هل يجوز لعاقل بعد الاجتياح الروسي لجورجيا، أن يعول على ما يسمى بالشرعية الدولية والقانون الدولي؟ وهل يسلم من التهمة بالسفاهة والطيش من يعول اليوم على الجيوش الوطنية النظامية في الدفاع عن السيادة والوحدة الترابية؟ أم أن العاقل إنما من يخير شعبه بين أحد الأمرين: الاستسلام لمنطق القوة وقطع حبل الرجاء من القانون الدولي، أو الذهاب إلى خيار بديل يسند فيه الأمن القومي لمقاومة شعبية تردع العدوان كما فعلت المقاومة في لبنان؟ * في بحر أسبوع، فقدت جورجيا وإلى الأبد، ثلث أراضيها، ونصف ساحلها على البحر الأسود، والتحقت بقائمة الدول المهددة بالتفكيك، على قدر ما نراه من إعادة تشكيل مناطق النفوذ بين القوى العظمى في القارات الخمس، مع بداية العودة لعالم متعدد الأقطاب، تقتسم غنائم الغاب بقانون الغاب. * المواجهة العسكرية الروسية الجورجية تستوجب الوقوف عند ثلاثة دروس في الحد الأدنى: جناية الحكام بلا روية على شعوبهم، تدفع ثمنها الشعوب من دمها ومن ثرواتها، ومن سيادتها على أراضيها. وجناية الأقوياء في العالم على الدول والشعوب المستضعفة بلا رادع، مما يسمى بالشرعية الدولية، التي تنفذ بقسوة على الضعفاء خاصة. وجناية الدول الصغيرة على نفسها وعلى شعوبها، بهذا الإصرار السفيه على الاحتفاظ بنظم دفاعية مكلفة، موروثة عن زمن قد ولا. * * أجناؤها أبناؤها * جناية الرئيس الجورجي في حق شعبه بينة، قد أكدها أمس وزير الخارجية الفرنسي الذي تسبب للحكومة الجورجية في ارتكاب أخطاء وسوء تقدير، تجيز في الحد الأدنى للشعب الجورجي أن يتابعه بتهمة الخيانة العظمى، بعد أن زج بدولة صغيرة في أتون صراع مع دولة عظمى، ورهانه الفاسد على نجدة غربية لم تأت، كما عول قبله زعماء غرر بهم، وراهنوا على حسابات خاطئة، بدءا بحكومة الأرجنتين في حرب الأوكلاند، والرئيس اليوغوسلافي في حرب البلقان، والرئيس العراقي الراحل في غزو الكويت، والتغرير الذي خضعت له أحزاب الموالاة في لبنان، قبل أن تستعيد قليلا من الرشد. * أصدق ما يوصف به، ما جرى في الأسبوع المنصرم، أن يقال في حق الرئيس الجورجي ما قاله العرب في حق براقش وقد جنت على أهلها. وأقرب مثال عن حمق الرئيس الجورجي وسذاجته، ما اقترفه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين حين أوحت إليه نفس الجهة التي أوحت إلى ساكاشفيلي، مع فارق يشفع للرئيس العراقي، وهو يحاول ابتلاع إمارة الكويت، وليس بالإمارة، كما في جورجيا، أقلية قد تستصرخ دولة عظمى، بدافع رابطة الدم واللغة. كما كان يفترض من ساكاشفيلي أن يحذر الاقتراب من أوسيتيا بأغلبية سكانها من الروس، ولم يكن ساكاشفيلي قد قدم للأمريكان من الخدمات، ما كان قدمه صدام، بوقف زحف ثورة الملالي الإيرانية. * * حق النقض وحق الانقضاض * الشرعية الدولية التي عول عليها ساكاشفيلي، حين استبعد ردة الفعل الروسية العنيفة، ظلت غائبة، كما غابت عن ردع العدوان البريطاني على الأرجنتين، وجيرت في العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، وصمتت أمام القمع الصيني لأتباع الدلاي لاما، وسوف تظل غائبة كلما تعلق الأمر بعدوان يأتي من دولة مالكة لحق النقض في مجلس الأمن، أو من دولة ترعاها إحدى الدول الخمس. وهذا مثال آخر، يفترض أن يدفع الدول والشعوب الصغيرة إلى قطع حبل الرجاء مما يسمى بالشرعية الدولية ومؤسساتها التي تستأسد فقط على الغبابيث والضعاف من الدول والأمم. * بجميع المقاييس، نحن أمام جناية عظمى في حق ما يسمى بالشرعية الدولية والقانون الدولي، ترتكبها حصرا الدول العظمى، التي ائتمنتها معاهدة سان فرانسيسكو على الأمن والسلم الدوليين. من الصعب اليوم على أستاذ العلوم السياسية، أو القانون الدولي أن يقنع طلابه، وهم يرون عبث الدول الكبرى بالأركان التي قام عليها القانون الدولي، وقد نحتاج إلى مراجعة المقررات التعليمية بهذه الكليات، حتى لا نخرج جيلا من الإطارات يسهل خداعهم، كما سهل انخداع الرئيس الجورجي الغر، وأمثاله، كما انخدع فيكتور هيغوا في مناسبة مماثلة، فادعى "أنه إذا كانت القوة معكم فإن الحق معنا". لأن القانون الأهلي أو الدولي على السواء هو على الدوام مع القوي. بما يصدق قول نيتشه: "أن الحقوق لا تنشأ إلا بشرط إحقاق اللامساواة في الحقوق". * * ما حك جلدك إلا ظفرك * بعيدا عن تحميل الرئيس الجورجي الغر، وزر ما لحق ببلده وشعبه، بسبب الانقياد الأعمى إلى ساحة الصراعات بين دول عظمى، فإن المواجهة العسكرية الشرسة التي قادت إلى انهيار الجيش الجورجي في اقل من ثلاثة أيام، تعود من جديد لتطرح بإلحاح على الدول الصغيرة، بأحجام جورجيا والعراق والسودان، والكثير من دول الجنوب، واجب إعادة النظر في مفهوم الأمن القومي، وأنظمة الدفاع عن السيادة التي لم تعد تفي بها الجيوش النظامية، حين يتعلق الأمر بمواجهة قوة عظمى، والاعتبار في المقابل، بالمثل اللبناني، الذي استطاعت فيه المقاومة إبطال اجتياح عسكري إسرائيلي كان أعنف، وأقوى، وأكثر جهوزية من الاجتياح الروسي لجورجيا. * من الصعب على دول مثل دولنا، نشأت في قالب الدولة القطرية الغربية في القرن التاسع عشر، حول مفهوم الجيش النظامي، أن تنجز قطيعة إبيستملوجية مع هذا الخيار، حتى ولو كان بين يديها أمثلة كثيرة عن الانهيارات السريعة للجيوش النظامية أمام جيوش أكثر جهوزية، وأحسن تسليحا. فقبل أن نسجل انهيار الجيش العراقي في بحر ثلاثة أسابيع أمام الآلة العسكرية الأمريكية، كانت الحرب العالمية الثانية قد منحتنا نموذج انهيار جيش دولة عظمى، مثل فرنسا، في أقل من ثلاثة أسابيع، أمام فرق الفيرمات الألمانية، ولم يصمد الجيش البولوني سوى ساعات، وانهارت الجيوش العربية في ستة أيام أمام الحرب الخاطفة الإسرائيلية، وحتى يومنا هذا ما يزال النموذج السويسري من أفضل النماذج الدفاعية لبلد صغير يستطيع أن يجند في بحر ساعات عشرات الفرق الدفاعية المعدة للقتال، دون حاجة إلى جيش نظامي محترف، مع تعزيز هذا الخيار بموقف الحياد من الصراعات التي تنشأ بين الأمم. * الاقتناع بوجوب البحث عن صيغ دفاعية حديثة، رادعة بشكل من الأشكال لما حدث في يوغسلافيا والعراق وأفغانستان وجورجيا، وما سيحدث غدا في السودان وسورية، وما قد تتعرض له دول تقع على خط تقاطع مصالح الدول العظمى، مثل دول الخليج والدول النفطية على وجه التحديد، هذا الاقتناع، يحتاج إلى قراءة عسكرية وسياسية للكثير من الأمثلة المعاصرة، وفوق ذلك، إنجاز قراءة جيدة للتطورات الحاصلة في الساحات الجيوسياسية المتحركة على الدوام. * * قرن قراصنة النفط * باستثناء حرب البلقان التي قد تدرج في سياق إنهاء تفكيك النفوذ السوفيتي من جهة، وتفجير مبكر لقنبلة البلقان الإثنية والدينية، التي أشعلت من قبل أكثر من مواجهة في قلب أوربا، فإن معظم الأزمات والحروب التي حصلت في العقود الثلاثة الأخيرة كانت بخلفية وضع اليد على منابع النفط، والممرات الآمنة لضمان تدفقه. * فليس غريبا، أن تكون منطقتا الشرق الأوسط والقوقاز، الغنيتان بالنفط والغاز،الساحة المفضلة لأهم النزاعات المسلحة المحلية والدولية، ولم يكن السودان ليتعرض إلى حرب الاستنزاف على امتداد عقدين من الزمن، لو لم يكتشف في باطن أرضه النفط. وما كان لأزمة دارفور أن تنشأ لولا ما كشفته الأبحاث الأولية عن وجود مخزون كبير من النفط. دول نفطية قليلة، كالجزائر، وفنزويلا، وليبيا سلمت من هذا المصير، لأسباب جيوستراتيجية خاصة، قد تزول أو تتغير في أية لحظة. * الأمثلة الثلاثة: يوغسلافيا، العراق وجورجيا، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، خطيئة التعويل على الحليف الصديق من القوى العظمى، التي يمنعها توازن الرعب النووي من الدخول في مواجهة لصالح طرف حليف ثالث. فقد ابتلع الروس مرارة عدوان الناتو على أبناء العمومة السلاف في يوغوسلافية، ولم تحرك أوربا والولايات المتحدة ساكنا لنجدة جورجيا، وحارب الغرب الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بوكلاء من العرب والمسلمين، وتحارب أمريكا في العراق وأفغانستان بوكلاء من العرب والمسلمين. * التاريخ القديم والحديث على السواء، من عهد الإسكندر المقدوني إلى جورج بوش الابن، مرورا بداريوس ويوليوس سيزار ونابليون وهتلر، لم يسجل سوى نموذجين لإسقاط الإمبراطوريات والدول العظمى: إما على يد نظراء لهم في القوة أو على يد شغب البرابرة الذين ردموا هوة التفوق العسكري بجر الإمبراطوريات إلى حروب غير تقليدية، عجزت أمامها كراديس الجيش الروماني كما عجزت الإمبراطورية الفرنسية أمام المقاومين بالأحراش، وذاق الجيش الإسرائيلي أول هزيمة له في ستين عاما من المواجهة مع الجيوش العربية.