يحسن بمن كان يريد سبر موقف العرب والعجم من المسلمين من مسارات التطبيع مع الكيان الصهيوني أن يتابع ردود الأفعال الاستثنائية في مواقع التواصل الاجتماعي على الموقف الجزائري الرسمي، وقد حسمه الرئيس تبون في كلمات قليلة واضحة، لا لبس فيها، ولا تقبل أي تأويل: "الجزائر لن تشارك في الهرولة نحو التطبيع ولا تباركها"، بل جعل من "قيام الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس" شرطا لبناء سلام في الشرق الأوسط، لكنه لا يكفي لحمل الجزائر على الاعتراف أو التطبيع مع هذا الكيان المغتصِب. ردود الأفعال الاستثنائية على هذا الموقف الصريح كشفت حجم استياء الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من مسارات التطبيع، ومقدار تطلُّعها إلى خطاب عربي رجولي ينوب عنها أمام شعوب ودول العالم، وينقل رفضها القاطع لأي شكل من أشكال التطبيع، هو تحديدا ما فعله الرئيس تبون أمس في خطابه أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وصدم به زعماء الكيان الصهيوني، وعراب "صفقة القرن"، قبل أن يصدم نظراءه من القيادات العربية المهرولة. الموقف كان استثنائيا على أكثر من مستوى، من حيث المضمون، ومن حيث التوقيت، كما من جهة التحديات السياسية والدبلوماسية وحتى الأمنية التي يستبطنها، والخصومات المستشرفة بلا ريب مع قوى الاستكبار العالمي، لبلد تعلم قيادته المنتخَبة أنها محمية ومسنودة بموقفٍ شعبي لا يقبل بأقلِّ مما عبر عنه الرئيس، وجدّد به مقولة الراحل بومدين "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". من جهة المضمون، ذكّر الموقف الجزائري رؤساءَ دول العالم العربي بالتزامات موثقة في مبادرة السلام العربية لسنة 2002، ملزمة لجميع الدول العربية بالامتناع عن أي شكل من أشكال التطبيع قبل "قيام الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس" بوصفه الحد الأدنى الذي رضيت به القياداتُ الفلسطينية حتى الآن، وقد فرضته عليها موازين القوة المجحِفة، وتخاذل أشقائها من العرب والمسلمين، وجبن المجموعة الدولية العاجزة منذ 1975 عن إجبار الكيان الصهيوني للامتثال لقرارات الشرعية الدولية. غير أن موقف الجزائر السيد، يحتفظ بحق التمييز بين ما تشترطه المبادرة العربية للسلام، وسيادةِ كل دولة في بناء علاقاتها الدولية، بما يعني أن الجزائر ليست مجبرة، ولا هي راغبة في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني حتى بعد استجابته لمبادرة السلام العربية، وهو البُعد الصادم للكيان في الموقف الصريح الذي عبَّر عنه الرئيس، وكانت له ردود أفعال غاضبة في الأوساط الصهيونية وعند عرّابها الأمريكي. ومن جهة التوقيت، جاء الموقف معارضا صريحا ل"صفقة القرن"، وللعبة الابتزاز التي يمارسها الرئيس الأمريكي على الكيانات العربية المستضعَفة، وتحديا لأي مسار يريد صناعة سلام كاذب على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفوق ذلك حمل دعما استثنائيا للقيادات الفلسطينية الرافضة بجميع فصائلها للصفقة ولمسار التطبيع، وكانت قد صُدمت بخذلان الجامعة العربية في آخر لقاء لوزراء الخارجية، وبصمت أكثرية الدول العربية حيال قرارات التطبيع الأخيرة، ناهيك عن بقية الأصوات المباركة لخطوة الإمارات والبحرين الآثمة. بقي أن الموقف الجزائري، الذي لم يكن مجرَّد تصريح إعلامي بعد أن جدَّده الرئيس بنفس المحتوى في خطاب رسمي أمام قادة العالم، يعي تماما ما سيترتَّب عنه من خصومات مع زعيم قوى الاستكبار العالمي، ومع الكيان الصهيوني الذي لم ينتظر هذا الموقف للدخول في حرب استنزاف مفتوحة مع الجزائر في أكثر من جبهة مع حلفائه من العرب والعجم والأعاجم داخل الفضاء الجغرافي الحيوي للجزائر، وهو يحتفظ في ذاكرته بفصول المواجهة في حربي 67 و73 ولم يغفر للجزائر احتضانها لإعلان قيام الدولة الفلسطينية في نوفمبر 1988، ودعمها المالي والسياسي والدبلوماسي المستدام للقضية الفلسطينية. غير أن أخطر ما في هذا الموقف هو وصف القضية الفلسطينية ب"أمّ القضايا العربية المقدسة" التي يُستبطن فيها التفريط بالقدس الشريف، وإقبار القضية الفلسطينية بلا رجعة، وفي الموقف تبرئة للذمة أمام الله وأمام التاريخ، أناب فيها الرئيس عبد المجيد تبون مشكورا عن جميع الجزائريين، وعن أكثرية الشعوب العربية والإسلامية، وبقيَّة أحرار العالم، من بلد سيِّد لا يساوَم في القضايا العادلة.