أطلقت أرملة الممثل الراحل سيراط بومدين صرخة استغاثة، من خلال هذا الحوار الذي حاولنا أن نستحضر فيه روح الفنان المميز، الذي قدم الكثير للفن الجزائري من خلال تركه لرصيد معتبر من المسرحيات والأعمال التلفزيونية إلا أن النتيجة كانت إقصاء وتهميشا لعائلته التي لا تزال تقطن شقة مأجورة بحي إيسطو بوهران، تجتمع فيها 3 عائلات، تعيش على منحة تقاعد والدهم التي لا تتجاوز 20 ألف دينار. الشروق نزلت ضيفة على عائلة سيراط ونقلت معاناتها المرة. أول سؤال نستهل به حديثنا هل نال المرحوم سيراط حقه من الوزارة الوصية باعتباره أحد أعمدة الفن المسرحي بوهران بعد علولة؟ أرى أن التضحيات الجسام التي بذلها زوجي في سبيل النهوض بالفن لم تقابل برد الجميل، بدليل أننا لانزال نقطن شقة مأجورة، تابعة لمصالح ديوان الترقية والتسيير العقاري، أنا وأبنائي علما أن البنت الكبرى وشقيقها متزوجان ويسكنان معي أيضا بسبب أزمة السكن، أما أنا فأعيش على منحة زوجي التي لا تتعدى 20 ألف دينار.
لماذا تعتبرين رغم مرور 20 سنة على رحيل الفنان سيراط بومدين أنه شهيد المسرح ولم ينل حقه مثل باقي الشهداء؟ من خلال قصة وفاته سيتيقن الشعب الجزائري أن زوجي مات بميدان الشرف، مثله مثل المجاهد الذي يستشهد، حيث تم دعوته رحمة الله عليه من طرف المسرح الجهوي لولاية مستغانم، لتمثيل وهران في المهرجان الوطني للمسرح، حيث عين من طرف إدارة مسرح وهران من خلال أمر بمهمة، وقد عارضت الفكرة وتشاجرت معه، لأنه كان مرهقا بفعل توالي جولاته الفنية ومع ذلك أصر على المشاركة في المهرجان، وقد قلت له: "هناك العديد من الممثلين بوهران، لماذا لم يتم إيفادهم للتظاهرة"، فرد عليّ قائلا "المسرح وضع ثقته فيّ ويجب أن لا أخذله".
ماذا حصل بعدها؟ بعد تكريمه في ذلك اليوم أحس بمغص بمعدته، لكن في المساء تدهورت صحته وتقيأ الدم، فتم نقله إلى المستشفى وتم الاتصال بي، حضرت في اليوم الموالي، طمأنني بأنه بخير وطلب مني أن أعود لوهران لرعاية الأطفال، وهو سيأتي في اليوم الموالي، وأمام إصراره رجعت لكن للأسف مات يوم الغد، وقد أخبروني أنه رفض مرافقة بعض أصدقائه إلى بيوتهم بل فضل النوم في تلك الليلة المشؤومة على الركح بعدما جلبوا له سريرا ووسادة، وهذا دليل أنه أحب الفن والمسرح وفضل الموت على الركح، لكن ما حز في نفسي أكثر أن المسؤولين على المسرح آنذاك رفضوا تصنيف وفاته في خانة حادث العمل، رغم أنه سقط بالمسرح، والأدهى من كل ذلك أن وثيقة الأمر بالمهمة لم نعثر عليها مع أغراضه، وتم التخلص منها من طرف مجهول وإلا كيف أن كل ثيابه وأغراضه وصلتني مع جثة زوجي إلا الوثيقة لم يظهر لها أي أثر ....
هل اتصلت بمسؤولي المسرح لطرح الإشكال؟ لم يعيروا القضية أدنى اهتمام وقالوا لي بالحرف الواحد "زوجك كان ضيف شرف فقط، ولم يكن مشاركا في تلك التظاهرة"، وهنا يطرح السؤال هل زوجي كان في مطعم أو في قاعة حفلات أو غيرها من الأماكن؟ بل كان في المسرح والفنان جاهز في كل مكان وزمان لتقديم إبداعاته، وقد تعبت من البيروقراطية والشروط التعجيزية حتى أضمن حقوق زوجي الذي أفنى حياته لأجل الفن، ورفعت راية الاستسلام لكن حسبي الله ونعم الوكيل في من حرمنا من حقوق زوجي.
كيف تسيَرين يوميات عائلتك بتلك النفقة الشحيحة؟ والله بشق الأنفس ورجائي الوحيد من الجهات المسؤولة أن تمنحني محلا أو طاولة في إحدى الأسواق لأعيل أفراد عائلتي وأخلص ابني من شبح البطالة.
ما هي آخر الكلمات التي قالها لك قبل وفاته؟ أتذكر آخر مرة التقيت به حين زرناه أنا وابنته الكبرى بمستشفى مستغانم، نظر إلى صغيرته التي كانت تذرف الدموع قال لها لماذا تبكي والدك لن يموت، حتى يرفع من معنوياتها، ثم مسك يدي حين أردنا توديعه قائلا: "السماح بيناتنا أتهلي في الصغار".
ما هي أهم اللحظات المؤثرة في حياته الفنية؟ المرحوم كان يعشق الفن ويقدسه، بدليل أنه عجز عن حضور جنازة ابنته ثم والدته بحكم ارتباطاته الفنية الأولى بمهرجان أقيم بالدار البيضاء على شرف روح العملاق عبد القادر علولة، أما الثانية فقد كان منشغلا بعرض مسرحية التفاحة بمسرح قسنطينة، وحين وصله نبأ وفاة والدته، سقط على المباشر ثم سرعان ما تمالك نفسه وواصل العرض حتى ظن الجمهور أنها لقطة مندرجة ضمن المقطع، وبمجرد انتهاء المسرحية انزوى في غرفة وانطلق في البكاء على والدته التي لم يتمكن من حضور جنازتها، لأنه كان يحترم المسرح وجمهوره ويضحي لأجلهما.
وما هي أهم اللحظات الطريفة التي عاشها؟ مرة تم تكريمه بوهران من طرف السلطات المحلية، منحوه لوحة فنية، فابتسم المرحوم مستهزئا، وهناك طرح عليه المسؤول سؤالا عن سبب ضحكه، ليرد "أنا أفكر أين سأعلق اللوحة طالما أنني لا أملك أصلا بيتا يؤويني"، وهي دلالة عن عزة الفقيد وترفعه عن طرق أبواب المسؤولين رغم حاجته الماسة للمساعدات، لكن عزته كانت تمنعه من مد يده لأي كان ...
هل تأثر أحد أبنائه بوالدهم لشق نفس الطريق الفني؟ ابني رشيد كان مولعا بالمسرح، وقد أراد أن يحمل المشعل بعد أبيه، قضى أكثر من 10 سنوات على الركح لكنه قرر التوقف والهروب إلى فرنسا، بعدما لاحظ مدى التهميش الذي يعيشه الفنان سواء في حياته أو حتى بعد مماته، لاسيما أنه لم يجد هنا اليد التي تساعده وتأخذ بيده لبر الأمان، وقد اختار التجارة وهو أفضل حالا اليوم.
هل كنت تساعدينه في عمله؟ كنت أساعده على حفظ أدواره المسرحية، وأحيانا أذكَره ببعض الأمثال الشعبية والمعاني التي كان يوظَفها في سلسلتي عايش بالهف وشعيب الخديم.
نرى أن أغلب أعماله نقدية ونوع من الهجوم على النظام، ألم يشكل له ذلك متاعب؟ سيراط لم يكن يعرف للخوف معنى، إذا اقتنع بعمله يمضي قدما لتسجيله أو تصويره، والحقيقة تقال لم يكن يبوح بأسرار مهنته ومتاعبه لهذا السبب لا أدري إن كانوا قد ضغطوا عليه أو ضايقوه.
بعد اغتيال علولة، ألم يخش وقوع له نفس المكروه؟ كان يقول لي "يا مرا بعد قتل علولة ومجوبي الدور سيكون علي" لكنه لم يخش الموت يوما بدليل أنه واصل عمله وتنقلاته حتى في عز سنوات الجمر.
ألم يفكر حينها في هجرة البلاد مثلما فعل أغلب الفنانين؟ سأفشي لك سرا، لقد عرضت إحدى الفرق المسرحية التي كانت تنشط بكندا وفرنسا على المرحوم الانضمام إلى صفوفها مقابل عقد احترافي وإغراءات مادية ومزايا كثيرة، لكنه رفض، وثاني حادثة وقعت خلال أيامه الأخيرة حين عرض والي ولاية مستغانم على عائلته نقله إلى أحد مستشفيات فرنسا للعلاج، غير أن بومدين رفض قائلا "أنا ميت ميت أنموت في بلادي خير لي".
من هم أصدقاء سيراط بومدين؟ كانوا كثر، منهم من قضوا ومنهم من لا يزالون على قيد الحياة، الأموات أذكر الفكاهي حديدوان، الشاب حسني، أما الأحياء فهم كثر لكن لم يعد يزرنا أحد بعد وفاة بومدين.
لو تقابلين أعلى مسؤول في البلاد ماذا ستقولين له؟ أقول له كلمة واحدة، أنقذوا عائلة سيراط بومدين ....
كيف ذلك؟ أعيش على منحة هزيلة لم تعد تكفي مع غلاء المعيشة، ابنتي وابني متزوجان يقطنان معي في شقة واحدة هي أصلا مستأجرة، ابني الكبير يبلغ من العمر 42 سنة ولازال بطالا، هذا كله يحدث لعائلة عملاق قدم الكثير للفن الجزائري.