من المؤسف حقا أن يتحوّل القضاء المصري وبهذه الطريقة الدرامية والمتسارعة، من مفخرةٍ لمصر إلى مهزلة تثير سخرية العالم، كان هذا هو خلاصة رد فعل العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي أحيلت قضيته إلى مفتي مصر مع ما يزيد عن مائة حالة من قيادات الإخوان المسلمين من بينهم الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي، تمهيدا لتنفيذ حكم الإعدام فيهم. ولا ينتظر المتتبعون لهذه القضية أن يخرج رأي مفتي مصر عن رغبة النظام الانقلابي ومنظوره المتعلق بسحق المعارضة والانتقام من رموز ونشطاء ثورة 25 جانفي التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك. وإذا كان نظامُ المشير عبد الفتاح السيسي وزبائنه السياسيين والإعلاميين مازالوا يملكون من الوقاحة والجرأة على العبث باللغة وتدنيس معانيها باستخدام عبارات من شاكلة "القضاء الشامخ" و"القضاء المستقل"، فإن تعيين القاضي شعبان الشامي الذي أصبح يُعرف في بعض الأوساط الإعلامية باسم "قاضي الإعدامات" كان بمثابة مؤشر كاف وتحضير استباقي لنوعية الحكم المعد سلفا على معارضي الانقلاب. قاضي الإعدامات شعبان الشامي، يُعرف بأنه من أنصار نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، ومن المعارضين الشرسين لجماعة الإخوان المسلمين ولثورة 25 جانفي، ولم يكن يخفي ذلك، ورغم أنه قد تعرض، حسب تقارير صحفية، إلى تحقيق بتهمة إدارة شبكة دعارة خلال فترة حكم حسني مبارك، إلا أن كل القضايا التي تولى الحكم فيها في ملف الاتهامات الموجهة للرئيس الأسبق حسني مبارك وأبنائه صدرت بالبراءة. وعلى العكس من ذلك، تميزت أغلب الأحكام التي أصدرها في محاكمات المتهمين من الإخوان المسلمين بأشد الإدانات، وأقصى العقوبات، حتى إنه ليخيل للملاحظ أن الابتسامة الساخرة التي يرسمها على شفتيه أثناء جلسات المحاكمة هي مجرد انعكاس خارجي لمشاعر التشفي وغليل الانتقام المكتومة في نفسية "قاضي الإعدامات". ولأن شر البلية ما يضحك كما يقال، فعندما سئل عن قراره بإحالة أوراق فلسطينيين متوفين وآخر معتقل منذ عام 1996بسجون إسرائيل إلى مفتي الجمهورية فيما سمي بقضية "التخابر مع حركة حماس" وتهريب السجناء من معتقل وادي النطرون، أجاب أنه لم يتلق أوراقا تفيد بذلك. ولعل من حسن حظ الأسير الفلسطيني حسن سلامة أنه وقع في يد الأمن الإسرائيلي قبل أن تنظر في قضيته العدالة المصرية. أما مفتي مصر شوقي علام الذي ينتظر أن يصدر فتواه يوم الثاني جوان المقبل في مصير قائمة المحكوم عليهم بالإعدام التي تضم أسماء كانت إلى وقت قريب تشكل نخبة القيادة الدينية والسياسية في مصر أمثال الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية الشرعي، الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، المهندس خيرت الشاطر نائب رئيس جماعة الإخوان، الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب السابق، الدكتور محمد البلتاجي الأمين العام لحزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان وأكبر حزب سياسي بعد ثورة 25 جانفي... وعشرات السياسيين والدعاة المشهورين الآخرين، تميز مفتي مصر الحالي بكونه أكثر من شغلوا هذا المنصب في مصر تصديقا على أحكام الإعدام، فمنذ تولى مهامه في مارس 2013 بعد مصادقة الرئيس السابق محمد مرسي على تعيينه عقب انتخابه في هذا المنصب من هيئة كبار العلماء في مصر والتي كان الشيخ القرضاوي من أبرز أعضائها، اطلع المفتي على 865 حكم بالإعدام، أي بمعدل حكم بالإعدام في كل يوم من أيام شغله لهذا المنصب، كما كان قد أصدر في شهر نوفمبر 2014 فتوى أجاز فيها "قتل أبناء سيناء وتهجيرهم من منازلهم"! ورغم مرارة مجريات هذه القضية ومآلاتها الصادمة لمشاعر المحكوم عليهم فيها، وعلى نفسيات عوائلهم، وسلبية آثارها على سمعة مصر، فلم تخلُ مواقع التواصل الاجتماعي من تعاليق ساخرة ومستهزئة بأحكام القاضي شعبان الشامي، إذ سجل أحد المتابعين للقضية هذا التعليق: "الحكم بالإعدام على العلامة القرضاوي جاء بسبب أنه ضعَّفَ حديث خير أجناد الأرض" والحديث المقصود في التعليق هو الوارد في جزء من خطبة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قائد الجيوش الإسلامية التي فتحت مصر، وجاء فيه: " ... حدثني عمر أمير المؤمنين، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جُندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض...". وللمقارنة فقط، فإنه قبل بضع سنين أصدر القضاء الأفغاني حكماً بالإعدام على أحد المواطنين الأفغان بسبب ارتداده عن الإسلام، وأكد القاضي أنه سيدعو تطبيقاً للشريعة الإسلامية المحكوم عليه للعودة مرة أخرى للإسلام، ولن ينفذ فيه الحكم إذا تاب، أو إذا أثبت الطب أنه مريضٌ عقليا، ولكن لم يمض سوى يوم واحد على صدور الحكم الابتدائي من طرف القاضي الأفغاني حتى هبت من غرب الكرة الأرضية عاصفة هوجاء من الإدانات والتنديدات والتهديدات تجاه القضاء والحكومة الأفغانية، وقد صدرت ردود الفعل الغاضبة في وقت متزامن من الولاياتالمتحدةالأمريكية، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا، كندا، النمسا، استراليا، الأمم المتحدة، الحلف الأطلسي، الفاتيكان... فلم يبق أمام الحكومة الأفغانية التي وقعت بين نار التهديد الغربي المسيحي من جهة، وغضب الرأي العام الشعبي الداخلي المتمسك باحترام حكم الشريعة الإسلامية، سوى تسهيل تهريب المرتدّ الأفغاني إلى إيطاليا التي عومل فيها كلاجئ سياسي يستحق الحماية والرعاية. فأين حقوق الإنسان في قضية الحكم بالإعدام على عشرات النشطاء السياسيين والدعاة المسلمين بسبب المعارضة السياسية لنظام انقلابي كان من العدل أن يمثل رموزُه أمام القضاء بتهم قتل آلاف الأبرياء من المعتصمين والمتظاهرين في الشوارع والساحات والمضربين من الطلبة والطالبات في المدارس والجامعات؟!