودية التي انتهت، وكنا نظنّ أنها لا تنتهي، وكان بالإمكان وضعها ضمن «كوربوس» وحصرها بكل سهولة. الديانات أثبتت انطواءها على الأتباع لا غير، ولم تمنح سماحتها للإختلاف في امتدادها. الأنوار خرّت قواها التي كانت درعا واقيا للغرب على حساب المستضعفين في الأرض، وركنّا قاعدة بياناتها في مرآب القرن التاسع عشر الذي اعتلاه الغبار وأنانية أصحابه.
وحدها الطبيعة لم تنل نصيبها من الحكمة...وسوف يعود إليها الإنسان حتما بعد هذا الاختبار العسير لصبره وهو يتذكر ميتاته المحزنة التي ستخلفها «الكورونا» الشمطاء.
ما الذي سوف يتغيّر بعد كورونا في نظرك؟
- إذا لم يتعلم أبرياء العالم كيف يكشّرون على أنيابهم، ويتحدّون من أجل حماية الطبيعة من جنون طغيان التقانة وتواطؤ الفكر الجشع، ويسنُّون قوانين جديدة لحقوق الإنسان، ضمن خارطة حماية جديدة له، فالأمر سرعان ما سوف يتكرر، وسوف تغدو فاجعة «الكورونا» مدخلا بسيطا للفواجع القادمة التي سوف تلمّ بالإنسان، وربما تعصف به نهائيا. المشكلة الآن، وبحكم أنّ الضحايا من كلا الجهتين: أقوياء العالم وضعفاؤه، سيكون مجددا لهؤلاء الأقوياء الأشرار فرصة وضع خارطة الطريق الجديدة !! أي أنّ عبث القدر سيتجدّد للمرة التي لا تحصى ! لن يكون حينها لصوت الحقّ مكانة (على النهج الفوكوي La véridiction) إلاّ عبر التكاثف العالمي لأحرار العالم، كما كان يحدث في الستينيات نوعا ما، رغم أنّ المقارنة بين الزمنين تكاد تكون مستحيلة بفعل عوامل كثيرة، أهمّها، نوعية ساكنة العالم، وثقافتهم وقيمة المعلومة وقنواتها...إلخ.
لا بدّ لأبرياء العالم من أن يكشّروا عن أنيابهم، وينشدوا كلهم مرة جديدة أغنية «صوت الأرض» لمايكل جاكسون التي لم ندرك قيمتها إلاّ اليوم ربما.
ما نعيشه اليوم، ليس صدمة في حقيقة الأمر ! فأذكياء العالم كانوا على علم بهكذا حوادث ستنجم عن التسليح وصناعة الجراثيم. وما انفجار العديد من المفاعلات النووية، بدءا بحادثة تشيرنوبل وانتهاء بمصنع اليابان منذ وقت قريب، وما خلفته من دمار للمنطقة ولساكنة تلك المناطق وما جاورها، إلاّ إنذار مسبق لم نحسن قراءة تفاصيله، لأن الإنسانية كانت تجابه قوى عظمى شريرة ومجنونة ومهدّدة بضعف شديد. لم تتكاثف الإنسانية من أجل وقف تلك المهازل البيولوجية المجرمة- كما فعل بيل غايتس- وذهبت إلى فتح صراعات موازية بلا معنى، كانت القوى العظمى الشريرة ذاتها من صنعتها. للأسف، تلك القوى، ومنذ انتصارها في الحرب العالمية الثانية خاصة، هي التي تصنع المعنى والقيمة للإنسان. وللأسف أيضا، العديد من الاتجاهات الفكرية، لم تتّحد فيما بينها من أجل تخليص الفكر من القيم الخبيثة لتلك الدول العظمى. لقد انبنى إنسان العصر الشّبكي على هكذا قيم حدّدتها تلك الدول البراغماتية، وسطّرت تركيبتها السكانية ونوعيتها واتجاهاتها وثقافتها ونوعية استهلاكها، وحصرَتها في قاعدة بيانات ضبطتها جيدا فيما بعد في مولدات معلوماتية تخضع للاحتمالات والمآلات التي لا يعلم فلسفتها ضعفاءُ هذا العالم.
إعلام الرعب أثبت انه السيد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
وكما ذكرتُ أعلاه، قد يبدو للوهلة الأولى، أمام أعيننا، تخطيطا تقانيا رهيبا، له قيمه وفلسفته المضبوطة، لكنّ الفلسفة التي لا تخضع للحرية والحق والجمال – بحكم أننا نعيش نوعا من الديكتاتورية المعلوماتية التي تعتقد بأنها تتحكّم حتى في المصفوفة البشرية. ولنا في تجارب التطوير الجيني مثال- ستثبت لا محالة عجزها أمام المغامرة البشرية (وفي هذا نتذكر دون أدنى شك، كلمة فوكو التي تحدّث فيها عن قيمة المغامرة التي صنعت الحضارة الغربية !).
إننا اليوم أمام استباق كبير للسيطرة على معنى العالم الجديد، بين التقانة والقيم الجديدة لحرية الإنسان. والسباق الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، وُجدت تصاويرُ كثيرة له في أدب الخيال العلمي منذ سبعينيات القرن المنصرم...وربما حتى منذ حكايات جول فيرن ! لا أريد أن احصر حديثي الآن، فيما يقع من «مغامرة» للبشرية مع هذا الفيروس اللعين الذي تشابهت أحداث تطوّره بشكل يبعث على الاندهاش في رواية «عيون الظلام» التي صدرت عام 1982.م، لكنّ العقل الغربي الذي تحدّثنا عنه، والذي قام على المغامرة، لم يكُفّ يوما عن مفاجأتنا..بل عن مفاجأة نفسه ذاتها ! والمغامرة نفسها هذه المرة أيضا، ستقوم على المزيد من الضحايا والأبرياء (أشعر بنيتشة وهو يتنهّد قبل قرن ونصف من هذا التاريخ، وهو يردد: ألم أخبركم بأن الإنسان الغربي لا يقيم حضارته إلاّ على جبال من الضحايا؟..إنه امتداد لتاريخ الفاجعة Histoire de la tragédie). والضحايا هذه المرة، تمّ حصرهم في مجتمع شبكي بلا حدود جغرافية، تشابه فيه أبناء الأقوياء، بأبناء الضعفاء. وهذا هو الاتجاه الجديد الذي على البشرية أن تتحد فيه مستقبلا بعد نهاية حرب الانتخاب هذه،وإلاّ فستكون الحرب البيولوجية القادمة، هي نهاية الجنس البشري من على هذه الأرض.
كيف حضرت «تيمة» الأوبئة في الأدب العربي
هل يمكن القول أنّ هناك ما يُسمى بأدب الأوبئة؟ وكيف تناول هذا الأدب موضوع أو «تيمة» الأوبئة، كيف عالجها، كيف اِستثمر فيها إبداعيًا وأدبيًا وروائيا على وجه الخصوص. وهل تناولها من سياقها التوثيقي التسجيلي مُتكئًا على قوة الفن والإبداع، أم فقط اِتكأ على لحظة راهنية للحالة «الوباء». ومن جهةٍ أخرى إذ كانت آداب العالم فيها الكثير من الروايات والقصص وحتّى القصائد التي تناولت أنواع الأوبئة والكوارث التي ألمت بأماكن ومناطق في مختلف جغرافيات العالم وخلدتها في المتون الإبداعية. بالمقابل هل يمكن الحديث عن أدب أوبئة عربي. حول هذا الشأن «الأدب والأوبئة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الأدباء والكُتّاب والمترجمين من الجزائر ولبنان والمغرب وتونس.
استطلاع/ نوّارة لحرش
* عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
الحديث عن «أدب أوبئة» عربي يكون قائمًا عندما تتراكم النصوص
ماذا يمكن للإنسان أن يفعله وهو يرى خطرا فتاكًا يُهدّد مستقبله، وباء يُهدد الحياة على وجه الأرض، إنّه الفناء بالنسبة إلى الكائن الهش الّذي يُعايش الكوارث من ثقب مخيلته، حيث يُتابع عرضًا مُقرفًا للنهايات المُحتملة التي يمكن أن يتعرّض لها إذا لم يُقضى على «فيروس» الفظائع المُهدّدة لأمنه البيولوجي.
لماذا حين حدوث الوباء ننفعل بسرعة إزاء أسوأ السيناريوهات المُمكنة؟
لأنّه، وبكلّ بساطة، عند الأزمات القادرة على محق الحياة، عندما نلمس الخطر بأعيننا وبهشاشة أجسادنا، تفرّ الرّوح نحو مناطق الجمال في الحياة فتتشبث بها، وتبدو الحياة حينها أكثر بهاءً وتفجرا في اِنبثاقات غير مُنتظرة من الرغبة واللذة والإغراء، والأدب، وحده القادر على تمثل هذه الحالات لأنّها صنو الخيال الّذي ينبت في زوايا لا تقوم سوى في المناطق المجهولة وغير الآمنة. يتصادم الأديب باِستمرار مع الحياة، يترصد الأعطاب المُمكنة التي قد تُصيبها ليصوغ من تداعياتها إمكانات جمالية تنقالُ باللّغة العصية عن القول لدى غيره من البشر.
يكتب الأدب هذه اللحظات المُتعثرة في الخوف والألم والقلق من مُستقبلٍ مُظلم. يتخيّل الأديب ذاته كما لو كان موضوعًا لحالة الوباء، ليس بطولة، يفعل ذلك والخوف يتملكه ويستولي على بقية البشاشة فيه، وذلك مَكمن الجمالية في متابعته للوباء وللخوف المكين في الضعف والتلاشي الإنسانيين في وهاد المجهول. الوباء مجهول يتصدّى للرّغبة الإنسانية وهي تُمارس تفاهاتها وعدم اِكتراثها بنظام الحياة الصارم، إنّ الحياة والطبيعة كلتاهما تُدافع عن نفسها ضد التشوّه الّذي يريد أن يُحدثه الإنسان في نسيجها، وربّما «الاِستنساخ» Clonage وما أُنجز حوله من تخييل، يكشف جانبًا من اِنفلات ما يتصوّره الإنسان قُدْرَةً على التحكم في الطبيعة، فينتج المسخ، «فركنشتاين» أو النعجة «دولي» تلك التي لم نعرف من مصيرها، سوى ما أحدثته من شو إعلامي!!
يُفرّقُ النقاد ودارسوا الأدب بين قصص الديستوبيا Dystopie التي تتناول المستقبل لكن في شكله المُظلم، عكس اليوتبيا Utopie، وهناك أيضا ما طوّره الأدباء فيما سمّيَ ب»أدب نهاية العالم» apocalypse، كلّ هذا نتج عن مخيّلة الأديب حين تصدمه الحياة في تحوّلاتها الطافرة، فيعمد إلى إنتاجية العمل الأدبي الّذي يروم من ورائه سبر أغوار الغموض المُسمّى حياة، فالفيروس المُسبّب للوباء، يُعتبر من عناصر الحياة، لكن تلك الحياة التي اِنبثقت في دوائر الخطر، ومن هذا الخطر تنتج الخيالات المُمكنة والمُستحيلة حول ما يُحيط هذا المجهول، فتُبنى نظريات «الحرب البكتريولوجية» كما حدث مع فيروس HIV المُسبّب لمرض نقص المناعة المكتسبة SIDA، وهو ما تكرّر مع «كوفيد19» أو كورونا فيروس Coronavirus الّذي تفجّرت بؤرته في الصين بولاية يوهان، ناهيك عمَّا أحدثه وباء «إيبولا»، وما أنتج حوله من تخييل، كلّ هذا يجعل مصطلح «أدب الأوبئة» وارد وشرعي.
يمكن الإشارة إلى رواية «الطاعون» لألبير كامو، و»حب في زمن الكوليرا» لغابريال غارسيا ماركيز، ورواية «إيبولا 76» للرّوائي السوداني أمير تاج السر، وهذه الرّوايات كلّها تستثمر في ما يخفيه غموض نشأة هذه الأمراض وكيفيات تطورها وفتكها بالإنسان، تستثمر فيها بعديا شركات السينما العالمية وتُمرّر من خلالها الكثير من المشاريع والأفكار التي تخدم جهات من مصلحتها أنّها تبرز وتُضخّم من سوبرمانيتها، كي تضبط العالم وفق ذكاء مخابرها التي تظهر في العمل الفنّي قادرة على نسف العالم من خلال ضرب نسيج الجسد المُتناسق، وكم هي بليغة ومُؤثرة ومُخيفة صور الجسد مُتحوّلا بفعل قدرة الفيروس اللامرئي على تخريب بنية الخلايا الحيوية، وفي ذلك إحالة إلى القِوى المُدمّرة التي تخفيها دوائر الشر أو قِوى العالم الخفية.
تُمثل الرّواية الفضاء الأوسع لتشكيل المُتخيّل حول الأوبئة، باِعتبار الحدث واللّغة، ويمكن أن نثبت هذه المقدرة الفنية على إعادة تشكيل الحدث من خلال زوايا المغامرة وتثوير منطق الغموض فيه من خلال مثلا، عنوان «حب في زمن الكوليرا» لغابريال غارسيا ماركيز، حيث تتفجّر جمالية الحب في بؤرة خطر الفناء الّذي تُسبّبه «الكوليرا»، فتنبثق إرادة الحياة الغالبة من خلال موضوعة «الحب». أمّا رواية دين كونتز «عيون الظلام»، فلقد أشارت فيما يُشبه النبوءة إلى زمنٍ مُحدّد (2020) ومكانٍ مُعيّن (يوهان)، وهما زمكان ظهور الكورونا، والرواية كُتبتْ عام1981. ولا يمكن أن نغفل الشِّعر، كقصيدة «كوليرا» لنازك الملائكة، وقصيدة علي الجارم عام 1895 وقصيدة «معسكر الكوليرا» للصحفي والشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنج.
يبدو لي أنّ الحديث عن «أدب أوبئة» عربي، يكون قائمًا عندما تتراكم النصوص وتنطلق من هذا التراكم مشيرة إلى ذاتها، لتصل إلى فضاءات الإنتاج السينمائي الّذي يُطوّر ويُكثف من اِنتشارها عن طريق الصورة التي تُعتبر أكثر تأثيرا في الوعي وفي الوجدان، ومنه يصبح الحديث مبرّرا وفق ما يتداوله النقد فنّيًا، سنمائيًا وروائيًا.
* حسن داوود/ روائي وناقد لبناني
أدبنا الحديث انشغل بالأمراض والأوبئة الاِجتماعية والسياسية
ما كنتُ لأعلم أنّ تاريخ المجتمعات العربية القديمة عانت من تفشّي الأوبئة لو لم أقرأ، مؤخرا وبعامل الصدفة، مخطوط كِتاب تناول الطواعين في العصر الأموي. بدا ذلك لي، أنا اِبن الجيل الّذي كان الأدب العربي سبيله الأوّل إلى تحصيل المعرفة، كمثل حقنة غريبة ضُخَّت في العالم الّذي كنتُ أظن أنّي أعرفه.
آنذاك في العصر الأموي كانت الأوبئة تتتالى على ما يَذكر الكتاب، حاصدة عشرات الآلاف من الأرواح في كلّ مرّة.
لم نقرأ ذلك في الشِّعر، أقصد الشِّعر الّذي في مناهج الأدب المدرسية والجامعية وما حولها. ربّما كان علينا ألا نكتفي بالبقاء في حدود الأدب، فنقرأ المقريزي مثلا، الّذي دوّن شيئًا من ذلك في خططه. لكن التأريخ كان فرعًا آخر من المعرفة، لم يضطرنا الأدب إلى أن نبحث فيه. المهم أن لا كلام عن الأوبئة في الشِّعر القديم الّذي قرأناه وحفظنا منه الكثير الكثير. هذا ولا أحسب أنّ أدبنا الحديث تطرّق إلى ذلك. ربّما اِنشغل بضروب أخرى من الأمراض والأوبئة، الاِجتماعية والسياسية، الفاتكة بمجتمعاته. ثمّ أنّ الأوبئة والجائحات بعيدة، سواء في الزمن أو في الجغرافيا. أي أنّها تحصل في أمكنة تفصلنا عنها أزمنة وأمكنة كثيرة.
ولم يتجشّم الخيال الأدبي العربي الحديث عناء التحليق فوق تلك الأصقاع. كان في الغالب موضعيًا وآنيًا مُنشغلا بِمَا يجري في عالمه القريب، أو عالمه الضيّق القليل. أتذكر مثلا كيف أنّنا «مباشَرون» على ما يصف بعض منا. كيف أنّنا نبقى في محليّتنا مكرّرين الأفكار الأدبية ذاتها، تلك التي سبق لغيرنا أن اِبتكرها. أتذكر كيف اِهتدينا من سنوات إلى أنّنا، في أدبنا، صرنا وجوديين بعد وصول الوجودية إلينا؛ واقعيين بعد أن جرى التبشير بالأدب الواقعي؛ وكيف صرنا سحريين بعد أن حقق هذا الضرب من الأدب نجاحات قوية. نحن، لكون ثقافتنا ثقافة ثانية، أو ثانوية، لسنا مطالبين بأن نكون عالميين أو كونيين، فهذه مهمة آخرين سوانا. أقصد أنّنا لسنا مطالَبين بأن نُوسع رقعة مساحة العالم. ما يمكننا فعله هو أن نأخذ موضوعات العالم كما سبق أن تعيّنت وتحدّدت.
أن نكتب أدبًا عن الوباء يعني ألا نكتفي بأن نصفه أو نُؤرخ له أو أن نفّصل أهواله. أتذكر هنا رواية توماس مان «موت في البندقية» التي نقلها فيسكونتي بعملٍ مبدع إلى السينما، هل هي رواية عن الوباء أم عن الزمن العادي لكن المتقلّب المتغيّر. ذلك الوباء الحاضر بكلّ ثقله في الرواية بدا أقرب إلى خلفية مسمومة لحياة ذلك الموسيقي المهزوم والمتسائل عن تلك الرغبة التي أطبقت على وجوده. موت في البندقية ذهبت إلى أبعد من الطاعون، رغم هوله. أو هي أدلته في النسيج المتداخل لأزمة بطلها.
كما لا أحسب أنّ رواية ألبير كامو قد توقّفت عند الطاعون. لقد مرت سنوات بل عقود على قراءتي لها، أما أكثر ما أذكره منها فشخصية مسيو جوردان الّذي، فيما هو يسعى إلى مكافحة الزمن الوبائي بالكتابة، لم يتمكن من إنجاز إلاّ جملة اِفتتاحية واحدة، ظلّ يقلّبها على مدار زمن الرواية. ليس جوردان، كما غيره من شخصيات الرواية، مجرّد شخصيات وُضعت في مجهر الوباء، بل تكاد تكون معاناتها أوسع من فضائه. فهي لم تستخدم لأجله (لأجل أن تُعرّف أو تعيّن أم حتّى تستفيض بإظهار سطوته على ضحاياه).
* لونيس بن علي/ كاتب وناقد أدبي
روايات قليلة تناولت الأوبئة كتمثيل رمزي لمشكلات سياسية ودينية
ينبغي أن نعترف أنّ الرواية في الجزائر لم تعطِ قيمةً للمشاكل البيئية، فقد هيمنت فيها الموضوعات النفسية والاِجتماعية والسياسية والأخلاقية والتاريخية التي تُشكّل حقيقة هواجس الكُتّاب، في حين أهملت أسئلة البيئة ومخاطر التلوث والأوبئة الناجمة عنها. فالطبيعة تظهر فقط كديكور رومانسي في غالب الأحيان.
من هنا، فإنّ هذا التوجّه في إقصاء البيئة من اِهتمامات الأدب خلق قارئاً مُفرغًا من هذه الهموم، بل أنّ هذا النوع من الأدب، حتّى لو أنّه وُجِد، فلن يَلقى الاِهتمام الّذي يستحقه؛ فالقارئ عندنا مازال مُرتبطا بقصص الحب، أو بالأدب السياسي أو الاِجتماعي الّذي ينتقد المجتمع أو السلطة السياسية.
يُمكن أن نُفسّر هذا العزوف بنقص الثقافة البيئية عند الجزائريين، فالبيئة لا تشكّل هاجسًا ثقافيًا ولا أخلاقيًا ولا علميًا إلاّ عند أهل الاِختصاص فقط.
أضف إلى ذلك، أنّ الأدب الّذي يكتب عن مخاطر البيئة والأوبئة ليس أدبًا مُعتمدا مؤسساتيًا، بل يُدرج في أدب الدرجة الثانية، الّذي ينتمي أصلا إلى أدب الخيال العلمي وأدب الديسوتوبيا وأدب الكوارث. في حين يُحظى بمقروئية مُهمة في الغرب، وربّما يَعد ذلك أيضا إلى دور السينما التي نقلت العديد من هذه الروايات إلى الشاشة الفضية.
في الجزائر، لم نُؤسس بعد لهذا النوع من الأدب، على الرغم من أنّه ينطلق من الواقع البيئي الّذي أصبح مُهددا بسبب التلوث والمُمارسات اللا إنسانية الأنانية، خاصة وأنّ الطبيعة طرأت عليها تحولات خطيرة تجلت في الكوارث الطبيعية التي اِزدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة.
لقد غرق أدبنا في أسئلته الوجودية والنفسية وفي نقد السياسة والمجتمع، لكنّه ظل بعيدا عن طرح أسئلة البيئة، وفي نظري أنّ هذا راجع إلى طبيعة التربية التي يتلقاها الجزائري، فهو يأخذ المعارف عن المجتمع وعن التاريخ وعن تضاريس الجنة والجحيم في حين يظل وعيه بالبيئة محصورا في معلومات عامة فقط. في السنوات الأخيرة ظهرت بعض الروايات القليلة التي تجرأت واقتحمت مجال هذا النوع من الكتابة الأدبية، وأنا شخصيًا اِطلعت على روايتين، وهما: رواية «هالوسين» لإسماعيل مهنانة (منشورات الجزائر تقرأ 2018)، ورواية «الآدميون لإبراهيم سعدي» (منشورات ضفاف والاِختلاف 2018).
وقد لاحظتُ عند قراءتي للعملين أنّ الوباء لا يظهر فيهما إلاّ كرمز للتعبير عن خطرٍ من نوعٍ آخر، بمعنى أنّ الاِشتغال على فكرة الوباء لم تكن ضمن نسق التعريف بمخاطره والتحذير منه أو تخيل التأثيرات المُمكنة له على صعيد الأفراد والمجتمع.
ففي رواية مهنانة تخيل وباءً خطيرا أصاب منطقة شمال إفريقيا، لكنّه وباء من طبيعة غير طبيعية يضرب الجهاز الفكري عند الإنسان، فيحوّله إلى أصولي مُتعصّب يرغب في الاِنتحار والموت. وسيكشف لنا الروائي خصوصية هذا الوباء، الّذي يتنقّل من خلال الكلام، وينتشر أكثر في البيئة المتدينة.
أمّا في رواية (الآدمييون) لإبراهيم سعدي، فيتخيل الروائي مدينة ديسوتوبية بعد أن أُصيبت منذ قرون بوباء خطير ينتقل هو الآخر من خلال الكلام، ما دفع بالناجين إلى اِلتزام الصمت لسبع سنوات.
غير أنّنا نلاحظ بأنّ الروايتين لم تتطرقا إلى الوباء كخطر بيولوجي، بل قدمتاه كتمثيل رمزي لمشكلات سياسية ودينية كنقدٍ للمجتمع.
* بوداود عميّر/كاتب ومترجم
لا يوجد في ثقافتنا العربية أدب أوبئة أو كوارث بعكس الغرب
شهد العالم على مر التاريخ، العديد من الكوارث التي كبدت البشرية خسائر مادية وبشرية كبيرة، تتفاوت في الحجم والخطورة والتأثير والتأثر؛ فليس غريبًا أن يُواكب الأدب الحدث، يُسجل اللحظة ويُوثقها في عنفوانها ومأساويتها وتداعياتها. وأمام تراكم النصوص التي اِتخذت من خلال مُختلف الأجناس الأدبية وجهتها، نشأ في خضم ذلك، ما صار يُطلق عليه في الغرب بأدب الكوارث، والّذي يشمل الزلازل والبراكين وسقوط الطائرات وغرق السُفن... وحتى وإن كان الوباء يدخل ضمن هذا الإطار، لكنّه ينفرد بخصوصيته «الكارثية» في سرعة الاِنتشار والعدوى وتعداد الضحايا، من هنا يبدو تأثيره على فِكر ووجدان الناس، أكثر حِدة ومأساوية ورسوخًا في الذاكرة الإنسانية.
هكذا وبعد تفشي وباء كورونا المُستجد، واِنتشاره السريع؛ أخذ العالم، فجأة يُولي اِهتمامه لهذا النوع من الأدب، في محاولة إدراك ما يدور حول العالم الآن، في فهم ظاهرة جديدة، لم يدرك كُنهها، لم يعشها أو يعرفها عن قرب كجيلٍ أو أجيال، كان يتصور واثقا من نفسه، أنّ الوباء اِنتهى إلى غير رجعة، وأنّه تمَّ القضاء عليه نهائيًا، بفضل ما وصل إليه الطب من اِنجازات في العالم، وهو لا يُنكر، وكذلك بفضل تحسن الوضع الاِجتماعي في العصور الحديثة بالمقارنة مع العصور الغابرة، فقد اِرتبط في ذاكرته العلاقة بين البؤس والوباء، كعلاقة جدلية.
رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، اِحتلت صدارة الاِهتمام، نظرا لمقاربتها الأدبية والفلسفية للوباء المُستجد، من خلال وباءٍ آخر حدث منذ قرن، وخلفَ الكثير من الخسائر في الأرواح. الرواية ومنذ تاريخ صدورها سنة 1947، لم يتوقف طبعها وترجمتها، إلى لغات العالم، بحيث أصبحت تحتل المرتبة الثالثة في مبيعات دار «غاليمار» الشهيرة، بعد كلّ من روايتي «الأمير الصغير»، لاكزوبيري و»الغريب» لألبير كامو. أحداث الرواية تجري في مدينة وهران، عن الوباء الّذي اِجتاحها على حين غرة، وتصرفات سكانها، من حالة الاِستخفاف والاِستهتار إلى حالة الإذعان والرضوخ للأمر الواقع.
فالطاعون الّذي أصاب مدينة وهران، صنع مقاومة داخلية للوباء، وغيَّر الكثير من طباع سكانها. ورغم أنّ الرواية تنتهي ببعض الأمل في إيجاد العلاج الّذي ينقذ الناس، من خلال بطل الرواية الطبيب ريو؛ لكن الفقرة الأخيرة من الرواية تُجدد اللقاء مع الوباء، ذات قادم، مادام الاِستهتار قائمًا: «هذا الوباء لا يموت ولا يختفي، وإنّه يستطيع أن يظل عشرات السنوات نائمًا في الأثاث والملبس، وأنّه يترقب بصبر في الغُرف والأقبية والمحافظ والمناديل، والأوراق التي لا حاجة لها، وأنّ يومًا قد يأتي يُوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبةً للناس وتعليمًا لهم، ويرسلها تموت في مدينة سعيدة». رواية «العمى» للكاتب البرتغالي جوزيه سارماغو، الصادرة سنة 1995، نالت نصيبها الوافر من الاِهتمام هي كذلك، الرواية تتحدث عن وباءٍ خطير اِجتاح العالم يُصيبُ ضحاياه بالعمى، إنّ العمى كما تقول الرواية «هو أيضا أن يعيش المرء في عالمٍ تبددت فيه الآمال كلها».
هكذا الأدب يُؤثر ويتأثر، حدث ذلك في كثير من المناسبات؛ العام الماضي، وبعد حريق كاتدرائية نوتردام التاريخية، وسط العاصمة الفرنسية باريس، تصدرت رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، قائمة المبيعات. وإذا كان الغرب قد نجح في التمكين لهذا النوع من الأدب، الحاضر عبر أجناس أدبية مُختلفة، ومن خلال التراكم الّذي صنع منه نوعًا أدبيًا قائمًا بذاته؛ لكنّه في الثقافة العربية، يبدو الأمر مُختلفًا، قد يعود ذلك ربّما إلى اِعتمادها عمومًا على الشِّعر في التوثيق الإبداعي، والّذي لا يمكنه أن يستوعب الكوارث بجميع أبعادها الإنسانية، بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرح والرواية خاصة، والتي عرفتها الثقافة العربية متأخرة.
* وليد سليمان/كاتب ومترجم تونسي
الكُتب العربية التي تناولت الأوبئة يغلب عليها الطابع التوثيقي والتأريخي
ما إن اِنتشر وباء «الكورونا» الّذي سرعان ما تحوّل إلى جائحة عالمية في ظرف أسابيع قليلة حتّى تركّز اِهتمام القُراء ومحبي الأدب على الأعمال الأدبية التي تتناول موضوع الأوبئة بكلّ تفرعاتها مثل الطاعون والكوليرا... وهو ما جعل عديد الأعمال الأدبية التي لها علاقة بهذا الموضوع تعود إلى واجهة المكتبات. والحقيقة أنّ القائمة طويلة نسبيًا ويمكن أن نذكر منها: «الديكاميرون» لبوكاتشيو، و"يوميات سنة الطاعون» لدانييل ليفو، و"الموت في البندقية" لتوماس مان، و"العمى" لجوزيه ساراماغو، و"طاعون وكوليرا" للروائي الفرنسي باتريك دوفيل، و"الحب في زمن الكوليرا"لماركيز، و"الطاعون" لألبير كامو التي أعلنت دار غاليمار للنشر أنّها توجد على رأس قائمة كُتبها الأكثر مبيعًا منذ عقود. وكلّ هذا يقودنا إلى التساؤل عمَّا إذا كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه «أدب الوباء» أو «أدب الأوبئة»، أو بعبارة أخرى: هل هناك تيّار أدبي منظّم ومعترف به يتناول هذه التيمة مثلما هناك "أدب الحرب" و"أدب البحر" وغيرها من الموضوعات؟
أوّل ملاحظة يمكن أن نسوقها هي أنّ الأدباء الذين كتبوا أعمالا تتناول هذا الموضوع لم يعلنوا بشكلٍ صريح أنّ ما كتبوه ينتمي إلى تقليد أدبي له علاقة بالوباء، وبالتالي تنتفي مقولة أنّ هناك تيّار أدبي يُسمى «أدب الأوبئة»، فكامو مثلا عندما كتب رواية «الطاعون» كان ما يشغله بالأساس هو الكتابة ضمن التيّار الوجودي، وكان الطاعون مُجرّد تعلّة أو خلفية تُساعده على تقديم أفكاره بشكلٍ فنيّ وجماليّ.
والملاحظة الثانية هي أنّ الأعمال الأدبية التي تتحدّث عن الأوبئة تفصل بينها مسافة زمنية وجغرافية كبيرة. فبين «الديكاميرون» الّذي كُتب في القرن الرابع عشر و"يوميات سنة الطاعون" الّذي كُتب في القرن الثامن عشر و"الطاعون" و"الحب في زمن الكوليرا" اللذين كُتبا في القرن العشرين و"وباء وطاعون" الّذي كُتب في القرن الواحد والعشرين هناك قرونٌ تفصل بين صدورها، كما أنّ كُتابها ينتمون إلى بلدان وحضارات مُختلفة.
وثالث ملاحظة هي أنّ الأعمال التي ذكرناها سابقًا وغيرها يختلف فيها زمن السرد تمامًا، فنجد أعمالا تروي الحكاية في الزمن الماضي، وأخرى ترويها في الزمن الحاضر، في حين أنّ بعض الأعمال تتحدّث عن المستقبل مثل رواية «عيون الظلام» للروائي الأمريكي دين كونيتز الصادرة سنة 1981، والتي أحدثت ضجة كبيرة مُؤخرا باِعتبار أنّها تتحدث عن وباء اِسمه «ووهان– 400» ينتشر سنة 2020، بمعنى أنّ كلّ الأعمال الأدبية التي تتحدث عن الأوبئة تنتمي بالضرورة إلى تيار أدبي أو جنس أدبي فرعي لا علاقة له بالتيمة المذكورة كالوجودية والواقعية السحرية والخيال العلمي...
وهنا أتساءل عمَّا كتبه العرب في هذا الموضوع. وأوّل ما يقفز إلى ذهني هو كِتاب «الأيّام» لطه حسين الّذي نجد فيه صفحات رائعة تتحدث عن اِنتشار وباء الكوليرا في مصر، وكذلك كِتاب «إتحاف أهل الزمان» للمؤرخ التونسي أحمد اِبن أبي ضياف (1802-1874) الّذي كان شاهدا على اِنتشار الكوليرا في تونس سنة 1849 التي تسببت في وفاة آلاف الأشخاص، دون أن ننسى «المقدمة» الشهيرة لاِبن خلدون والتي قدّم فيها وصفًا دقيقًا لاِنتشار الطاعون في عصره وهو الّذي فقد والديه بسبب هذا الوباء الرهيب. كما يمكن أن نذكر رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ الصادرة سنة1971 والتي قدّم فيها وصفًا وافيًا لاِنتشار الوباء في حارات مصر وفتكه بأهلها غير مفرّق بين الفقراء والأغنياء.
من خلال الأمثلة السابقة نُلاحظ أنّ الكُتب العربية التي تناولت الأوبئة يغلب عليها الطابع التوثيقي والتأريخي، أمّا الأعمال الروائية فهي قليلة جدا على عكس ما نجده في الأدب الغربي. فهل أنّ ذلك من باب الصدفة أم أنّ هناك عزوفٌ لدى الروائيين والقصاصين العرب عن تناول هذه التيمة؟
ختامًا وما دمنا بصدد الحديث عن الأدب العربي، أجد أنّه من اللافت أنّ أحد أجمل وأروع ما كُتب في اللّغة العربية، وأقصد بذلك «كِتاب ألف ليلة وليلة»، لا نجد فيه أثرا للأوبئة التي لم يَسلم منها أي عصر أو منطقة جغرافية، وهو أمرٌ غريب لا أجد له تفسيرا. فهل معنى ذلك أنّ من ألّف هذا الكِتاب لم يُعاصر أي وباء؟ أم أنّه تجنّب موضوع الأوبئة عمدا؟
* محمّد معتصم/ناقد أدبي مغربي
الأدب العربي مثله مثل الآداب العالمية شغلت حيزه بعض الكوارث والأوبئة
ما من شك في أنّ الأدب العربي، كما هي الحال في الآداب العالمية، قد تعرض للحظات الضعف الإنساني وما تعرضت له البلاد من أوبئة وكوارث طبيعية: الزلازل والبراكين والفيضانات والمجاعات.. وكوارث بشرية كالحروب والهجرات الجماعية... لِمَا لذلك من تأثيرٍ كبير في تغيير أحوال الأمم والشعوب والأفراد، ولِمَا تخلفه تلك الحوادث من آثار نفسية واِجتماعية على الوعي والفكر.
ولعلّ أكثر الكوارث البشرية التي شغلت حيزًا كبيراً في الآداب العالمية المعاصرة «الحرب العالمية الأولى والثانية»، وما خلفتاه من آثار وتبعات على الشعوب المستعمِرة والمستعمرة، وفي عالمنا العربي، وفي الأدب المعاصر، نجد أيضا مساحة كبيرة لمثل هذه الاِختلالات الطبيعية والبشرية التي غيرت البيئة الديموغرافية والمجال الجغرافي، وكان لها تأثيرها الكبير على الوعي الاِجتماعي والفكري والسياسي كذلك القضية الفلسطينية والحرب اللبنانية وكذلك الاِجتياح العراقي للكويت والتدخل الأجنبي وبداية الاِنهيار للأنظمة وما ترتب عنها من تشريد وأوبئة وضحايا مواد كيميائية محظورة دوليًا وتشوهات خِلقية واِنتشار أنواع مختلفة من السرطانات والمجاعات والحبل على الجرار، تشريد السوريين في العالم وتفريقهم على الدول والقارات.
وقد ظهر في متون القصص والروايات العربية حالات الأعطاب الجسدية لشخصيات قصصية وروائية وأهم من قرأت لهم في هذا المجال الكاتبة القاصة والروائية العراقية هدية حسين التي وصفت في عدد من رواياتها الآثار الرهيبة للحرب على نفسية الأطفال العراقيين وقدرتها على إبراز حالات نفسية واضطرابات نفسية صاحبت شخصياتها وكأنّها وباء باطني غير مُعلن تفشى في شرائح واسعة من المواطنين، وقد كتبت فوزية شويش السالم رواية رائعة، بل ملحمة حول الاِجتياح العراقي لبلدها ووصفت الكارثة كما تجلت في مرآة المواطن في نفسيته ووعيه، وكتب اللبناني حليم بركات عن بعض هذه الحالات قي سيرته الذاتية «المدينة الملونة»، وقبله كتب حنا مينه في سيرته الروائية «بقايا صور» عن الهواء الأصفر، الكوليرا، والمجاعة، وقبلهما كَتب جبران خليل جبران عن الأمراض والأوبئة التي كانت تفتك بالشعوب العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومثله كتبَ محمّد شكري في سيرته الذاتية «الخبز الحافي» عن مثل تلك الأمراض والأوبئة وخاصة المجاعة التي اِجتاحت المغرب في منتصف القرن العشرين، عَقِب الحرب العالمية الثانية.
لقد تناول الأدب العربي خاصة السيرة الذاتية أو السيرة الروائية وأشكال مُختلفة ومتنوعة من كتابة الذات، والسرد الذاتي من منظورٍ مزدوج، أدبي وتاريخي مراحل سوداء مرت بها البلاد العربية، في ظل التخلف الّذي فرضه الاِستعمار وضُعف البنيات التحتية، واِنتشار الأميّة والجهل بين فئاتٍ واسعة من أفراد المجتمع، ومن أشهر الكُتب التي اِرتبطت بأوبئةٍ فتكت بأعداد هائلة بالبشر: «الطاعون» لألبير كامو، و»الحب في زمن الكوليرا» لغارسيا ماركيز، و»إيبولا 76» لأمير تاج السر. أمّا طه حسين في «الأيّام» فقد أورد عَدداً من الأمراض التي كانت تنتشر في الناس وأهمها، وباء الكوليرا الّذي حصد أرواحًا كثيرة. وهذا ما يعني أنّ الأدب العربي مثله مثل الآداب العالمية شغلت حيزه بعض الكوارث والأوبئة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.