يعدُّ مؤتمر الصومام من المحطات الكبرى في تاريخ الثورة التحريرية التي انطلقت في أول نوفمبر 1954م، أسوةً بالمحطات الأخرى التي أعطتها نفسا قويا (هجومات جيش التحرير في الشمال القسنطيني 1955، معركة الجزائر1957، مظاهرات ديسمبر 1960، مظاهرات 17 أكتوبر 1961). كيف ظهرت فكرة عقد مؤتمر للثورة؟ ولماذا انعقد سنة 1956 وليس قبل ذلك؟ وما هي أهميته العسكرية والسياسية في سياق الثورة؟ وما هي رمزيته بعد الاستقلال؟ حتى يتمكن القارئ من الإلمام بحيثيات هذا المؤتمر لا بد من الرجوع قليلا إلى الوراء للاطلاع على ظروف اندلاع الثورة الصعبة. لقد خرجت الثورة من رحم أزمة سياسية خانقة ضربت الحركة الوطنية سنة 1953م، حينما انقسم المناضلون إلى فريقين: فريق كان يدعو إلى إصلاح حزب PPA/MTLD المترهّل وذلك بإقرار القيادة الجماعية، وفريق ظل متمسّكا بفكرة الزعيم الأوحد (مصالي الحاج رحمه الله) على أساس أن المرحلة حاسمة ولا يمكن إسناد قيادة السفينة إلى أكثر من "رايس" واحد. وقد تدهورت حالة الحزب سنة 1954م إلى درجة أن عقد أنصار الزعامة الفردية مؤتمرا في بلجيكا جدّدوا فيه ثقتهم العمياء في الزعيم مصالي الحاج وفصلوا أعضاء اللجنة المركزية عن الحزب، في حين قام أعضاء اللجنة المركزية بعقد مؤتمر في الجزائر وقرّروا فصل المصاليين عن الحزب، وبذلك انفرط عِقد الحركة الوطنية التحرُّرية وبلغت درجة الاحتقان. أمام هذه الأزمة الخانقة العاصفة بالحزب، ظهر فريقٌ غير معني بالتنازع على السلطة وهم أعضاء المنظمة الخاصة التي أسست سنة 1947، وأسند إليها الحزب دور إعداد الثورة المسلحة، وقد تداول على رئاستها محمد بلوزداد، حسين أيت أحمد، أحمد بن بلة، لكن الاستعمار تمكن من حلها سنة 1950، ومن أبرز أعضائها الذين حاولوا إصلاح ذات البَيْن بين المصاليين والمركزيين: محمد بوضياف، مصطفى بن بولعيد، ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، رابح بيطاط. ولما يئسوا من تحقيق المصالحة بين الطرفين، قرّروا تحمُّل المسؤولية التاريخية المتمثلة في الإسراع إلى إعلان اندلاع الثورة قبل أن تضيع جهود الحركة الوطنية أدراج الرياح، فاتصلوا بكريم بلقاسم مسؤول الحركة الوطنية في منطقة القبائل، وأسسوا اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي تحولت عشية اندلاع الثورة إلى "جبهة التحرير الوطني". وأمام ضغط الأحداث المتسارعة لم يتمكن قادة الثورة من وضع أرضية سياسية تنظيمية تبيّنُ معالم هذه الثورة التحريرية، وترسم لها خارطة طريق تحدد الجوانب التنظيمية بدقة وتساعد على تيسير التسيير. لذلك اكتفى هؤلاء القادة بإصدار "بيان الثورة" الذي أكدوا فيه طبيعة الثورة الجزائرية الهادفة إلى استرجاع السيادة الوطنية المغتصَبة، وقد أعلنوا استعدادهم للدخول في مفاوضات مع فرنسا من أجل حقن الدماء، بشرط أن تعترف فرنسا أوّلا بالجنسية الجزائرية وحقّ شعبها في تقرير المصير. أما من الناحية التنظيمية، فقد اكتفوا بتقسيم الجزائر إلى خمس مناطق، وبتشكيل لجنة خارجية، وبتعيين منسِّق بين الداخل والخارج وهو السيد محمد بوضياف. كان من المفروض أن يلتقي قادة الثورة بعد اندلاعها بأشهر، من أجل إجراء "التقييم" قصد تلافي النقائص الناجمة عن ضغط الأحداث. لكن ذلك لم يحدث بسبب عنف رد الفعل الاستعماري التي نجم عنه استشهاد واعتقال بعض القادة، وهو ما أدى إلى تأخير عقد المؤتمر الموعود إلى صائفة 1956م. وكان من المفروض أن يُعقد في المنطقة الثانية لتسهيل دخول اللجنة الخارجية للمشاركة. كانت الثورة بعد اندلاعها في حاجة ماسّة إلى عقد مؤتمر ينقذها من العزلة الداخلية والخارجية ويدعهما بقيادة موحدة. لذلك قرّر قادتها عقد مؤتمر اختاروا له المنطقة الثانية- على أساس أنها قريبة من الحدود التونسية- لتمكين أعضاء اللجنة الخارجية من المشاركة. وبعد التأكد من تعذر دخولهم تقرّر نقل عقد المؤتمر إلى المنطقة الثالثة لتسهيل وصول قادة المناطق الأخرى، وتم تنظيمه في أعالي وادي الصومام (إفري أوزلاڤن)، وهي منطقة جبلية آهلة بالسكان ومتصلة بغابة أكفادو التي يمكن الانسحابُ إليها عند الضرورة. وانعقد المؤتمر في الأسبوع الثاني لشهر أوت 1956م ودام أكثر من أسبوع، شاركت فيه وفودٌ جاءت من جميع المناطق باستثناء المنطقة الأولى التي استشهد قائدُها مصطفى بن بولعيد ولم يتم تعيين خليفة له آنذاك. وأسندت رئاسة المؤتمر إلى العربي بن مهيدي، ويساعده عبان رمضان كمنسق وكاتب للمؤتمر، وحضره زيغود يوسف ولخضر بن طوبال وكريم بلقاسم، وأعمر أوعمران، وسليمان دهيليس، والرائد عز الدين، سي لخضر، وعلي خوجة، وعلي ملاح، ومحمدي السعيد، وعبد الحفيظ أمقران، وعدد آخر من المجاهدين شكلوا سكرتارية المؤتمر (الطاهر عميروشان، حسين صالحي، أجاود رشيد) مهمتهم رقن قراراته، وأسندت مهمة رقابة السكرتاريا إلى محمدي السعيد. أما مهمة الأمن فقد أسندت إلى القائد عميروش. إن مجرّد عقد المؤتمر في أرض الوطن المحتلّ وفي خضم أهوال الحرب، هو معجزة في حدّ ذاته كما قال المجاهد لخضر بن طوبال، ويعدّ انتصارا سياسيا كبيرا أكّد للعالم أن ما يجري في الجزائر هو ثورة شعبية عادلة التفّ حولها الشعب من أجل تحقيق النصر، وأن الاحتلال الفرنسي بعدده وعدّته لا يسيطر على الأرض كما كانت تدّعي فرنسا التي كانت تصف المجاهدين ب"الخارجين عن القانون". وهكذا يعدّ مؤتمر الصومام منعرجا هاما في تاريخ الثورة، إذ أعطاها نفسا سياسيا وتنظيميا مكّنها من مواصلة المسيرة النضالية بمؤسسات ساعدت على تكريس التسيير الجماعي للثورة وعلى تقليص هامش النقائص. ويتجلَّى ذلك في تأسيس المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي كان يؤدي دور البرلمان، وفي تأسيس لجنة التنسيق والتنفيذ التي كانت تؤدي دور الحكومة، وفي هيكلة جيش التحرير الوطني هيكلة دقيقة مع توحيد قيادته، كما أعاد المؤتمر النظر في التقسيم الجغرافي للتراب الوطني فتحوَّلت المناطق إلى ولايات، مع إضافة ولاية سادسة للجنوب الكبير، فضلا عن تأسيس جهاز القضاء (الحبوس) للنظر في قضايا الجزائريين بنيَّة مقاطعة المحاكم الفرنسية. وهناك قراراتٌ سياسية أخرى عميقة في دلالاتها كإقرار أولوية الداخل على الخارج في تسيير الثورة، وأولوية السياسي على العسكري، وأن الثورة الجزائرية ثورة وطنية أصيلة لا تخضع لا للشرق ولا للغرب. مع الإشارة إلى أن الدولة الجزائرية المنشودة هي دولة مدنية تسع الجميع (مسلمين وأوروبيين) وليست ثيوقراطية، وهذه النقطة الأخيرة هي رسالة موجَّهة إلى المستوطنين الفرنسيين ودعوة إليهم للمشاركة في الثورة، علما أن بيان أول نوفمبر قد أشار إليهم من خلال عبارة: "احترام الأشخاص والعائلات وأملاكها المحصَّل عليها بنزاهة". ولا شك في أن الغاية أيضا من هذه القرارات السياسية الهامة، هي إعطاء وجهٍ ديمقراطي للثورة الجزائرية قصد كسب الرأي العام الدولي خاصة في أروقة الأممالمتحدة، وكذا تفنيد الدعاية الفرنسية التي كانت توهم الرأي العام العالمي بأن ما يجري في الجزائر هو "عنف مسلح" يقوم به "إرهابيون متعصبون وخارجون عن القانون ويهدّدون الاستقرار في شمال إفريقية". هذه هي الخطوط العريضة بصفة عامة لمقررات مؤتمر الصومام التاريخية التي أثارت جدلا بين بعض قادة الثورة الذين لم يتمكنوا من حضور المؤتمر لأسباب غامضة إلى حدّ الساعة. رغم أهمية مقرِّرات مؤتمر الصومام التي أعطت دفعا قويا للثورة في الداخل والخارج، فإن بعض أعضاء اللجنة الخارجية للثورة قد انتقدوا المؤتمر في بعض جوانبه. وكان من الممكن لو حضر أعضاء اللجنة الخارجية الناقدون لقرارات المؤتمر، أن تصبّ رؤاهم في صلب النقاش الثريّ وتُؤخذ في الحسبان في الوقت المناسب، أمَا وقد غابوا عن المؤتمر لأسباب ما زالت غير معروفة، فقد تحولت ملاحظاتهم إلى انتقادات تطعن في المؤتمر، وفي مقدمة هؤلاء أحمد بن بلة- رحمه الله- الذي لم يستسغ قراريْ "أولوية السياسي على العسكري، وأولوية الداخل على الخارج"، كما اعتبر الإيحاء إلى الدولة المدنية انحرافا عن بيان أول نوفمبر. واللافت للانتباه أنه رغم الانتقادات التي طالت مقرّرات مؤتمر الصومام، فإنَّ قادة الثورة قد ساروا على نهجها إلى حدّ بعيد. في حين ظلت بعض القرارات السياسية (أولوية السياسي على العسكري، أولوية الداخل على الخارج) حبرا على ورق. ومهما اختلفت الرؤى حول هذا المؤتمر التاريخي، فإن ذلك لا يقلل من أهمية قراراته في دعم صفوف الثورة تنظيميا وسياسيا، ولن تتجلى للمرء هذه الحقيقة إلاّ بقراءة مخرجات المؤتمر في سياقها التاريخي الصعب، وبعبارة أخرى، فإنه ليس من الموضوعية نقد هذا المؤتمر انطلاقا من إسقاط الصراعات الإيديولوجية الحالية عليه. لقد ألقى مؤتمر الصومام بظلاله على مسيرات الحَراك الشعبي التي انطلقت يوم 22 فيفري 2019م، خاصة من خلال رفع شعار "أولوية السياسي على العسكري" الذي ينسجم مع شعار الحراك: "دولة مدنية ماشي عسكرية". وبمرور الوقت بدا الأمر كأن مؤتمر الصومام قد تحوّل إلى ساحة لتطاحن السياسي بين المنادين بالدولة المدنية وبين المتحفظين منها، وبذلك تم جرّ هذه المحطة التاريخية الهامة إلى مستنقع الصراع الإيديولوجي المتشنج، وهو الأمر الذي يسيء إلى قدسية الثورة التحريرية ويهدد الوحدة الوطنية بانفراط عقدها لا قدّر الله. وهكذا يتجلى بوضوح أن توظيف التاريخ لأهداف إيديولوجية ضيقة سواء من هذا الطرف أم ذاك قد ينسف تاريخ الثورة المشترك الذي يشكّل لحمة قوية بين الجزائريين. إن مصلحة الوطن العليا تقتضي إنقاذ تاريخ الثورة بصفة خاصة وتاريخ الجزائر بصفة عامة، من براثن "التطرُّف السياسي" الذي يجعل العقل الفطير يقرأ التاريخ بمنظار الذاتية التي تعمي الأبصار والقلوب، وتقوم بتفكيك التاريخ الوطني إلى أحداث جهوية منفصلة عن بعضها البعض، بنيَّة زرع خطاب الكراهية في المجتمع. كما أن الوفاء للتفكير العلمي يقتضي إسناد أمر "شؤون التاريخ" إلى الرَّاسخين في العقل والعلم والموضوعية والمنهجية، وإلى المالكين للأدوات المعرفية التي تمكنهم من القيام بمهمة النقد والتحليل، قصد تحصين المجتمع بالوعي التاريخي المشترك. وإن المواظبة على تمجيد المؤتمر هي دعمٌ للجدار الوطني المرصوص، ودرءٌ لمفسدة الجهوية والعرقية والعنصرية والعياذ بالله منها. إن مؤتمر الصومام بمثابة "العروة الوثقى" للوحدة الوطنية، فلا تفكّكوها بالذهنية الانشطارية المدمّرة للشعوب والأمم.