تتبنى الجزائر عقيدة ثابتة ترتكز على التسوية السلمية في مواقفها حيال الملفات الدولية الشائكة والتي قد تتطور إلى نزاعات مسلحة داخلية أو خارجية في كل الدول. وتحرص الدبلوماسية الجزائرية التي انخرطت خلال السنوات الأخيرة في مساعي وساطات ورعاية مفاوضات وتحكيم بين العديد من دول متنازعة عربيا، إقليميا ودوليا، على الوقوف على مسافة واحدة بين جميع الأطراف. بخصوص الملف النووي الإيراني، أبدت الجزائر دعمها الدائم لحق الجمهورية الإسلامية في إيران المشروع في الأنشطة النووية السلمية، وهو ما أكده رئيس المجلس الشعبي الوطني العربي ولد خليفة في تصريح على هامش استقباله السفير الإيراني في الجزائر رضا عامري في جانفي 2015. وسارعت الجزائر إلى التعبير عن ارتياحها للتوقيع على الاتفاق بين إيران ومجموعة 5+1 حول البرنامج النووي الإيراني واصفة إياه ب"التاريخي". وأفاد بيان لوزارة الشؤون الخارجية، أن "الجزائر تعرب عن ارتياحها لتتويج الاتفاق التاريخي الذي وقع في 14 جويلية الماضي، بين جمهورية إيران الإسلامية ومجموعة 5+1 حول البرنامج النووي الإيراني بعد سنوات عمل وجهود طويلة من المفاوضات". ومر الملف النووي الإيراني قبل الاتفاق على تسوية له بمحطات عديدة على مدى 12 عاما حبس العالم خلالها عدة مرات أنفاسه خوف أن يتحول إلى صدام عسكري لا تحمد عقباه. وتوالت الإشادات الدولية بموقف الجزائر إزاء مفاوضات الملف الإيراني، آخرها الصين التي نوهت على لسان وزيرها للشؤون الخارجية وانغ يي، بالدور "البناء الذي اضطلعت به الجزائر من أجل تسوية سلمية لمسألة النووي الايراني ". وأوضح وزير خارجية الصين وانغ يي أن "الجزائر لطالما كانت من مؤيدي التسوية السلمية لمسألة النووي الإيراني عن طريق الحوار والتفاوض، والصين تقدر الدور الذي اضطلعت به الجزائر في هذا الصدد". وأضاف وانغ يي أن "إبرام هذا الاتفاق لن يساهم في تعزيز النظام الدولي لحظر الانتشار النووي وترقية الاستعمال السلمي للطاقة النووية فحسب، بل ومن شأنه أن يساهم أيضا في تحقيق السلم والاستقرار في الشرق الأوسط".
"عندما تمرض الجزائر تصاب تونس بالحمى" عربيا، حافظت الجزائر على علاقات بمسافة واحدة بالدول التي مستها رياح التغيير ضمن ما يسمى ب"الربيع العربي"، واجتهدت في التمسك بمبدأ عدم التدخل في شؤون دول الغير، دون أن يمنعها ذلك من الإدلاء بدلوها في الأحداث والتسويق لموقفها في المحافل العربية والإقليمية والدولية. في الملف التونسي، من الثابت تاريخًا أن العلاقات الجزائريةالتونسية، علاقات وطيدة حيث تم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون المشترك في أعقاب استقلال الدولتين من الاستعمار وحتى الآن، وتتسم تلك العلاقات بحالة من الاستقرار بحكم التقارب الجغرافي والتداخل الثقافي والتاريخي ووحدة المصير المشترك، ولكن هذا لم يمنع من وجود فترات من المد والجذب بين الدولتين الشقيقتين. ومن الواضح أن تلك العلاقات قد تأثرت بعض الشيء نتيجة لاندلاع ثورة الياسمين في تونس في 17 ديسمبر 2010، والتي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق بن علي، وجعلت الإسلاميين يعتلون سدة الحكم في زيتونة المتوسط. ولم يكن الموقف الجزائري من الثورة التونسية واضح المعالم، وقد كان ذلك من المفارقات الأولى، حيث لم تتخذ الجزائر أية ردة فعل توحي برفض أو تأييد ما يحدث في تونس، واكتفت بالتأكيد على أن ما يحدث في تونس شأن داخلي يجب احترامه من منطلق مفهوم السيادة. ويقول متابعون للعلاقات بين البلدين، إن الواقع يثبت عكس ما تم تداوله رسميا، حيث تابعت الجزائر ولا تزال كل شاردة وواردة من الجارة الشرقية تونس، نظرا لتخوف الجزائر من تصدير الثورة إليها بحكم الجوار الجغرافي، وكذا التخوف الواضح منذ البداية من أن تقود الثورة التونسية إلى حالة من الفراغ الأمني، قد تؤثر بالسلب على الأوضاع الأمنية في الجزائر، وكان لهذا التخوف مبرراته الواضحة، والتي كان من بينها؛ وجود بيئة حاضنة للجماعات المتشددة في تونس نظرًا لانتشار الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ولخص الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، في تصريح صحفي سابق، العلاقات الجزائريةالتونسية بأن ''تونس تنتظر الكثير من الدعم المعنوي من شقيقتها الجزائر في هذه الظروف الصعبة، انطلاقا من حقيقة أن الجزائر عندما تمرض تصاب تونس بالحمى''. ووصف المرزوقي موقف الجزائر من الثورة التونسية، ب''الخيار الصائب''، وهو الموقف النابع من قناعته بأن ''الموقف الأحسن في مثل هذه الحالات هو عدم تدخل الدول المجاورة، وفسح المجالات أمام ثورات الشعوب لتأخذ مسارها الطبيعي''. ولم تعلن الجزائر عن موقفها إزاء الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في تونس في عام 2014، والتي فاز بها حزب نداء تونس، واستطاع مرشحه في الانتخابات الرئاسية، الباجي قايد السبسي، الفوز بالمنصب، ولكن يمكن القول في هذا الإطار، أن التعاون بين البلدين استمر بل وزادت وتيرته بحكم تعقد الأوضاع الإقليمية وتفشي الإرهاب في المنطقة العربية، ومن هنا جاءت الزيارة الخارجية الأولى للرئيس التونسي الجديد، السبسي، إلى الجزائر من أجل بحث عدد من الملفات كان في مقدمتها الملف الأمني ودعم التعاون العسكري والاستخباراتي بين الدولتين، حيث تم تشكيل لجنة خبراء عسكرية وأمنية بعد الزيارة من أجل بحث موضوع توقيع اتفاقية أمنية وعسكرية طويلة الأمد بين البلدين.
الجزائر ومصر.. شد وجذب التزمت الجزائر الحياد التام إزاء ثورة 25 جانفي 2011 في مصر والتي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، ودافع وزير الخارجية وقتها مراد مدلسي عن موقف الجزائر وقال بأنه يخدم المصالح الإستراتيجية للجزائر على الصعيد الإقليمي والعربي. واعتبر مدلسي أن مواقف الجزائر نابعة من المبادئ التي تحكم الدبلوماسية الجزائرية منذ عقود، وتتمثل في دعم القضايا العادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام خيارات وإرادة الشعوب في تقرير مصيرها. كما قال إن الجزائر تنتهج سياسة التدرج في تبني المواقف "بما يراعي مصلحة الجزائر العليا ومصالحها الإستراتيجية إن على المستوى الإقليمي أو على المستوى العربي". ودعت الجزائر مرارا إلى ضرورة تحكيم العقل وتهدئة النفوس التي ثارت على نظام حسني مبارك واستمرار الاحتجاجات والاعتصامات في ميدان التحرير، حتى وصول الرئيس الأسبق محمد مرسي إلى الحكم في 30 جوان 2012، حيث هدأت الأوضاع وبدأت في ترتيب علاقاتها مع مصر على ضوء المعطيات الجديدة، وشهدت العلاقات الجزائرية المصرية تحسنا كبيرا منذ تولي محمد مرسي، قيادة الجمهورية المصرية الخامسة في أول حكم مدني في مصر، لكن فترة حكم مرسي لم تدم أكثر عن سنة سرعان ما عاد للعسكر الذين انقلبوا على الشرعية الشعبية المصرية وزجوا بقيادات الإخوان في السجون بينهم الرئيس وارتكبوا مجازر رهيبة في حق المتظاهرين ضد الانقلاب في ميدان رابعة. وأبقت الجزائر على علاقاتها مع نظام عبد الفتاح السيسي الذي قام بزيارة إلى الجزائر في ديسمبر 2014 وأعلنت عن تمتين العلاقات، معلنة رغبتها في "بناء محور استراتيجي بين البلدين يستند إلى رؤية واضحة المعالم". وطفت إلى السطح خلافات عميقة بين الجزائر ومصر، حول التعامل مع بعض القضايا الإقليمية، بداية بالموقف من الأزمة في ليبيا التي رافعت القاهرة لصالح تدخل عسكري لحسم الوضع، بينما تتمسك الجزائر بالحل السياسي لإطفاء نار الفتنة بين الأطراف المتنازعة، غير أنها تغاضت عن ضربة عسكرية جوية نفذها الطيران المصري ضد مواقع تنظيم داعش في ليبيا شهر فيفري 2015. وبدا الخلاف واضحا بين الجزائر ومصر التي شاركت في العملية العسكرية بقيادة المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن، ورفضت المشاركة في تشكيل قوة عسكرية عربية للدفاع المشترك باسم جامعة الدول العربية، وهو ما فتح عليها باب العداوة من دول التحالف ضد اليمن وعلى رأسها مصر والسعودية.
عين لا تغفو عن الأزمة الليبية وبخصوص الأزمة في ليبيا، دأبت الدبلوماسية الجزائرية على الإبقاء على قنوات الإتصال مفتوحة مع مختلف الأطراف المتنازعة، ووقفت في أكثر من مرة في وجه محاولات التدخل الأجنبي في ليبيا رغم الضغوط التي تعرضت لها من طرف الدول الغربية الكبرى على رأسها فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية التي تبحث عن موطئ قدم في المنطقة. ومنذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، حرصت الجزائر على دعم الشرعية الشعبية، غير أن تغلب المصالح وتدخل القوى الأجنبية تحت مسميات مختلفة حال دون تمكنها من جمع الأطراف المتنازعة على موقف واحد لتشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية البلاد. وقامت الجزائر باستضافة ورعاية مفاوضات واجتماعات مراطونية للأحزاب السياسية الليبية بمشاركة الأممالمتحدة، لتقريب وجهات النظر وتفتيت الخلافات للخروج بحل سياسي ينهي حالة الفوضى التي تعيشها البلاد منذ عدة سنوات، كان آخرها دعوتها العاجلة لتشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا قادرة على حفظ الوحدة الوطنية وسيادة البلاد وتلاحم الشعب الليبي، مخالفة البيان الختامي لاجتماع الجامعة العربية الطارئ في القاهرة لبحث تطورات الأوضاع فى ليبيا، الذي دعا إلى وضع استراتيجية لدعم ليبيا عسكريًا.
الحرب على اليمن.. مبادرة صلح تنتظر وبادرت الجزائر لصياغة مبادرة جديدة لإنهاء الأزمة في اليمن، بالتنسيق مع سلطنة عمان عبر مقترحات تعرضها على أطراف الأزمة ومن ثم إطلاق مفاوضات سلام بين طرفي النزاع. وقالت مصادر دبلوماسية إن الجزائر "عرضت استضافة أطراف الأزمة اليمنية من الحكومة الشرعية وحركة أنصار الله، حيث أبلغت طرفي الأزمة الداخلية في اليمن عبر شخصية يمنية بارزة أنها على استعداد لرعاية مفاوضات بين الأطراف الداخلية في اليمن لإحلال السلام في هذا البلد". وأفاد المصدر أن أهم بند في المبادرة الجديدة هو "حوار مباشر بين الطرفين الأساسيين في الأزمة اليمنية"، وهما الحكومة الشرعية برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي وحركة "أنصار الله" الحوثية وحلفاؤها. وقال المصدر إن قوة المبادرة تنطلق من "وجود الجزائر كطرف محايد في الأزمة اليمنية، وهو ما يمثل عامل طمأنة للقوى الإقليمية التي تمتلك تأثيرا على الساحة اليمنية وهما المملكة السعودية وإيران". وكانت الجزائر قد دعت خلال القمة العربية الأخيرة بشرم الشيخ المصرية، إلى تغليب لغة الحوار في اليمن وذلك عقب العملية العسكرية المسماة "عاصفة الحزم" التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وحلفائها ضد جماعة الحوثي في اليمن. تتمسك الجزائر بأولويات سياستها الخارجية المحددة في الفصل السابع من الدستور ضمن المواد من 86 إلى 93 وتحرص على تبني سياسة خارجية تتسم بالاعتدال والوسطية ودبلوماسية تتجنب الضجيج والشعارات مع التزامها بعدد من الثوابت، منها الإيمان بالسلام العالمي القائم على العدل والإنصاف ورفض مبدأ القوة كأداة من أدوات تنفيذ السياسة، الإيمان بحق الدفاع المشروع عن النفس من أجل الحفاظ على المصالح العليا للدولة، الاعتماد على أسلوب الحوار والمفاوضات كسبيل عملي لتحقيق ما تسعى إليه من أهداف، الالتزام بمبدأ الشرعية الدولية في معاملاتها وعلاقتها الدولية، انتهاج سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار. وأعادت دبلوماسية الجزائر توجيه اهتمامها نحو تطورات الوضع في المنطقة الجديرة بالاهتمام الأقصى، لمعالجة مشكلات أمنية وسياسية لها تأثير مباشر على أمن الجزائر، منها منطقة الساحل والتوجه إلى إعادة ترتيب الأولويات في السياسة الخارجية الجزائرية، والعمل السياسي والدبلوماسي على اتجاه العمق الاستراتيجي والحيوي الذي تمثله دول الساحل بالنسبة لأمن واستقرار الجزائر، وكذا قضايا التعاون الأمني وملاحقة المجموعات الإرهابية وإعادة تفعيل الاتفاقات ذات الصلة بالتعاون الأمني والاستخباراتي.