بين التأويلات والصدمة التي هزّت بلدية بني حميدان التي تبعد عن مدينة قسنطينة بقرابة العشرين كيلومترا، حقيقة مرّة، هزت عائلة، حولتها الانتحارات شنقا من دون سبب واضح، لعدد كبير من أفرادها، إلى أتعس عائلة في العالم، فقد ارتفع الرقم خلال نهاية الأسبوع الماضي، إلى ستة، في شبه وباء فتاك، أتى على كبار العائلة وصغارها بطريقة رهيبة ونادرة.. كل هذا حدث في منزل يقع بحي شروانة عبد الحق ببلدية بني حميدان بولاية قسنطينة، حتى صار الانتحار شنقا، أشبه بالمرض المعدي أو الوراثي الذي ينتقل من فرد إلى آخر، وللأسف مازال السؤال المحيّر عن السبب النفسي أو العضوي أو الاجتماعي أو الروحي، من دون إجابة، ومازال اللغز يزداد تعقيدا من سنة إلى أخرى، وحتى زيارتنا لهاته البلدية ولقائنا بأهلها لم يحل الإشكال، بعد أن وجدنا أنفسنا بين تفسيرات غيبية، وأخرى ميتافيزيقية تجرنا أحيانا إلى عالم الجن، وأخرى نحو ضراوة المشاكل الاجتماعية، وبين هذا وذاك، الفاتورة بلغت الآن ستة أفراد أبادتهم مقصلة الانتحار شنقا والسبب مجهول. قوة خفية تجرّ المنتحرين إلى المقصلة؟ لم تسمح لنا حالة الحزن التي مزقت العائلة على آخر فرد من ضحايا الانتحار شنقا، وهو الشاب عبد الكريم. ب البالغ من العمر 25 سنة، من فتح باب المواجع مع أفراد العائلة ولا التجول في أرجاء البيت الذي شهد هذا الكمّ المريع من الانتحارات، فقد علمنا بأن البيت كان قبل الاستقلال المذبح البلدي، الذي حولته العائلة إلى مسكن على أنقاض دماء الماشية . كل سكان البلدية، يُجمعون على أن البيت مسكون بعالم من الجنّ، الذين رفضوا السكان، ثم أجبروهم على الانتحار شنقا الواحد تلو الآخر، ولم نجد في هاته البلدية من له رأي آخر، كلهم يردّون على أسئلتنا بسؤال آخر: لماذا اختاروا الموت شنقا داخل المنزل، وكلّهم ماتوا في الساعات الأولى من الصباح، يستيقظون من نومهم ويعلّقون أجسادهم بحبال وأسلاك كهربائية حتى يلفظوا أنفاسهم؟ أول حادثة انتحار في هذا البيت الغريب، وقعت سنة 1997، عندما أقدم صاحب المنزل، محمد.ب وهو والد ثاني منتحر في المنزل المسكون وجدّ بقية المنتحرين، على شنق نفسه بواسطة مجموعة من الملابس الخاصة بزوجته التي توفيت قبله وحزن عليها، حيث قام بربطها ببعضها البعض وعلقها في سطح غرفة نومه، عند استيقاظه مباشرة في حدود الساعة الخامسة صباحا، علق جسده بها إلى أن هلك، وكان ابنه عبد المجيد، أول من اكتشف انتحاره، فاعتقد الجميع آنذاك أن الجد انتحر حزنا على زوجته بعد وفاتها، خاصة أنه كان يبكيها ويذكرها باستمرار، ورفض قطعا الزواج بعدها، ونسج كثيرون قصة وفاء عاطفية جميلة، ومرّت السنين، ولم تتغير شكوك جميع سكان البلدية، فكانوا يروون حكاية عمي محمد، كمثال عن الوفاء إلى درجة الموت بمقصلة ثياب زوجته، إلى غاية سنة 2001، حين تكرّرت عملية الانتحار للمرة الثانية مع نفس العائلة، وفي نفس المسكن، وكان بطل الفاجعة هذه المرة الابن عبد المجيد، الذي اكتشف منذ أربع سنوات انتحار والده، حيث علّق نفسه هو الآخر بواسطة حبل، وشنق نفسه في الساعات الأولى من الصباح، وكان حينها قد أوشك على إتمام نصف قرن من عمره، فتحوّلت العائلة إلى مثال حقيقي في الوفاء، ظنا من الجميع بأن عبد المجيد انتحر للحاق بوالده المنتحر شنقا ووالدته المتوفاة، وفي نفس الغرفة، التي حوّلها عبد المجيد إلى عش الزوجية بعد أن أتمّ نصف دينه . ولكن بعد انتحار عبد المجيد، بدأ الحديث أيضا عن كون الغرفة المشؤومة بها خلق من العالم الآخر غير ساكنيها من البشر، وبدأت النصائح في اللجوء إلى الرقية، لكن بعد وقوع عملية الانتحار الثالثة التي كانت في غرفة أخرى من غرف المنزل غير الأولى التي شهدت انتحار الأب وابنه، صارت تهمة "المسكون" تعني المنزل بأكمله، المنتحرة الثالثة هي ليلى.ب ابنة عبد المجيد وحفيدة محمد، وكانت في الثانية والعشرين من العمر، وضعت حدا لحياتها بواسطة حبل علقته في غرفة نومها، بعد ذهاب شقيقتها للدراسة، مباشرة، أي في حدود السابعة والنصف صباحا، وأخلطت هاته الفاجعة كل التأويلات، وتضاربت الأقوال . لكن في رابع عملية انتحار التي وقعت في خريف العام الماضي، صار جميع سكان البلدية بمن فيهم المسؤولون، على يقين تام بأن المنزل مسكون، بعد أن هدأ بركان الانتحارات لعدة سنوات، ومسّت هاته المرة شابة أخرى هي حفيدة المنتحر الأول وابنة شقيق المنتحر الثاني وابنة عم المنتحرة الثالثة، ويتعلق الأمر بالمسماة يمينة البالغة من العمر حين أقدمت على الانتحار 31 سنة، حيث شنقت نفسها بواسطة حبل، وظلت معلقة به، إلى غاية أن بلغت سكرات الموت، فاكتشفها إخوتها، وتمكنوا من إنقاذها من الموت بأعجوبة، فمكثت ليومين في مستشفى بن باديس الجامعي بقسنطينة، ثم غادرت ففرح أهلها بنجاتها واسترجاع عافيتها ومعنوياتها . ولكن الفاجعة هزتهم بعد خمسة أيام من مغادرتها المستشفى، إذ وُجدت يمينة.ب جثة هامدة على حافة الوادي الذي يشق البلدية، إذ اختارت لنفسها طريقة أخرى للموت وهي الغرق، ولكنها بدأت بالشنق، وبدأ عام 2015 بالفاجعة الخامسة، في ثاني أيام شهر جانفي، حيث قامت شقيقة الراحلة يمينة الصغرى، والتي أنهت دراستها الجامعية وحصلت على عمل في ابتدائية ببلدية بني حميدان، في إطار عقود ما قبل التشغيل، ويتعلق الأمر بالمسماة بريزة 34 سنة، بشنق نفسها بسلك كهربائي في مطبخ المنزل، وبينما هزت حادثة بريزة الأهل، وأرجعتهم إلى أحزانهم القديمة، حتى فاجأهم نهاية الأسبوع الماضي، شقيقها الأصغر المسمى عبد الكريم.ب 27 سنة، أعزب، ويعمل في الفلاحة مع والده، على شنق نفسه أيضا، بواسطة حبل في غرفة نومه، بذات المسكن . والغريب أن الضحية وقبل قيامه بعملية الانتحار ببضع ساعات، كان يدردش بطريقة عادية من دون أي تشنج، رفقة أصدقائه على حسابه الخاص على الفايسبوك، وكان عبد الكريم خاتمة المنتحرين، الذين أنهوا حياتهم وأغلقوا صفحات أعمارهم، وفتحوا أبواب التأويلات، إلى درجة أن بعض أهالي البلدية رفضوا أن يحدثونا عن البيت وعن حوادث الانتحار الغريبة، خوفا من لعنة خفية لا أحد فهمها، وأكد لنا عضو سابق في البلدية، بأن المجلس الشعبي البلدي السابق، عرض على العائلة مسكنا لترك المنزل المشئوم، ولكن العائلة أصرت على أن تبقى في ذات المسكن الغريب. لا وجود لشيء اسمه وباء الإنتحار سألنا البروفيسور جمال الدين حميدة، وهو مختص في الأمراض العصبية عن تفسيره لهاته الظاهرة، التي ضربت هاته العائلة البائسة، فأقر بأن الإنتحار هو وضع غير طبيعي، وبالضرورة المنتحر هو مريض بلغ مرحلة يأس غير محدود، وانهيار عصبي حاد، فأفراد العائلة يعيشون في نفس الوضع مما يعني أن الأسباب الاجتماعية، هي نفسها، متوفرة بالنسبة لجميع المنتحرين، وربما أصبح الانتحار بالنسبة لهاته الحالة وسيلة للهروب من المشاكل، وتحوّل إلى شبه دواء، ولو تم التكفل النفسي والاجتماعي والصحي في أول الفاجعة بهاته العائلة، ما كانت لتحدث هاته الكارثة، وطالب البروفيسور جمال الدين حميدة وهو أستاذ في معهد الطب بقسنطينة، بإجراء تحقيق صحي كامل للعائلة، حتى لا يتواصل النزيف، معتبرا ما حدث، مرضا عقليا مؤكدا، وقد يكون وراثيا، أفرزه الوسط الذي يعيشون فيه، المتميز بالضغط الحاد. أما عن المنطقة التي يعيشون فيها، فهي من جنات الجزائر، حيث أن طبيعتها الخضراء ومنابعها العذبة لا تثير الأعصاب، بل من المفروض أن تكون علاجا للمعنويات المنهارة، وربما تواجدهم معزولين بعيدا عن المدينة هو الذي أزّم وضعهم العصبي، وهناك أطباء يخطئون في العلاج، عندما يأتيهم مريض نفسي هادئ، فيعطيه الطبيب دواء منشطا، فينتقل من الهدوء إلى الفعل الذي قد يكون الانتحار الذي أتى على جيل من هاته العائلة حسب الدكتور جمال الدين. البيوت الشؤم حقيقة ويجب مغادرتها حوّلنا القصة المؤلمة، إلى الدكتور عبد الكريم رقيق مفتي قسنطينة، والإمام السابق لجامع الأمير عبد القادر، فركز على ضرورة معرفة السبب الأول لهذه الانتحارات المتتالية بنفس الطريقة، أي الشنق وفي نفس البيت ومن طرف أفراد العائلة، فنصح أولا كل أفراد العائلة كبيرهم وصغيرهم، بأن يستعينوا بالله ويكثروا من الاستعاذة من الشيطان الرجيم، لأن الشيطان يتمكّن من ضعاف النفوس بالوسوسة، ويمكنه إقناعهم بالانتحار كحل لمشاكلهم، لكن ليس بالضرورة الجزم بأن ما يحدث في هذا البيت لهذه العائلة هو ما يُعرف عند عامة الناس بالبيوت المسكونة، فقد تكون العائلة تعاني من مشاكل نفسية نتيجة لظروف اجتماعية قاهرة، أدّت إلى إصابات عصبية وراثية انتقلت من الجد إلى الأحفاد، وقد يكون ما حدث للمنتحرين هو جنون مؤقت، لأن الانتحار هو لحظة ضعف وجيزة، ينهار فيها الإنسان ولا يستطيع مقاومة المعاناة، فيلجأ للتخلص من نفسه . وقال الدكتور رقيق للشروق اليومي، بأن البيت والزوجة ووسيلة النقل المشئومة، حقيقة لا يمكن نكرانها، وما على الإنسان سوى تجنبها، إذ توجد سيارات مثلا تتعطل باستمرار عندما يمتلكها شخص معيّن وبمجرد تغييرها تنتهي أعطابها، ونفس الشيء بالنسبة للبيوت، فهناك من تنزل عليه الكثير من المآسي بمجرد أن يسكن بيتا معينا، والحل هنا هو تغيير البيت كما في حالة ضحايا "وباء" الانتحار شنقا في بلدية بني حميدان، مع التأكيد بأن أعضاء البلدية أعربوا عن تضامنهم مع العائلة واستعدادهم لمساعدتهم في أي مطلب، وخاصة الحصول على مسكن بأي صيغة يرضونها.