بعد 30 سنة من اعتماد الصيرفة الإسلامية في الجزائر، بتأسيس أول بنك يقدم هذه الخدمة سنة 1991 وهو بنك البركة، وبعدها بنك السلام، قررت الحكومة توسيع هذه الخدمة إلى البنوك العمومية منتصف العام الماضي، بهدف استقطاب أموال السوق السوداء المقدرة حسب خبراء ب 50 مليار دولار، غير أن هذه التجربة بعد مرور سبعة أشهر لم تحقق الأهداف المرجوة منها، بسبب تعثر البنوك العمومية في جلب أموال الجزائريين، نتيجة بعض العوامل التي أثرت على مصداقية هذه الخدمات، على غرار ضعف الجانب التنظيمي لهذه العملية الذي تشوبه بعض التحفظات الأخلاقية والقانونية، في مقدمتها انبثاق الهيئة الشرعية للإفتاء من مؤسسة استشارية ممثلة في المجلس الإسلامي الأعلى وليس تنفيذية، وتعارض المصالح لدى بعض أعضائها الذين يتواجدون في أكثر من لجنة فتوى على مستوى البنوك، بل إن بعضهم يشتغل مستشارا في 6 بنوك، فهل يعقل أن يكون مثل هؤلاء ضمن هيئة رقابة حكوميّة شرعية على أعمال يشرفون عليها بأنفسهم في القطاع البنكي؟ ! ثمن خبراء ومختصون قرار الحكومة القاضي بتوسيع خدمات الصيرفة الإسلامية، التي تبقى السبيل الوحيد لاستقطاب أموال الجزائريين، في ظل فشل النظام البنكي التقليدي في استدراج أموال شريحة واسعة من المواطنين الذين يخافون من الربا كما يخافون من الموت، وبعد إطلاق وزارة المالية لخدمات الصيرفة الإسلامية في ثلاثة بنوك عمومية، وهي البنك الوطني الجزائري والقرض الشعبي الجزائري والصندوق الوطني للتوفير والاحتياط، قررت هذا العام توسيع هذه الخدمة إلى بنوك عمومية أخرى على غرار البنك الوطني الخارجي، وبنك التنمية المحلية وبنك الفلاحة والتنمية الريفية، بهدف تنويع الخدمات وتشجيع البنوك على خوض تجربة المعاملات الإسلامية، علها تعيد ثقة الجزائريين في البنوك بعد عقود طويلة من العزوف والمقاطعة.. ورغم حداثة تعميم شبابيك الصيرفة الإسلامية على البنوك العمومية، غير أن هذه العملية عرفت حسب المختصين نوعا من التسرع في تأسيس النظام القانوني والتشريعي لهذه التجربة، التي يعول عليها في تحقيق أهداف اقتصادية كبرى، ما ساهم في تعثرها في استقطاب أموال الجزائريين بعد اقتراب عامها الأول، حيث أكد خبراء ل "الشروق" أن وزارة المالية أطلقت خدمات الصيرفة الإسلامية لدى البنوك العمومية واستقالت من تأسيس نظام تشريعي قوي يرافق هذه العملية، والذي يجب أن يكون حسبهم وفق مراسيم تنفيذية من أعلى هرم في السلطة، لضمان قوة واستقلالية ومصداقية الهيئة الشرعية الوطنية للصناعة المالية الإسلامية، التي تشرف على مهام كبرى لإعطاء الشرعية والمصداقية لخدمات الصيرفة الإسلامة، منتقدين إصدار هذه الهيئة من طرف مؤسسة استشارية ممثلة في المجلس الإسلامي الأعلى الذي لا يملك الصبغة القانونية حسبهم لتأسيس مثل هذه الهيئة. مأمون القاسمي: هيئة الرقابة يجب أن تنبثق من بنك الجزائر أكد الشيخ محمّد مأمون القاسمي الحسني، عضو المجلس الإسلاميّ الأعلى، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك البركة الجزائريّ، أنه بالنسبة لرعاية المجلس الإسلاميّ الأعلى لتوطين نظام الصيرفة الإسلامية، وتشكيل هيئة شرعية وطنية لديه، تختصّ بالإفتاء والإشراف على الصناعة المالية الإسلامية قائلا" لقد كان رأيي، من أوّل يوم، يتلخّص في أنّ الأصل أن يكون موقع هذه الهيئة لدى بنك الجزائر، باعتباره الجهة الإشرافية على المؤسّسات المالية في الدّولة؛ وهذا ما يجري به العمل في دول إسلامية مختلفة؛ تماشيا مع دور الهيئة ووظيفتها، وتجنّبا لتشتيت جهات الإشراف والرقابة على البنوك". وأضاف المتحدث " أنّ هناك أسبابا موضوعية دعت الجهات المعنية إلى اعتبار المجلس الإسلاميّ الأعلى هو الموقع الأنسب والأصلح للهيئة، وبما أنّ المجلس لا تخوّله نصوصه القانونية والتنظيمية حقّ تأسيس مثل هذه الهيئة، فقد كان عليه أن يبدأ أوّلا بتهيئة النصّ القانونيّ الذي يستند إليه في هذا التأسيس وكان من الممكن، على سبيل المثال، استصدار مرسوم من الجهات الوصيّة، يعطي المجلس هذه الصلاحية، ويحدّد مهامّ الهيئة، وينصّ، فيها على منع أعضائها من الانخراط في هيئات الفتوى والرقابة الشرعية، العاملة لدى بنوك تقدّم خدمات في مجال الصيرفة الإسلامية، وهنا، تجدر الإشارة إلى الانتقادات التي وجّهت إلى المجلس، بهذا الصدد، فقد رأى بعضهم أنّ " الهيئة " ليس لها مستند قانوني، وأنّها تطرح إشكالية " تعارض المصالح " لدى أعضائها، حيث يجمع بعضهم، في الوقت نفسه، بين صفتي العضوية فيها وفي هيئات بنوك أخرى؛ وهو أمر، في نظرهم، لا يستقيم حين يجتمع الخصم والحكم في موقع واحد، على حدّ قولهم، في إشارة إلى أنّ من مهامّ الهيئة الوطنية الشرعية للإفتاء للصناعة المالية الإسلامية هو الإشراف والمراجعة، ومن ثمّ الرقابة على العمل المصرفيّ الإسلاميّ الّذي تمارسه البنوك المعنية، وترعاه وتوجّهه وتراقبه الهيئات الشرعية لديها". أما بالنسبة إلى تقييم الفترة التي شهدت شروع بعض البنوك العمومية في تقديم منتجات، وفق صيغ التمويل الإسلاميّ، قال محمّد المأمون القاسمي الحسني " يبدو لي من المبكّر أن نقول شيئا بهذا الصدد، لأنّنا نشهد بدايات تطبيق النظام الخاصّ بالصيرفة الإسلامية، في بنوك عمومية، ولا شكّ أنّنا نحتاج إلى فترة أطول لإعطاء الرأي بهذا الشأن. ولا يفوتني هنا، ونحن نتحدّث عن هذا المشروع الذي طال انتظاره، أن أشير إلى ما أراه من ضرورة العمل لاستكمال الإطار التشريعيّ والتنظيمي للصيرفة الإسلامية، وصولا إلى نظام متكامل يراعي خصوصياتها، سعيا لتطوير الصناعة المالية الإسلامية، وتوسيع مجال استثماراتها، ومن جهة أخرى، أدعو إلى وضع أنظمة جبائية ومحاسبية خاصّة بعمليات الصيرفة الإسلامية، تراعي طبيعتها وتميّزها وخصوصيتها". عبد الحميد دغبار: لا وجود لهيئة قانونية تشرف على الصيرفة الإسلامية من جهته، أكد الخبير القانوني والمستشار بوزارة الشؤون الدينية سابقا، عبد الحميد دغبار في تصريح ل"الشروق" أن نظام الصيرفة الإسلامية في الجزائر تطاله العديد من الفراغات القانونية التي يجب تداركها سريعا للحفاظ على مصداقية هذه الخدمات لدى الرأي العام، فالجزائر حسبه تفتقد لوجود هيئة رسمية قانونية مكلفة بمهمة الإشراف على الصيرفة الإسلامة، "ّوالتي يجب أن تتأسس وفق مراسيم تنفيذية وليس من جهة استشارية على غرار المجلس الإسلامية الأعلى الذي لا يملك الصلاحيات القانونية لإصدار مثل هذه الهيئات لأنه هيئة استشارية وليس تنفيذية ". وأضاف المتحدث أن القانون الجزائري يمنع تعارض الوظائف، فأعضاء اللجنة الوطنية للصناعة المالية الإسلامية لا يمكنهم شغل وظائف أخرى في البنوك، وإذا كان هذا الواقع صحيحا فإنه منافي للقانون ويؤثر سلبا على عمل اللجنة، التي يجب أن ترتقي بمراسيم تنفيذية تكون بالتنسيق مع جميع المؤسسات الإسلامية على غرار وزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى وبنك الجزائر للخروج بمرسوم تنفيذي يحدد تكوين وصلاحيات وأعضاء هذه اللجنة، التي تعمل بالتنسيق مع بنك الجزائر للإشراف على جميع البنوك من حيث الترخيص والرقابة والمحاسبة وسحب الرخصة في جميع المعاملات الخاصة بالصيرفة الإسلامية. وأكد دغبار أنه رغم النقائص والثغرات القانونية في واقع الصيرفة الإسلامية في الجزائر، غير أن هذه التجربة عموما في الطريق الصحيح ويجب تثمينها لأنها تبقى السبيل الوحيد لاستقطاب أموال الجزائريين وفق معاملات إسلامية تضفي نوعا من الراحة الاجتماعية بعيدا عن الربا والشبهات، وأضاف انه رغم بعض التحفظات في ميلاد هيئة الرقابة الشرعية وحديث عن تعارض الوظائف في أعضائها، غير أن هذا لا يطعن في مصداقية الصيرفة الإسلامية عموما، بل يشكل نقائص يمكن التغلب عليها سريعا بتدخل السلطات الوصية لإصدار مراسيم تنفيذية وقانونية تعيد تنظيم العملية وفق ما هو معمول به دوليا. ودعا الأستاذ دغبار إلى ضرورة توسّع خدمات وعروض ومؤسسات الصيرفة الإسلامية في الجزائر لتشمل مجالات أخرى، على غرار تأسيس بنك إسلامي للزكاة والأوقاف، كونه الأولى بتطبيق أحكام لجنة الإفتاء المكلفة بالصناعة المالية الإسلامية، وأضاف أنه عمل أكثر من 18 سنة كمستشار قانوني لوزير الشؤون الدينية الأسبق عبد الله غلام الله، واقترح حينها إنشاء بنك وقفي لأموال الزكاة والأوقاف ونتيجة للظروف الأمنية التي كانت تعيشها البلاد تم تجميد المشروع، الذي يجب حسبه أن يرى النور مجددا تماشيا مع تشجيع الجزائر للصيرفة الإسلامية كأحد الحلول العاجلة والأساسية لخلق استثمار دائم ومنتج ومقبول اجتماعية من جميع الأطراف وتفادي الإشكالات التي كانت تطرح في عهد المعاملات الربوية.. صالح صالحي: علينا أن نرتقي بتشريعات الصيرفة الإسلامية من جابنه، دعا الأستاذ الجامعي المختص في الاقتصاد الإسلامي الدكتور صالح صالحي السلطات الوصية إلى الارتقاء بتشريعات الصيرفة الإسلامية في الجزائر، مؤكدا أنه بعد مرور 30 سنة من بداية تجربة أول بنك إسلامي سنة 1991 وهو بنك البركة وبعده بنك السلام ثم إطلاق الخدمة في بعض البنوك العمومية لا زالت تجربة الصيرفة الإسلامية دون المستوى ولا تتماشى مع حجم الاقتصاد الجزائري. ورغم النقائص والخدمات المحدودة، قال محدثنا إن الجهود في الطريق الصحيح ويجب تثمينها وتقويمها وتدعيمها بأسس قانونية قوية، خاصة فيما يتعلق بهيئة الرقابة الوطنية، التي يجب حسبه أن تتأسس وفق ما هو معمول به دوليا، باعتمادها من الرجل الأول في الدولة وفق مراسيم تنفيذية تحدد أمورا كثيرة تتمثل في تكوين أعضائها وطريقة عملها وصلاحياتها وتحديد العهدات، وضبط حالات تضارب مصالح، ويجب أن تعمل بالتنسيق مع بنك الجزائر بإعطائها الصلاحيات الكاملة لممارسة الرقابة داخل البنوك بكل استقلالية وشفافية. وقال المتحدث " أنا أدرك أن هناك بعض الأعضاء هم في اللجنة الشرعية داخل البنك وفي نفس الوقت أعضاء في لجنة الصناعة المالية الإسلامية في المجلس الإسلامية الأعلى.. هذا الأمر يجب أن يتغير بتغير قانون النقد والقرض وتأسيس هيئة رقابة وطنية مستقلة بمراسيم تنفيذية تبين الصلاحيات وتعمل على تنافي المصالح وتعارضها". وشدد الدكتور صالح صالحي على ضرورة إضفاء المصداقية والشفافية على هيئات الرقابة الشرعية التي يجب أن تتدخل في جميع البنوك بالتنسيق مع بنك الجزائر، مؤكدا أن الأمر لم يفت بعد ويجب الارتقاء بالصيرفة الإسلامية في الجزائر، والإقتداء بالعديد من الدول التي نجحت في استقطاب أموال ضخمة من خلال خدمات الصيرفة الإسلامية، على غرار ماليزيا التي نجحت في استقطاب 500 مليار دولار ودول الخليج 600 مليار دولار وتركيا 1000 مليار دولار، قائلا " لا يمكن لخدمات الصيرفة الإسلامية أن تبقى بهذا الحجم الصغير في الجزائر معتمدة على العروض الاستهلاكية البسيطة بل يجب عليها تطوير خدماتها لجلب الاستثمارات الكبرى من داخل وخارج الوطن وذالك بنظام تشريعي قوي يضمن الاستقرار والطمأنينة وينزع اللبس والشك في هذه الخدمات بما يطمئن الرأي العام ". وأردف محدثنا قائلا " نحن نمر الآن بحالة فراغ.. الهيئة الشرعية الرقابية الموجودة أفضل من عدم وجودها، ولكن لا بد من تأسيس هيئة مستقلة تماما، ويجب أن نتعلم من تجارب الدول الأخرى للإقتداء بأفضل نموذج على غرار ماليزيا التي أسست هيئة مستقلة من طرف الرجل الأول في الدولة بمراسيم عليا ضمن منظومة متكاملة..". هذه تبريرات المجلس الإسلامية الأعلى لتأسيس الهيئة الشرعية أما المجلس الإسلامي الأعلى فقد أكد أن إنشاء الهيئة الشرعية الوطنية للإفتاء للصناعة المالية الإسلامية جاء بالاتفاق والتنسيق مع بنك الجزائر بهدف توطين معاملات الصيرفة الإسلامية في جميع البنوك. و يأتي إنشاء الهيئة الشرعية الوطنية للإفتاء للصناعة المالية الإسلامية حسب بيان سابق لهيئة غلام الله، تنفيذا للنظام رقم 20-02 المؤرخ في 15 مارس 2020، المحدد للعمليات البنكية المتعلقة بالصيرفة الإسلامية، وقواعد ممارستها، من طرف البنوك والمؤسسات المالية الصادر في الجريدة الرسمية رقم 16، حيث ورد فيه " وسيعمل النظام المحدد للعمليات البنكية المتعلقة بالصيرفة الإسلامية وقواعد ممارستها الذي يندرج في إطار برنامج رئيس الجمهورية ومخطط عمل الحكومة على تحقيق هدفين رئيسين وهما: التقليل من ظاهرة الاكتناز المالي والاستجابة للمواطنين الراغبين في التعامل بهذا النظام وفق أحكام الشريعة الإسلامية والتقليل من الآثار السلبية لظاهرة السوق الموازية في إطار التوجهات الجديدة للحكومة الجزائرية في تشجيع الصيرفة الإسلامية وعزيمة بنك الجزائر في تجسيد هذا النظام", يضيف بيان المجلس الإسلامي الأعلى وستقوم الهيئة الشرعية الوطنية للإفتاء للصناعة المالية الإسلامية، وفقا للنظام 20-02 بمنح شهادة المطابقة الشرعية للبنوك والمؤسسات المصرفية، وهي المهمة التي ستكون سندا لبنك الجزائر في توطين الصيرفة الإسلامية بالجزائر ". وأوضح المجلس الإسلامي الأعلى، بخصوص التحفظات القانونية والشرعية في تأسيس الهيئة الشرعية الوطنية وتعارض المصالح لدى أعضائها،" أن هذه التحفظات تصح لو كان عضو الهيئة الشرعية الوطنية يتقاضى مكافأة مالية، أما وأنه يعمل مجانا في البنوك متبرعا بوقته وجهده، بل قد يكون انتساب أحد أعضاء الهيئة الشرعية التابعة للبنوك إلى الهيئة الشرعية مفيدا يسهل عملية دراسة الملفات وتطبيق المقاييس الشرعية. وأما التحفظ القانوني، فلا يوجد ما يدل عليه، إذ إن الهيئة الشرعية الوطنية ليس ضروريا أن تكون تابعة لهيئة تنفيذية، بل بالعكس من الأفضل أن تكون حرة كي تراعي في أحكامها المقاييس الشرعية".