بسم الله الرحمن الرحيم: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" آل عمران: 169. زرت اليوم صباحا (2020.07.04)، ككل أبناء وطني، قصر الثقافة الذي يحمل إسم شاعر الثورة : مفدي زكريا واضع كلمات النشيد كلمات الوطني ( قسما). ووقفت برهبة وخشوع أمام توابيت ما بقي من رفاة 24 بطلا من قادة المقاومة الشعبية الجزائرية الأوائل، الذين قدموا أرواحهم الطاهرة سخية في ميدان الشرف، قبل أزيد من قرن ونصف، لصد زحف المستدمر، فقدموا أرواحهم من أجل أن تحيا الجزائر بإسلامها وعروبتها وأمازيغيتها وتاريخها ووحدتها الترابية. ولتوريث شرف المقاومة للأجيال ليرفضوا المحتل ويحافظوا على كل ذرة من ذرات تراب الجزائر ورمالها وملحها وصلصالها وحصاها.. وليعلموا أن أجدادهم قالوا: "لا للاستعمار" الفكرة والعنصر والجنس والجيش واللغة والتاريخ والدين والحضارة.. لما كنت واقفا بإجلال أمام التوابيت التي عادت ببعض لحمنا ودمنا وروحنا من متاحف استدمار الأمس، أترحم على أسود هذا الوطن الصامد وأقرأ فاتحة الكتاب، تداعى إلى ذاكرتي تاريخ المقاومة المشرق المصبوغ بنجيع من قطعت رؤوسهم بأيدي جلاوزة دنسوا أرضنا ب"أقدامهم السوداء" فاندعت في وجوههم مقاومة شعبية عارمة رافضة لمن غزا أرضهم من وراء البحار ليجعلها "عمقا استراتيجيا" لأحلامه التوسعية بإخضاع الهلال للصليب واستعمار إفريقيا من بوابة الجزائر (الجزائر احتلت قبل اتفاقية "سايكس/ بيكو" ب 87 سنة) فوجد في هذه الأرض مقاومة شرسة ألجأته إلى استخدام أبشع أشكال الوحشية والإبادة لإرهاب الأهالي، والعمل على اجتثاث المقاومة من جذورها، كان من أحقر صور الترويع: فظاعة فصل رؤوس قادة المقاومة عن أجسادهم والتباهي بإرسالها إلى باريس لطمأنة الرأي العام الفرنسي بأن الوضع تحت السيطرة، وأن عساكرهم قد وأدوا المقاومة الشعبية في مهدها. وهذه رؤوس "المتمردين" على من حملوا رسالة "التمدن الغربي" إلى شمال إفريقيا..!! ويا لفظاعة ما صنعوا بمن قالوا لهم: لا نريد التجنيس. * ولا نريد أن نكون فرنسيس. بعد مرور 170سنة على هذه المجازر الشنيعة المروعة في حق شعب أعزل، لم يكن يملك من وسائل الدفاع عن النفس سوى إيمانه بأن الجزائر أمانة الأجداد في أعناق الأحفاد، وبعد نجاح القيادة السياسة في افتكاك "اعتراف معنوي" واسترجاع جزء من تاريخنا وذاكرتنا وفخرنا ومجد أمتنا وعزها.. بانتظار استكمال كل ما تم اغتصابه وما تم التكتم عليه. بانتظار تحقيق هذا الحلم التاريخي الكبير، علينا أن نفخر اليوم بهذا الإنجاز العظيم الذي انتظرناه أزيد من نصف قرن في الذكرى 58 لاسترجاع السيادة الوطنية (في ذكرى الاحتفلات المخلدة لعيدي الإستقلال والشباب). يمكن أن نستخلص من هذا الإنجاز خمسة دروس عميقة لتكون عبرة لنا جميعا، ودروسا تعيها الأجيال القادمة ويحفظها هذا الجيل ويجعلها معالم على طريق استكمال التحرر الوطني الكامل "وبناء الدولة الديمقراطية الإجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية" كما نص عليه بيان أول من نوفمبر 54. 1- عودة 24 رفات من متاحف استعمار الأمس إلى أرض الشهداء ، بعد حبس دام أزيد من قرن ونصف القرن، هي 24 شهادة مادية تدين بشاعة الإستعمار، وتجرم من ارتكب هذه المجازرفي حق هذه الأمة. 2- معرفة الرأي العام الوطني بحقيقة ما جرى خلال 132 سنة يعيد النقاش إلى الواجهة حول عار الإستعمار في هذا الوطن. ويلقم حجرا ثقيلا في أفواه الذين ما يزالون يحلمون بعودة السفاحين إلى أرض الأحرار. 3- ما رافق استقبال رفات الشهداء يوجب على الأحرار في فرنسا أن ينتفضوا ضد "تاريخهم الأسود"، ويعتذروا للشعب الحزائري عامة ولأسر ضحايا الكفاح خاصة، عما ارتكبه آباؤهم وأجدادهم من مجازر في حق الإنسانية، وأن يتجاوزوا عقدة "الأبناء لا يعتذرون عن أخطاء الآباء". فهذا حق تاريخي لا يموت بالتقادم. 4- كنا نطالب فرنسا الرسمية بثلاث: الاعتراف بالماضي. والاعتذار عن الجرائم ضد الإنسانية. والتعويض العادل لأسر الضحايا، ووصول 24 نموذجا من رفات الآلاف من الضحايا يحمل رمزية اعتراف ضمني بهذا الحق التاريخي. ومن حق الأجيال أن تسمع اعترافا تاريخيا صريحا يتلوه اعتذار وتعويض. لتطوى هذه الصفحة وتبدأ صفحة جديدة على مبدأ المعاملة بالمثل. 5- بعد استرجاع جزء من ذاكرتنا التاريخية صار واجبا على فرنسا الرسمية أن تعتذر عما بدر من "فرنسا التاريخية". فنحن في القرن 21 والجزائر تقترب من الذكرى 60 لاسترجاع السيادة الوطنية، فلتكن سنة 2022 سنة تصفية ما بقي عالقا من " مخلفات الإستعمار". ولتكن البداية من فرنسا الرسمية. في انتظار هذه الخطوة المحتملة ، نجدد سابغ الترحم على أبطال المقاومة الشعبية وعلى شهداء الوطن جميعا، ونعتذر لهم جميعا، ولاسيما من حرموا من حقهم في أن ان يدفنوا في تراب وطنهم. بعتذر بأننا تأخر 58 سنة عن موعد إعادتهم إلى الأرض التي حرروها بدمائهم الطاهرة الزكية، ليناموا مطمئنين في ثراها، وتعرف الأجيال قبورهم وتقرأ على شواهدها تاريخهم ومآثرهم .. عذرا يا أيها الأبطال فقد تأخرنا كثيرا ولم ننسكم، وها أنتم اليوم عأئدون بشموخ وفخر وإباء، عذرا فالعيب ليس منا، ولكن أذناب الإستعمار حاولوا – وما زالوا يحاولون – طمس آثار جرائمهم خشية افتضاح أمرهم إذا فتحت سجلات الماضي وعاد الشهداء من منفاهم، وتحدث التاريخ عن الذين باعوا ضمائرهم لمن جاء يستعمر أرضهم وينتهك عرضهم. الفخر للشعب. والمجد للوطن. والخلود للشهداء. تحيا الجزائر. الجزائر في: 2020.07.04