حاولت في الحلقات السابقة، أن أقتصد في تسجيل تلك الملاحظات المتعلقة بهشاشة الأداء الطلابي و ضعف تأثيره و انحسار أبعاده بشكل يكاد يفرغه من محتواه و يشوه حقيقته، حتى نفسح المجال للوقوف عند أهم المعيقات التي تكبح تقدم العمل الطلابي و تعرقل انطلاقته الفعلية نحو آفاق أرحب و فضاءات أوسع، تتيح له فرصة التموقع و التعبير عن ذاته و المساهمة بشكل أساسي في صياغة التحول الاجتماعي، انطلاقا من الوسط الجامعي، كمركز إشعاع ثقافي و بناء حضاري و مشتلة للفكر التغييري، و مدرسة لإعداد إطارات الغد، لأن الأهم بعد حصر السلبيات هو البحث في المسببات حتى نفهم خلفيات التراجع بعيدا عن منطق التوصيف العقيم دون الوصول إلى خلاصات عملية تمكننا من وضع القاطرة على سكة الاستمرارية من جديد، كما أن تقصي المعوزات التي أفرزت هذا التخلف كفيلة برسم سبل الخروج من النفق، فضلا على أنها تكشف أقساط المسؤولية الواقعة على كل الأطراف، حتى لا تحتمل الحركة الطلابية كل أوزار الواقع الذي تجاوز بتحولاته العميقة إمكانات فعلها الموضوعية. فيما يلي محاولة لتقديم أبرز المعيقات الحادة التي يمكننا تأكيدها في يوميات النضال الطلابي:
1/ ضعف القاعدة الثقافية: دون القدح في أنساق التفكير الطلابي السائدة اليوم في الجامعة، فإن الجميع يدرك مدى التأثير السلبي البالغ لضعف القاعدة الثقافية في بلورة أرضية نضال هشة، ذلك أن تقاعس الاستعداد النضالي لتحصيل الحقوق والتطلع لمنجزات أفضل ناجم أساسا عن غياب الحس النقابي، و النضج السياسي لدى شرائح واسعة من الطلبة، أصبحت لا تعي للأسف أهمية النضالية في ترقية الحياة العامة للمجتمع. ثقافة مبنية على التبرم والاستياء من تداعيات الواقع الرديء دون أن ترقى إلى مستوى التفكير بأخذ زمام المبادرة الفردية والانسجام ضمن المشاركة الجماعية لصناعة التغيير نحو الأفضل. من الضروري في سياق تناول ضعف القاعدة الثقافية التي تحاصر آفاق الحركة الطلابية، أن نؤكد تشوه النظرة العامة لجدوى الانخراط في العمل الطلابي، وجهة نظر تبدو قاصرة تماما على استيعاب أهمية العمل الطلابي في بناء الشخصية القيادية المؤهلة لإدارة الذات و نسج العلاقات والقدرة البديعة على الظفر بالحقوق الشخصية، ومن ثمة التهيؤ لإحراز النجاحات الاجتماعية و المهنية. طبعا لا صلة لمثل هذا التفكير الذاتي بأنانيات، شريطة أن لا يكون مفصولا عن مبررات ومبادئ النضال الطلابي، بل في صلب التتويجات المستحقة لمسيرة العطاء والبذل. هناك عامل آخر في غاية الأهمية لا يمكن تجاوزه، أسهم في انكماش الوعي العام، مما دفع بالشرائح الطلابية إلى التقوقع داخل دائرة الحياة الفردية الخاصة، هو تبدد التوجهات الأيديولوجية في الساحة الجامعية نتيجة تحولات عديدة ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها. عندما خفتت توهجات الأفكار الحضارية المرتبطة بمشروع المجتمع المرتقب، انطفأت شرارة النضال الإبداعي، لتفقد الحركة الطلابية منهلا قويا طالما استلهمت من ينابيعه خطابات التعبئة والحشد لصولات السجال والمناكفة، بغية كسب النخب والجماهير إلى هذا المعسكر الأيديولوجي أو ذاك. أعتقد أنا هذا النسق الثقافي الذي حاولت استعراض بعض مشاهده، يعقد من مهمة العمل الطلابي في احتواء و تأطير الشريحة الطلابية، التي أضحت منقسمة بين مستخفّ في الغالب ومتوجس في بعض الأحيان.
2/ فقدان الأمل: عندما تحاول فهم عزوف الطلبة على المساهمة في الدفاع عن حقوقهم المشروعة بدل التشبث بموقع المتفرج، تواجهك شريحة غير يسيرة منهم بالاعتراض التالي: ماذا يمكننا أن نصنع، لن يتغير من الأمر شيء حتى لو مكثنا الدهر كله نصرخ ونحتج على سوء حالنا!!. ذلك هو منطق هؤلاء حول إمكانية تحسين ظروفهم الجامعية، أما مسعى إقناعهم بضرورة الانخراط في انشغالات الوطن وهموم الأمة فسيرتطم على صخرة اليأس والقنوط من جدوى حيل الضعيف الذي لا يسمع له صوت ولا يلبى له طلب. إن فقدان الأمل طيلة السنوات الأخيرة في تغيير الواقع على كافة المستويات، قد صقل دون شك نفسية الجماهير الطلابية بالإحباط من تحسين الأوضاع القائمة، سواء داخل الجامعة أو خارجها ضمن المطالب الوطنية وهموم الأمة، مما يؤدي بها إلى حالة اللامبالاة، و عدم الانخراط في مبادرات المنظمات الطلابية، حتى و لو كانت مساعيها جادة و نواياها صادقة. إن هذا اليأس المركب قد عزل الحركة الطلابية عن وعائها الجماهيري، مضيفا عبأ آخر على كاهل النضال الجاد.
3/ ضعف التكوين: لا شك أن ما تقدم ذكره من أسباب تكمن خلف الحضور الباهت للحركة الطلابية، مما أبطأ بها على تحريك الجماهير خلف مطالبها المشروعة، فضلا على عجزها المزمن في القدرة على تجييش الطلبة في مخاض التغيير والذود عن مقدسات الأمة، ليس كافيا لتبرير هذا الإخفاق. فالحقيقة أن أفراد العمل الطلابي أنفسهم بحاجة بالغة إلى تكوين عالي المستوى يضعهم في مصف القيادة المؤثرة، ذلك أن المؤهلات النقابية، الفنية، والسياسية لرواد الحركة الطلابية هزيلة جدا، لا تلبي رهان الاستجابة لمقتضيات التحكم والتأثير في حركة الجماهير المنفلتة. لكن الواقع يسير بخلاف هذا المطمح، فالاهتمام بتحديات التكوين تكاد تكون منعدمة، مع غياب إستراتيجيات تكوينية شاملة و عميقة، تغطي احتياجات العمل الطلابي بمختلف أبعاده، تمكن من مواكبة متطلبات الأدوار الراهنة و المستقبلية للحركة الطلابية كشريك جامعي فعال، ثم كفاعل رئيس في عملية التغيير و ركن أساسي في الممانعة الحضارية للأمة. لقد تحولت في العصر الحديث أساليب الفعل التطوعي و أصول العمل الجماعي بكل تفريعاته إلى علوم قائمة بذاتها، تدرس في فنون الإدارة ومجال العلوم السياسية وعلم الاجتماع وغيرها، بيد أن التنظيمات الطلابية لا زالت تراكم الميكانيزمات الموروثة من عقود، وفي كثير من الأحيان تلاشت حتى الأبجديات التي لا مناص منها في مزاولة العمل النضالي، بفعل التراجع الميداني ونقص الممارسة، مما أدى إلى ضمور تلك المسلّمات البديهية. فاقد الشيء لا يعطيه، حكمة أضحى معناها يترجم واقع الحركة الطلابية التي تصدرت مقدمتها رموز لا تحوز ملكات القيادة، بل لا تسعى لاكتساب أشراط التميز الايجابي. لذا لا عجب أن تنكفئ تلك الحركة الطلابية على نفسها، إذ أنها لا تستطيع مواجهة الآخرين بمواقفها أو التعبير بشكل علني عن أفكارها، فأبناؤها يفتقدون للثقة في أنفسهم، لعدم صلابة قناعاتهم من جهة، وعدم تمكنهم من آليات التواصل الفعال من جهة أخرى. إن ضعف التكوين في حقل الحركة الطلابية، سيفضي حتما بهذه الأخيرة إلى الفشل الذريع في تحقيق أي من أهدافها المرومة، بل على النقيض من ذلك، ستدفع الثمن باهظا من جهد ومستقبل أبنائها.
4/ ضعف الهيكلة التنظيمية: إن الوصول إلى أهداف الحركة الطلابية مرهون بشكل أساسي بوجود هيكلية قوية للتنظيمات الفاعلة منها على الأقل. تتجسد تلك القوة التنظيمية في حالة الانتشار المتوازن عبر أقطار الجامعة، مسنودة بحالة التماسك والاستقرار التنظيمي الذي يتيح لها القدرة على التجنيد ويمنحها شرعية التمثيل. لكن تفحص الحالة التنظيمية الحالية لمكونات الحركة الطلابية يحيلنا إلى غموض كبير يكتنف مستقبلها في ظل الانكماش الهيكلي وتآكل كثير من أذرعها، في مقابل تمدد جغرافي غير مسبوق لمرافق الجامعة الجزائرية. والسبب هو أن التنظيمات الطلابية تفتقر إلى هياكل حقيقية تتمتع بالصلابة والاستقرار والتجدد، تمكّنها من الحفاظ على تواجدها المتوازن عبر كافة المؤسسات الجامعية، فضلا عن تغطية التوسع الجامعي المستجدّ. فالترهل التنظيمي الناتج عن أسباب ذاتية محضة وكذا الانتشار الاستثنائي لهياكل الجامعة الجزائرية، قد ضاعف من متاعب الحركة الطلابية في الاضطلاع بتجسيد برامجها وانجاز أهدافها، لأداء رسالتها إن كانت موجودة بالطبع.
5/ غياب ثقافة الديمقراطية: طبعا الهشاشة التنظيمية التي تميز هياكل الحركة الطلابية لها أكثر من مبرر موضوعي، لكن العوامل الذاتية تعتبر حاسمة في تقرير مصيرها مهما استفحلت الضغوطات الخارجية. في مقدمة تلك الأسباب القاصمة هو التخلي عن الثقافة الديمقراطية في تقاليد الفعل الطلابي والممارسات التنظيمية، إذ أن المتأمل في أصداء الاستحقاقات وإدارة التداول على المسؤولية يُصدم لحجم التسلط والفردانية وتجاوز الآليات الديمقراطية في صناعة القرار وانبثاق القيادة. وإن وُجد حدّ أدنى من التزام قواعد الديمقراطية لدى البعض، فإن الصورة الجميلة سرعان ما تشوّه بتمرد الطرف الخاسر على نتائج المنافسة، ودخوله لعبة لي الذراع والمقايضة بشق الصف وتكسير التنظيم. لذا أصبح في حكم المؤكد أن لكل مؤتمر طلابي ضحايا كُثر يسقطون على طريق الإقصاء أو يجلسون على رصيف الأنانية. إن غياب الثقافة الديمقراطية المتجردة لدى قيادات الحركة الطلابية تحديدا، تعرض هياكلها لحالات الاهتزاز المتوالية و غياب الاستقرار التنظيمي وحتى الانقسامات الداخلية، مما يجعلها لقمة سائغة لإدارة الوصاية في معركة كسب الشرعية التنازع بشأنها، و يكبح قدرتها على الفعل الطلابي، فضلا عن المبادرة و الإبداع و قوة الاقتراح.
6/ يُتم الحركة الطلابية: لأسباب كثيرة ومتباينة أحيانا، تتراوح بين تقصير القيادات الجديدة وانقطاع الكوادر السابقة على طريق النضال، زهدت إطارات العمل الطلابي عبر أجيال متلاحقة في نقل تجاربها النضالية. لقد آثرت الانعزال بعيدا عن محيط لم يعُد يروقها، وربما غفل عن أفضال سابقيه، فاعتقد أن عجلة التاريخ بدأت بميلاده. المهم أن هذا الواقع الذي وجدت فيه الحركة الطلابية نفسها مرغمة وضعها في خانة اليتم الأدبي. فحتى الآن تبدو كوادر العمل الطلابي غير معنية بترجمة رصيدها إلى أفكار منهجية، من شأنها أن تساهم في تفعيل الحركة الطلابية و توجيه مسارها. ما هو متوفر في هذا المضمار على ندرته، لا يعدو أن يكون سيرة ذاتية، أو سرد كرونولوجي لوقائع و أحداث مبتورة عن سياقاتها التاريخية، و بمعزل عن إرهاصات الميلاد و النشأة و ظروف العمل الطلابي. إن هذا الانقطاع غير المبرر بين الأجيال قد عمق حالة التيه التي يتخبط فيها الفعل الطلابي، أضف إلى ذلك غياب كفاءات طلابية بارزة بإمكانها سدّ الفراغ.
7/ الفراغ العلمي: إذا كان لانكفاء الإطارات الطلابية أكثر من تفسير بين الأسباب الشخصية والعامة، فهل يُعقل أن تنتقل العدوى إلى المنشغلين في حقول البحث والمعرفة الإنسانية؟!. إذا تجاوزنا بعض الكتابات التاريخية التي تناولت إسهامات الطلبة الجزائريين في ميدان الكفاح الوطني، فإن عقدين من التعددية الطلابية منذ عام 1989 على الأقل، لا تزال مادة خامّة لم تطلها اهتمامات الباحثين بالتحليل والاستشراف. فنحن لا نحصي مقالات علمية ولا دراسات ميدانية تتقصى أثر الحركة الطلابية التعددية في الجزائر، إلا ما توارى عن أنظارنا ربما لقلّته. فهل يكفي أن تُنتقد الحركة الطلابية من طرف الجميع دون أن تجد سندا من أي جهة تضع أمامها معالم الفكاك من واقعها المُعطّل لقدراتها الحبيسة تحت أدراج النقد السلبي المتبرئ من أي مسؤولية تجاه متطلبات البناء والنهوض بها، كأنّنا أمام صورة للتشفي والانتقاص الهدام. إن الحالة الطلابية بحاجة ماسة إلى بحوث معمقة لواقعها الراهن، بهدف فهم تفاعلاتها في إطار التوجيه و تحديد أولوياتها ضمن سياق التحولات المجتمعية، باعتبار الجامعة مؤسسة علمية تتكفل في بعض وظائفها المعرفية باستقراء الظواهر الاجتماعية و تحليل الأفكار المؤسسة لها، لكنه يظل الدور المفقود في مهام هيئات البحث العلمي حتى الآن فيما يتعلق بدراسة الحركة الطلابية.
8/ حداثة التجربة الطلابية: إذا كان ثمة من أسباب موضوعية تشفع للحركة الطلابية في تعثراتها المتوالية، فهي حداثة تلك التجربة الفتية. ذلك أن عقدين من الزمن تعد فترة وجيزة في عمر المنظمات الناشئة، لاسيما إذا ما انعدمت فرص العمل التنظيمي في المرحلة السابقة لميلادها، فهي تبدأ مسيرتها من الصفر. فنحن بحاجة إلى مزيد من الوقت قصد تأسيس تقاليد عمل طلابي محترف على الأقل في جوانبه التنظيمية، المادية، والفنية، يتجاوز موروثات عهد السرية والأحادية ويطو ِّر من ملامح النشأة الأولى. لعل من سوء قدر الحركة الطلابية التعددية في الجزائر، أن تتزامن ولادتها العسيرة مطلع التسعينات مع حالة الانفلات الأمني، الذي نجم عنه تضييق في مجال الحريات الفردية والعامة، وهي من دون شك ظروف حرجة تركت بصمتها على المنحى البطيء لحركة الفعل الطلابي، عندما رسمت سقفا محدودا لمجاله الحيوي سلفًا. لا يخفى على بصير بحقائق الحركات الجماهيرية، أن ازدهار العمل الطلابي و ارتقاء أدائه مرهون بتطور الفعل الديمقراطي، وتوسيع هامش الحريات المتاحة في كنف الاستقرار السياسي و الاجتماعي للمجتمع ككل. كما أن هذه التجربة الجديدة نمت في عفونة المنظومة الحزبية النفعية التي انتحلت كل الصفات لتحويل الممارسة السياسية من خدمة عمومية نبيلة إلى سجل تجاري شخصي وعائلي، هذا التهافت المادي كان له صداه في تفكير شباب يُقبل على الحياة الاجتماعية المعقّدة مُحمّلا بهواجس تأمين المستقبل!. ما زاد الطين بلّة، هو الحالات الموسمية للانشطار النووي للتشكيلات الحزبية عشيّة كل استحقاق، الذي يُلقى بشظاياه على زجاج البيت الطلابي، فتنكسر منه النوافذ والأبواب، وربما وقع السقف على رؤوس قاطنيه تحت وقع ضربات الإخوة الفرقاء في معركة الهيمنة على الأذرع!. لم يكن هذا الإسهاب العرضي رغبة في البحث عن قشّة نعلّق عيها ويلات الإخفاق، نبرّر من خلالها أوجه الفشل لإراحة الضمير وتبرئة النفس، لكن من عاشر الصفوف الأولى لقيادة العمل الطلابي يدرك أثر هذا الواقع على الحالة القائمة، وانعكاسه الحاد على معنويات المناضلين في علاقتهم برؤية المستقبل وإمكانية حدوث التغيير.
9/ الوضع العام للجامعة الجزائرية: لا شك أن الوضع العام الذي تراوح فيه الجامعة على كافة المستويات، بقدر ما أتاح للحركة الطلابية مسوغات تعبئة الجماهير والتعبير عن نفسها كممثل حيوي لمصالح الشريحة الطلابية وحامل لانشغالات الأسرة الجامعية، فقد أثقل كاهلها بحمل مُوهن، استنزف كثيرا من جهودها، وحال دون اضطلاعها بكثير من مسؤولياتها الثقافية، الوطنية، القومية والإنسانية. فما تعيشه الجامعة الجزائرية من خلال جملة المشاكل المتلاحقة التي تتخبط فيها، جراء التعثر والقصور في مشاريع الإصلاحات الجامعية التي تتم المبادرة بها في كل مرة، يفرض المزيد من الضغوط و التقييد في عمل الحركة الطلابية ضمن ترجيح الأجندة المطلبية، ويعمق تمرغها في وحل الاحتجاجات التآكلية، على حساب أدوار كثيرة تنتظرها في ميدان العطاء المفتوح ضمن أبعاد الفعل الطلابي الحضاري. إذ نعرض تداعيات الوضع العام للجامعة على مردود الحركة الطلابية، فإنه لا ينبغي التغافل عن مدى تفشي الانحرافات النضالية في صفوفها كنتاج لإفرازات الفساد الشامل الذي ينخر الكثير من مفاصل الجامعة الإدارية، العلمية، والأخلاقية.
10/ تخلّف الذهنية الرسمية: لا يمكن أن تترعرع حركة طلابية في مناخ الاستبداد الإداري، محاصرة بقيود التسلط الذي تشكلت في كنفه ذهنيات بعض المسؤولين في مستويات مختلفة. ربما يبدو التوصيف للبعض مبالغا فيه، لكن ممارسات بعض الأوصياء في القطاع عبر كثير من المناسبات تمنح المبنى معناه الثقيل، كون الجامعة فضاء متحضّر بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، تفرض عليه الترفع الحضاري على كل التصرفات البدائية المتخلفة التي تدوس القانون و تتنافى مع أدبيات الحياة الجامعية المبنية على ثقافة الانفتاح والحوار بدل الاحتكام إلى منطق " ما أريكم إلا ما أرى ". لقد عانت الحركة الطلابية طيلة سنوات من الاصطدام بعقلية التحجر ذات الاتجاه الأحادي العدائي التي تؤدي إلى كهربة الفضاء الجامعي في كثير من الأحيان بفعل الانسداد، من خلال إجراءات التسخيرات الأمنية و الاحتماء بالمتابعات القضائية الجائرة، وتطويع الهيئات التأديبية الداخلية طمعا في الترهيب وثني العزائم. كيف يمكن أن تكون الحركة الطلابية سندا إضافيا في تطوير منظومة تعليم تقع تحت سلطة وصاية تذيق ذرعا بالنقد لأدائها، بل تسعى جاهدة لاستجداء المدح نظير صنيع لم تشرُف به. في مثل تلك المناخات الرجعية، تدفع ضريبة مواقفك الجريئة ثمنا باهظا عبر سلسلة طويلة من سلوكات الانتقام، من خلال التضييق بمختلف صوره ونهج سياسة تجفيف المنابع وقطع الامتيازات المكفولة كحقوق مشروعة. رغبة في تجلية المؤشرات المتصلة بهذا العائق المصطنع، لا يفوتنا بهذا الصدد ، أن نتحلى بالشجاعة الأدبية، لنقرّ بعدم جديّة الإرادة السياسية في أن تخوض الحركة الطلابية غمار المواقف الساخنة، إذ تؤثر إلحاقها بنادي حلفاء السياسة الحكومية.
11/ النزاعات المحمومة: لقد انعكست سلبا رداءة المشهد النضالي على علاقات التيارات الطلابية فيما بينها من جهة، ومع الجماهير الطلابية من جهة أخرى، لتنشأ خصومات بينيّة غير مؤسّسة عبرت عنها الصراعات المضنية ومظاهر التنافس غير الشريف، المقنّعة بحرية الرأي وتعدد التوجهات والأفكار، غير أنها لا تعدو أعمال قطاع الطرق!!، بلغت مداها في أحداث أليمة عديدة، إذ سيبقى اغتيال الطالب رشيد سعدي قبل بضعة أعوام بجامعة تلمسان على اثر انتخابات لجنة مقيمين، شاهد فجيعة و وصمة عار في جبين طلائع الحركة الطلابية التعددية في الجزائر. ليس في نيتي أن أنكأ الجرح، ولكن الحقيقة المرة التي وجب أن نقرّ بها جميعا، هي أن كثرة التنظيمات في الجامعة لم تكن مرآة لتعدد الفكر والايدولوجيا، فضلا على أن تكون عامل ثراء وقوة تجنيد وتعبئة للدفاع سويا عن حقوق الطلبة المادية والمعنوية، مما ضيع فرصا ثمينة وبدد جهودا كبيرة، دون تحقيق نتائج معتبرة يمكن أن تسهم في تغيير عميق لواقع الجامعة الجزائرية. إن ثقافة العداء الذي صار يميز سلوكات التنظيمات الطلابية و يطبع علاقاتها الثنائية بدلا من التكامل و اعتبار التعددية مصدر قوة للأفكار و تنوع في الوسائل ، تطعن في نزاهة هذه الأخيرة، وتقدمها للرأي العام في صورة اللاهث خلف المصالح، إذ أن التجرد من الاعتبارات الخاصة يُفترض أن يدفعها إلى الوحدة والتنسيق على الأقل في كثير من المبادرات والمواقع، فلماذا تتطاحن بل تخوض أحيانا إقصاء لأطرافها بالوكالة عن إدارة متعفّنة ؟!.
12/ تمييع الحركة الطلابية: هل صارت التعددية الشكلية هي الغطاء الأمثل لإجهاض المشروع الطلابي الجاد في الجزائر؟، للأسف فإن تتبع حقيقة ما يسمّى تضليلا بالتعدد التمثيلي للطلبة يُحيلنا إلى الرد بالإيجاب على هذا السؤال. ربما يستغرب البعض من هذا الطرح، باعتباره من الناحية النظرية معاكس للإجراءات الدستورية والقانونية الناظمة للحياة الديمقراطية. بيد أن هذا الغموض الظاهري سيتبدّد سريعا بتفصيل بعض الحقائق المتعلقة بواقعية هذا الحضور التعدّدي ومدى توافر آلياته التنافسية من الناحية الميدانية. لا نعتقد أن منتهى التعددية هو إغراق الجامعة بكائنات طفيلية تُوصف في أوساطها "بمنظمات المحفظة والختم" لا يُعرف لها حسب و لا يُدرك لها نسب، دون خلق آليات فرز تنافسي شفاف تُعطي لكل فصيل حجمه الطبيعي، لتنهي إشكالية شرعية التمثيل حتى يُغلق باب المزايدات الباطلة ممن ينصّبون أنفسهم حماة لمصالح الطلبة المتنازع عليها. طبعا لا يمكنني بتاتا أن أُنكر وجود إطار مبدئي وأرضية تشريعية متوّجة بهيئات وساطة بيداغوجية ولجان اجتماعية للمقيمين وحتى مجالس إدارة منصوص عليها في النظم الداخلية للمؤسسات الجامعية، لكنها تظل حجّة أخرى على مسؤولية الوصاية في تمييع التمثيل الطلابي، ذلك بأنها قوانين معطّلة عمليا إلاّ في النادر من الحالات التي لا يقاس على مثلها. إن تجميد هذه النصوص متعمّد في نظري لحاجة في نفس يعقوب، بغرض تقزيم الأطراف القوية حتى لا تتمكن من الإمساك بأدوات الضغط ولا تتأهل سياسيا للكلام باسم الجماهير الطلابية، لذا يتم غظ الطرف عنوة على هذا الواقع حتى يتسنى تحريك البقية في أدوار مرسومة ومهام موكلة وفق البحث على ضمان سياسة التوازنات غير الموضوعية، فهي مبنية على شكلية التعدد دون منح فرصة واحدة لكشف حقيقة الوعاء الطلابي، و الامتداد الجماهيري. إن ترك ساحة التمثيل الطلابي كلأ مباحا لكل وصولي و طامع ذي أغراض دنيئة بتواطؤ مفضوح من هنا و هناك، يُعيق نضج الحركة الطلابية في الاتجاه الصحيح ويهدم ثقافة الديمقراطية والتنشئة السياسية السليمة لأجيال المستقبل.
13/ ضعف شبكة العلاقات العامة: تعتبر الحركة الطلابية مكوّنا رئيسا ضمن نسيج المجتمع المدني، تتقاطع كثير من وظائفها مع أدوار العديد من الفعاليات الأخرى وحتى مع مسؤوليات بعض الواجهات الرسمية، مما يمنحها فرصا ثمينة لصناعة شراكة عمل فعالة على أكثر من صعيد، باعتبار أن تلك الجهات ربما تملك الإمكانات المادية والخبرات الفنية، في حين تزخر الحركة الطلابية بالسواعد الحيوية وتتحرك في فضاء مثالي من حيث خصوصيات مكوناته الكمية والنوعية. لكن من المستغرب أن تظل القطيعة قائمة بين هؤلاء الفرقاء على حساب أهداف متقدمة تبقى بعيدة عن المطامح بفعل ضعف العمل المشترك بين هذه الأطراف. حتى أضع القارئ في صورة ما أعنيه بهذا الكلام، أتوجه بالسؤال الصريح إلى تنظيمات الحركة الطلابية، ما هو حصاد الانجاز المفترض مع هيئات متاحة سبل الشراكة معها بأيسر الطرق من قبيل: المجلس الأعلى للغة العربية، المجلس الإسلامي الأعلى، مركز دراسات تاريخ الثورة، الهلال الأحمر الجزائري، المتحف الوطني للمجاهد، وزارة الثقافة، وزارة الشباب والرياضة، وزارة المجاهدين....الخ. كنت أتمنى أن أرى مبادرة مشتركة أو عقد برنامج واحد يمكن أن يُسهم في تعزيز قدرات وجودة العمل الطلابي. إذا كان مجال الالتقاء محدود إلى أبعد نطاق في الإطار الوطني المحلي، فالنتيجة قطعا أنه أشدّ انحصارا على المستوى الدولي الخارجي. إن ضعف العمل الخارجي في حركة التنظيمات الطلابية يُضيّع على المواقف الدولية للبلاد فرص إسناد مهمة، ويُجرّد الجهاز الدبلوماسي من أدوات ناجعة على درب السياسة الخارجية، إضافة إلى أنه يحول دون الاستفادة من التجارب العالمية و إمكانية إبرام اتفاقات صداقة و تعاون و تبادل للخبرات و التجارب في ميدان التكوين و تقاليد العمل الطلابي. هل يُعقل أن بلدا بحجم الجزائر من حيث الرصيد التاريخي والإمكانات الهائلة في مختلف الميادين، زيادة على الموقع الجيوستراتيجي والأسبقية في مجال الحريات النسبية، يفتقر إلى فضاء دولي يعرّف بالعمل الطلابي، بما ينقل التجربة الطلابية الجزائرية و يضعها في موقع تماس مباشر مع الآخرين، يمكن أن يؤثّر في صياغة مستقبل يصب في خدمة المصالح العليا للبلد. أليست الجزائر بوابة إفريقيا وخصر المغرب العربي، يتوجّب عليها الطموح لتكون مركز الثقل الأساسي في الإقليم والقارة، بعدما بدأت كفة موازين القوى ترجح إلى إرادة الشعوب، نأمل أن تصحو الرؤية السياسية العامة بهذا الاتجاه المستقبلي الإستراتيجي لدى الجميع، بما يُعيد الاعتبار لأهمية الدبلوماسية بكل أشكالها.