أكد الله - عز وجل - أن الناس لو أرادوا عدّ نعم الله عليهم لن يحصوها، وذلك لكثرة هذه النّعم من جهة، ولكثرتها في كل نعمة من تلك النعم، يقول سبحانه وتعالى: "وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها". ولكن هذه النّعم لو يجعلها الله - عز وجل- على درجة واحدة من الأهمية، ذلك أن النعم ما يمكن الاستغناء عنها فترة طويلة أو متوسطة أو قصيرة من الزمن من دون أن يكون لذلك الاستغناء تأثيرا على الإنسان، ومنها ما يمكن الصبر عليها مدة من الزمن تطول أو تقصر، ومنها ما لا يمكن الاستغناء عنها والصبر عليها أبدا كالهواء، وقد كنت أقول لطلابي إن أعظم دليل على وجود الله - عز وجل- هو هذا الهواء، الذي لا يمكن العيش بدونه، ولذلك لم يجعل الله - عز وجل- لأحد من البشر سلطانا على هذه النعمة، وإلا لاستعملها الناس ضد بعضهم، كما يستعملون النّعم الأخرى.. إن أهمّ نعمة أنعمها الله - عز وجل - على الناس هي نعمة الهداية إلى الإيمان لأنها تنتج طمأنينة النفس، ولهذا جاء في القرآن الكريم قوّل الذين هدوا إلى الإيمان "الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، وقد كان سلف هذه الأمة يقولون: "الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام وكفى بها نعمة"، وذلك لأنها جالبة للنعمة الأكبر، وهي رضا الله - عز وجل- ودخول الجنة التي فيها من النعم "ما لا عينا رأت، ولا أذنا سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، كما جاء في حديث الرحمة المهداة، صلى الله عليه وسلم. لقد جعل الله - عز وجل- نعمة الهداية أكثر النعم طلبا، حيث جاء في سورة الفاتحة التي نقرأها في كل ركعة - فريضة أو سنة - قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم". ومن النّعم التي نبّهنا إلى قيمتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثلاث نعم يستقلّها كثير من الناس، ولا يعرفون أهميتها في تحقيق الأمن النفسي والاجتماعي، اللذين من دونهما تصبح الحياة جحيما. وهذه النعم هي التي وردت في حديثه الشريف - عليه الصلاة والسلام، القائل: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". إن هذه النعم الثلاث هي الحدّ الأدنى للإنسان ليكون سعيدا في الدنيا وإن قلّ نصيبه منها، وما أكثر "القارونيّين" في هذه الدنيا، ولكنهم أتعس من على الأرض إما لأنهم يعيشون في خوف "ويحسبون كل صيحة عليهم"، وإما لأن أمراضا أنشبت أظافرها في أجسامهم، وصيّرتهم كلاّ على غيرهم، حتى يصبح هذا "الغير" يتمنى الموت لذلك العاجز، ولو كان ذا قربى. على من يستمّلّ هذه النعم أن يمُدّ عينيه يمينا وشمالا ليرى العذاب الكبير الذي يعيش فيه فاقدو هذه النعم. وقد قال غانم بن الوليد المالقي (ت: 470 ه) ثلاثة يجهل مقدارها الأمن، والصحة، والقوت فلا تثق بالمال مع غيرها لو أنه درّ وياقوت فاللهم اجعلنا من الشاكرين لأنعمك ما قلّ منها قبل ما جلّ.