ساحة شاسعة، تنبض حيوية ليل نهار في قلب مدينة البليدة، يتوسطها معلم أثري بهندسة معمارية فريدة تتوازى فيها أقواس ست، من أيها نظرت قابلتك لوحة ظريفة.. يحيط بهذا المبنى حوض مائي تتدفق فيه ست نافورات عذبة، والمشهد من طلوع الشمس إلى غروبها، على حد قول الشاعر محمود درويش: "يحط الحمام يطير الحمام". ليست ساحة التوت كغيرها من ساحات مدينة الورود، فهذا المكان الذي يحفه التاريخ من كل زاوية له موقع خاص في قلوب أهالي المنطقة، فهو يجمع شتات ماضيهم، تماما كما تجتمع إليه عشرات الأزقة والشوارع في المدينة. وقع اختيار مؤسس البليدة، سيدي أحمد الكبير، عام 1535 م، على هذا المكان، ليكون النواة الأولى التي ينطلق منها بناء مدينة عصرية تجمع شمل نازحي الأندلس، فحفت الساحة وتركت فارغة، وأول ما بني حولها، كان مسجد الكوثر، هو أكثر ما يشد الانتباه بصويمعاته الأربع وقبته الضخمة، كلما اقتربت من الساحة اليوم، وتم تشييد فرن تقليدي وحمام، توالت أحداث كثيرة على المدينة، أهمها الزلزال الكبير الذي دمرها كليا سنة 1825م، وحريق تازمرت الذي حصد مئات الأرواح أيضا، أما في عام 1830، فقد حل الاحتلال الفرنسي بسهول متيجة وجبالها، وانهزم جيش الأمير عبد القادر أمام قوات المستعمر في معركة سيدي يعقوب الشهيرة، سنة 1840، بقيادة البطلين محند أو عيسى ومحمد بن علال، في تلك الفترة كانت ساحة التوت ومسجد سيدي الكبير عبارة عن مستشفى عسكري لعلاج الجنود الفرنسيين، في نفس السنة، قرر الفرنسيون تحويل مسجد سيدي الكبير إلى كنيسة سموها كنيسة لنشر التنصير، وكان يطلق على المكان ساحة السلاح la place d'armes، وحسب مؤرخين، كان محيطها مركزا لقيادة الجيش الفرنسي، قبل أن يتم نقلها إلى العاصمة. في هذه المرحلة الزمنية، استغل الجنود الفرنسيون ساحة التوت للعب رياضة تقليدية فرنسية تسمى" jeu de paume " ، وبدأ هتافهم واستحواذهم على المكان يثير حفيظة المسؤولين المحليين، ما دفعهم إلى بناء حوض مائي وسط ساحة التوت. في سنة 1857، أسس ألكسندر موڨان، المطبعة الشهيرة ( Imprimerie Mauguin ) ، التي أصبحت رمزا من رموز البليدة، إلى غاية يوم الناس هذا. في 4 سبتمبر 1870م، قرر الفرنسيون غرس شجرة توت بالساحة، كرمز للحرية، وتم تغيير اسم الساحة تدريجيا من ساحة السلاح، إلى ساحة التوت أو ساحة الحرية، مع هذا، يصر بعض المهتمين بالتراث على أن أصل تسمية ساحة التوت هو place de tout le monde بينما ليس لهذا أي دليل تاريخي، بعد أن جفت شجرة التوت، غرس الفرنسيون نخلة وسط الساحة، بناء على أسطورة محلية قديمة، مفادها أن سيدي يعقوب الشريف أمر السكان بغرس نخلة وسط المدينة التي سوف تبنى بعد وفاته، ثم تم تشييد كشك فني حولها، يلتف الناس حوله للاحتفال بالمناسبات، خاصة حفلة الورود التي اشتهرت بها المدينة. تم تغيير تسميتها إلى ساحة كليمانصو" place Clémenceau "نسبة إلى السياسي الفرنسي الشهير، جورج كليمانصو، وفي ليلة 5 مارس 1947 أدت عاصفة شديدة إلى كسر النخلة الرمز، التي عوضها الفرنسيون بشجرة جوز هند، مع الحفاظ على الكشك. أما إبان ثورة التحرير المباركة، فقد كانت الأحياء والتجمعات المحيطة بساحة التوت بؤرة للعمليات الفدائية، ومن أبشع ما قام به المستعمر الفرنسي في المكان، أن الجنود كانوا يقومون بعرض جثث الشهداء ليعتبر الشعب، فما كان إلا أن زاد حقدا على الاستعمار، إلى أن شهدت الساحة ذاتها احتفالات النصر يوم 5 جويلية 1962م، وأخذت بعد الاستقلال تسمية ساحة الفاتح نوفمبر، تيمنا بالثورة المجيدة، غرست في ما بعد أشجار التوت إلى غاية سنة 2016، متى قرر المسؤولون التخلص منها لأن ثمار التوت تلطخ المكان وتطمس جماليته، وتم تعويضها بأشجار النخيل، وهاهي تتحول بعد كل هذا التاريخ الحافل، إلى ملتقى العائلات البليدية لقضاء أمتع الأوقات.