عبد العالي رزاقي القاعدة الذهبية للديمقراطية هي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع كلما اقتضى الأمر ذلك، أو كلما وقع تجاوز للقانون، فالشعب هو الذي يملك حق تفويض هذا الطرف أو ذاك للحديث باسمه. ومن يرفض العودة إلى الشعب فهو لا يمثل إلا نفسه، ومن حق أية جهة الطعن في شرعيته، والسمة المشتركة بين »التيار الإسلامي« في بعض الأقطار العربية والتيار اللائكي في الجزائر، هي رفض العودة إلى الاستحقاقات الشعبية. رئيس يجدد الثقة فيه! الاعتقاد السائد عندي أن التجربة الجزائرية في المنافسة على منصب الرئيس لم ترق إلى مستوى التجربة الموريتانية، ولكنها ذات شأن هام، فبوتفليقة حين أدرك أن المنافسين له في العهدة الأولى طعنوا في النتائج، بعد انسحابهم من السباق، جدد الثقة فيه باللجوء إلى الاستفتاء على مسعاه في الوئام المدني، وعندما حاول البعض التشكيك في النسبة التي حصل عليها في العهدة الثانية، عاد مرة أخرى إلى الاستفتاء على مشروعه »من أجل السلم والمصالحة الوطنية«. وهذا التوجه إلى الشعب لانتزاع الثقة منه هي سمة من سمات الديقراطية، وربما هو الذي يدفعه اليوم إلى إجراء استفتاء على تعديل الدستور، بعد أن قاطع الشعب الأحزاب التي دخلت ببرنامجه تشيريعيات 17 ماي الماضي. وبالمقابل، فإن من فازوا بتشريعيات 26 ديسمبر 1991 ما يزالون حتى الآن يتحدثون باسم الشعب، وبأنهم يمثلونه، وخاصة في المحافل الدولية، بل إنهم كانوا يتبنّون »الأعمال الإجرامية«، ويدفعون بالمتعاطفين معهم إلى إصدار فتوى القتل، لسبب وحيد هو أن اللائكيين الجزائريين أوقفوا المسار الانتخابي، وتم تعيينهم في المجلس الاستشاري في عهد رضا مالك، والمجلس الانتقالي في عهد اليامين زروال. والمفارقة أن كل من تم تعيينه في المرحلتين أو من أطيح بهم في انقلاب 11 جانفي 1992، كانوا يتمسكون بأنهم ممثلو الشعب، ولم يتبلور هذا الصراع بين الطرفين خلال عشرية الجرائم وأمراء الحرب في الشارع الجزائري، لأنه كان يدفع ثمن صمته إزاء ما يحدث. وظاهرة التمسك بشعار »الشرعية الشعبية« صارت »موضة« بعض الحركات الإسلامية، بعد أن صار الرؤساء يطالبون بالعودة إلى صندوق الاقتراع. ففي فلسطينالمحتلة ترفض حركة حماس إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مسبقة، وحتى النواب من حركتي فتح وحماس الذين ألقت السلطات المحتلة عليهم القبض وزجّت بهم في السجون صاروا يتحدثون عن »الشرعية«، وهي أغرب ظاهرة في العالم، وهي أن يقبل رجال المقاومة الدخول في »لعبة سياسية« في سلطة لا وجود لها، ويتحدث عن تمثيله للشعب. والجهات التي ترفض دعوة محمود عباس إلى العودة لصناديق الاقتراع وتعمل على إفشال الانتخابات الرئاسية والتشريعية هي جهات لا تؤمن بالديمقراطية. ولو كانت حماس التي كانت نموذجا للمقاومة الإسلامية، ما تزال تحمل مشروعها الوطني التحرري، لما فكرت في رفض الانتخابات، لكن المشكلة هي أن بعض الأحزاب الإسلامية تستخدم »الأصوات الشعبية« للوصول إلى السلطة ثم تتنازل عنها وترفض العودة إليها. ما الذي يخيف حماس من أن تترشح للرئاسيات والتشريعيات وتضع العالم أمام الأمر الواقع؟ المؤكد أن جرائم التي وقعت خلال المواجهة بين فتح وحماس ستبقى وصمة عار في جبين الفريقين بعد أن تخليا عن مشروعهما التحرري. والمؤسف أن تقبل حركة إسلامية سلطة لا تعترف بها الأطراف العربية والدولية، وتتخلى عن سلاح المقاومة تحت ذريعة »الشرعية«. ولا يشك أحد في الحصار المضروب على حكومة حماس، ولكن الشك هو في رفضها الاستقالة والعودة إلى وضعها الطبيعي وهو حمل السلاح ضد العدو، وليس من أجل إفشال انتخابات لسلطة موجودة في ذهن من لا يحارب فقط. وأزعم أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي تجنّت على فلسطين لأنها اعتبرتها »أرض وقف إسلامي«، وليست دولة محتلة وعلى المسلمين دعم حركات التحرير داخلها. ففي بيان لحماس يحمل رقم 80 بتاريخ 28 / 10 / 1991 تقول: »إن أرض فلسطين بقدسها وأقصاها، ومن بحرها إلى نهرها، أرض وقف إسلامي لا تملك أية جهة التنازل عن ذرة من ترابها«. وما دامت فلسطينالمحتلة في نظر حركة حماس »أرض وقف إسلامي«، على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة تحريرها وأن الانتماء السياسي هو لحركة »الإخوان المسلمين« ذات الأصل المصري، وهي تحمل شعار »الله غايتها والرسول قدوتها والقرآن دستورها والجهاد سبيلها والموت في سبيل أسمى أمانيها«، فإنه من الطبيعي أن تستبعد »العودة الشعب«، وأن تتمسك بمشروع »إقامة دولة الإسلام«. لا أحد ينكر ما قدمته حماس من قوافل الشهداء، ولا أحد يستطيع أن يلغي وجودها في الشارع الفلسطيني وفي الذاكرة الشعبية، ولكن ما نخشاه أن تصبح مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ »مجرد صورة« لمرحلة مظلمة في تاريخ الجزائر. صحيح أن التجربتين مختلفتين، فالإنقاذ لم يسمح لها بتشكيل حكومة أو إتمام الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، في حين أن حماس أخذت المجلس التشريعي والحكومة، ولكن التآمر عليها أوقعها في أخطاء »تبني العنف« ورفض العودة إلى الشعب. مهما كانت المبررات فمجرد رفض الدخول في انتخابات رئاسية وتشريعية هو منطلق غير مقبول سياسيا. فالذي يعتقد أنه ما في »الجبة غير الله والشعب« لا يستطيع تحرير حتى نفسه من »سلطة وهمية« جاءت لإعطاء شرعية للوجود الصهيوني في فلسطين. إسلام "المتسكعين" و"الترابنديست" قبل الصالون الأول للكتاب عام 1984، كان الكتاب الإسلامي مفقودا وكان الفضل في نشر الفكر الإسلامي يعود إلى المرحوم مولود نايت بلقاسم الذي اجتهد في إقامة ملتقيات الفكر الإسلامي، ومع ذلك كانت الحركة الإسلامية محتشمة في عهده، أو طريقة المرحوم عبد اللطيف سلطاني، في كتابه »مهام الإسلام«، حيث نزع عن شهدائنا صفة الشهادة من أجل الوطن، معتبرا الشهادة من أجل الله فقط أو الإسلام. وهذا المنطلق كاد أن يسود في فترة معينة لكن تراجع لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، وظهر منطلق جديد في الشارع الجزائري، تزامن مع التعددية وهو »ما بعدي الطوفان«، فالأعراس تقام في الشوارع الكبرى لقرانا ومدننا، وفي الأحياء الشعبية، وليس هناك احترام للجيران، والطرقات تغلق أثناء الأعراس والجنازات وليس هناك احترام للجيران أو السكان. وانتقل مظهر الاعتداء على حقوق الآخر في الأفراح والأحزان ليصبح تجارة، فظهر »شباب ألفين« وهم حراس الأرصفة، وحراس مواقف السيارات، صارت السيارة تتوقف فوق الرصيف والمواطن يمشي في الشارع، صارت الفوضي هي العنصر المشترك في أحياء وشوارع العاصمة وصار الباعة المتجولون يمنعون السيارات من الدخول إلى الأحياء وتكثر هذه المظاهر خلال شهر رمضان، وعندما تسأل أحدا ما علاقة »هذا السلوك بالإسلام« يقول لك »إنه صائم« لأن الصوم مظهر إسلامي. ولا يستطيع أحد أن يجبر مدمني الخمور والمخدرات على توقيف نشاطهم إلا شهر رمضان، فرمضان يمنع المحرمات ولكنه يفتح أبوابا للعنف. وبالمقابل، كانت التيارات الإسلامية تتعامل في المساجد وتغلق الشوارع معطلة حركة المرور، للصلاة يوم الجمعة، صار كل من يصلي يحمل معه سجادته، لأن عملية الصلاة تتم خارج المسجد أو لأن البعض لا يطيق رائحة السجاد الموجود في بعض المساجد بسبب عدم الصيانة والنظافة. لكن المصلي الذي يخاف على حذائه من السرقة في المسجد ويضعه في كيس من البلاستيك ويدخله إلى المسجد لا يختلف في تفكيره عن »الترابنديست« الذي يستغل النساء والأطفال في استيراد السلعة من الخارج. القضية باختصار، أن الشارع الجزائري الإسلامي وغير الإسلامي يؤكد حقيقة واحدة وهي غياب الوعي الديني، فلو كانت المدرسة تدرس فيها التربية الإسلامية والمسجد يقوم بدوره في دعوة الناس إلى احترام حقوق الآخر، لما تشكلت لدينا هذه الظواهر. لكن »العصا« كما قال أحد سكان باب الوادي عام 1976 »معوجة من فوق«، فالسلطة صباح مساء تمر أمام حاجز أمني في طريق سريع (تيبازة - الجزائر)، وهو لا يحدث إلا في الجزائر. والسلطة التي تفكر في سنًّ قوانين لتحجيم الأحزاب وليس لتمكينها من اكتساب الخبرة والتجربة السياسية، هي سلطة غير معنية بتحسين وضعية المواطنين. هل سمعتم في بلد من العالم يتقدم فيه المواطن بشكواه إلى الرئيس ب (تسليم) رسالة له فيجد نفسه متهما؟ هل قرأت في العالم أن المواطن يحتاج إلى »رسالة مكتوبة عبر جريدتي« »الشعب والمجاهد« لتصل شكواه إلى الرئيس؟. سيأتي اليوم الذي نندم فيه على إنشاء أحزاب لأن »ختم أصحابها« يفقد معناه في الانتخابات، وسيأتي يوم نتألم فيه لأننا صوّتنا على أحزاب أو أشخاص ولكنهم يرفضون »التخلي« عن أصواتنا حين نطلب استرجاعها إليها. فمتى تدرك التيارات الإسلامية أنها كمن يبيع »الماء في حارة السقائين« إذا لم تعتز بالعودة إلى الشعب والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. والله لا يُختصر في »جبة السياسي« أو »الإمام«، والشعب ليس بطاقة هوية تعيش مع الشخص مدى الحياة، بل هي وسيلة للحكم والتسيير تعاد إلى أصحابها كلما تعرّض حاملوها إلى المضايقات من أية جهة أو التشكيك فيه فهي »تذكرة تجدد نفسها عبر العودة إلى الشعب« وليس تذكرة محددة زمنيا ولا يمكن انتزاعها أو سحبها من المعني بالأمر، قبل انتهاء العهدة. هناك خلل ما في نظام الحكم في فلسطين ومن حق محمود عباس الدعوة إلى تجديد عهدته في انتخابات تحت رعاية دولية، وإجراء انتخابات تشريعية مسبقة مادام ثلث البرلمان في السجن والبقية تتصارع حول »بيت من زجاج« ورئيس من ورق »وسلطة افتراضية« لتبرير الوجود الصهيوني في فلسطينالمحتلة.