كشف الفنان الجزائري البارز "حكيم دكّار"، الأربعاء، أسرارً ظلت مكتومة بشأن حقيقة استدعائه من الوزير السابق للثقافة والاتصال "حبيب شوقي حمراوي" في 1997، وذكر أنّ ذلك حصل بعد سنة على حادثة (غرق) وزير الثقافة حينذاك "ميهوب ميهوبي"، وقبل مغامرة ابن الجزائر في سوريا. برسم ومضة "جسور مسرحية" لمؤسسة "فنون وثقافة"، أطلق "حكيم دكّار" العنان لسرد شريط ذكرياته على مدار العشريات الأربع المنقضية، وسط حضور كثيف في جلسة أدارها الناقدان "إبراهيم نوّال" و"عبد الناصر خلاّف" بقلب حاضرة "المدية". وعلى وقع كثير من الحقيقة..كثير من النوستالجيا، لفت "دكّار" (48 عاما) إلى أنّ الفنان هو مسافر في بحور الإبداع، واستعاد بداياته حيث أقرّ بفضل شقيقه الأكبر "جمال" الذي "ورّطني في مأزق جميل"، وحكى "حكيم" مراكحاته الطفولية: "كنت ألعب في البيت وأقلّد أشقائي وشقيقتي وجيراني وغيرهم من المنتمين إلى محيطي الصغير، وأسهمت الكشافة في صقل موهبتي". وعن ميوله آنذاك، أورد "دكار": "استهوتني شخصية الخال حين كنت في الخامسة، حيث أدخل إلى البيت وأوظف القفة وسط (تواطئ) والدتي وأشقائي، وأنوّه ببرنامج الحديقة الساحرة الذي أسعدنا كثيرا وكان سببا في اعتناقي المسرح".
العقرب في قش العروس أضاف "دكار" أنّ انتمائه إلى أب الفنون كان عبر بوّابة جمعية "آمال"، أعقبها عبر تأسيسه فرقة "أهل المسرح" التي أنجز معها عرض "العقرب في قش العروس" (1984)، وهو عمل تناول حينها ظاهرة الغزو الثقافي، وتزامن ذلك مع قدوم الراحل "بوبكر مخوخ" بعرض "الحافلة تسير" مع المرحوم "توفيق ميميش". وأسرّ "دكّار" أنّه شارك في مهرجان مستغانم لمسرح الهواة في صيف 1985، وخاطبه المرحوم "بن عبد الحليم الجيلالي": "هذا الشاب لا مستقبل مسرحي له"، وعن تلك الحادثة، قال "دكار": "بقدر تأثري بذاك التصريح، إلاّ أنّه زادني عزما على إثبات ذاتي، فبعد مشاركتي في عرض "دردبة على درب" مع فرقة حسين داي عام 1985، عدت إلى المكان نفسه بمسرحية الخربة ليوسف العاني في 1986، ثمّ عودة الحلاّج لعز الدين المدني مع الراحل مراد مساحل سنة 1987، قبل أن أعود إلى مستغانم سنة 1990 بتركيب شعري مسرحي أهديته تكريما لروح بن عبد الحليم الجيلالي". وحرص "دكار" على التنويه بتجربته في "عودة الحلاّج" كاحتفالية ملحمية اقتبست على الطريقة الجزائرية، وتابع:" كان من حظنا جلب مخرج عراقي كان أستاذا في الرياضيات، وأعجب بالطاقم، ومعه تعلمنا العلبة الإيطالية والبعد النفساني وغيرها من جوانب العملية المسرحية، وما زادنا تحفزا تبني مسرح قسنطينة الجهوي للمشرع الذي حمل بصمة الفنانة السينوغرافية الراحلة "ليليان الهاشمي التي تعاملنا معها أيضا في مسرحية مسحوق الذكاء لكاتب ياسين".
لم نحرق المراحل شدّد "دكار" على أنّه لم يحرق المراحل، وصعد بهدوء وثبات من مشتلة الهواة إلى مصاف المحترفين، وعن ذاك الانتقال روى: "كان لدي الكثير من الطموح، لذا ذهبت من قسنطينة إلى بجاية بكل شوق وحب وبتوجيه من المرحوم عبد المالك بوقرموح، كنت في العشرين وعملت على مسرح الشارع في عرض "المخدوع" رفقة موهوب لطرش، أحسن عزازني" محمد فتيس، ريحانة بهية". وأبدى "دكار" تأثرا بمنهج "بوقرموح" ..: "في المحترف الطريقة تختلف، أعطي الخبز إلى الخباز، ولأول مرة عملت مع مخرج أكاديمي بوزن بوقرموح في مسرحية "رجال يا حلالف" المستلهمة عن نص الخراتيت لأوجين يونسكو، وأذكر أنّه في مراهنتي على تجسيد فكرة التطرّف، تابعت شخصية اجتماعية في بجاية واستلهمت منها، ولا يمكنني أن أنسى صرامة بوقرموح الذي كان يضربنا بالنقود ولم يتردد عن إرسالنا لتعلم الصولفاج، مثلما كان مبهرا ويختتم دائما سيل انتقاداته بدعوتي لتناول كوب قهوة، ببساطة كان سابقا لزمنه وبعيد الرؤية، ولولا فاجعة رحيله المفاجئ لكان بوسعه إنجاز أشياء كثيرة". وبكثير من التأثر، أشاد "دكار" بمكانة "بوقرموح" .. :"في فترة وجيزة صار أبا روحيا، وفجأة اختفى فسقطت في الضياع لعام ونصف على وتر موحا المجنون ... موحا العاقل".
طردي منحني حرية مضاعفة! تطرق "دكّار" إلى واقعة طرده من مسرح بجاية الجهوي، وهي جزئية أنتجت منعطفا فارقا في مساره..:" فُصلت من مسرح بجاية، في فترة نشّطت فيها برنامج فضاءات المسرح مع المخرج المخضرم علي عيساوي، لكن المدير "أحمد خوذي" فصلني رغم أنّ غيابي كان مبررا وضمن نشاط مسرحي، ذاك العام 1991 لن أنساه، حيث غادرت القطاع العام نهائيا وصرت حرا وحرا.. وحر، ورضيت بمكتوبي وأجدّد شكر الأستاذ خوذي على تصرفه الذي فتح لي آفاقا جديدة".
... وكانت الحرب دشّن "دكار" رحلته السينمائية بدوره في فيلم "وكانت الحرب" من إنتاج جزائري فرنسي للمخرج "أحمد راشدي"، انضمّ عقبها إلى مسرح القلعة الشهير، وعن تلك المحطة يقول: "كانت القلعة أشهر الفرق المستقلة وضمت خيرة الفنانين، وشاهدت عرض حصار ستان لحميدة آيت الحاج وتجسيد عز الدين مجوبي". وأحال "دكار" على أنّ العملاق بن قطاف هو من ضمّه إلى طاقم مسرحية "ألف تحية" لمحمد ديب واقتباس بن قطاف، سينوغرافيا "ليليان الهاشمي"، إخراج "زياني شريف عياد" وخضت التمثيل رفقة كمال رويني وسيد أحمد أقومي، وكنت مسرورا لكوني حُظيت بشرف تقاسم الركح مع العمالقة وكان ذلك الاحتراف". بيد أنّ "دكار" لم يخف شديد تأثره بين 1991 و1995: "في 4 سنوات فقدنا ثلاثة ممثلين، فوجدت نفسي تائها مشطورا، قبل أن أستأنف مسيرتي بإخراج مسرحية ميلوديا مع فرقة محمد اليزيد وتحدثت عن الحب في زمن الموت والدمار، وحصلنا على عدة جوائز بسكيكدة وتبسة".
منعرج "خبّاط كراعو" بكثير من الحنين والاعتزاز، تعاطى "دكّار" مع المونودرام المدوّي "خبّاط كراعو" الذي أنتجه في عنابة بحر ديسمبر 1995، وجاب به أرجاء الجزائر العميقة بين سنتي 1995 و2001، محققا رقما قياسيا من حيث العروض التي تجاوزت سقف الثمانمائة. وحكى "دكّار": "انتقد العرض الوضع السياسي بسخرية، واعتبر آنذاك كأنموذج لحرية التعبير، وتجوّلت به في كل فجّ عميق، وأتذكر أني قدمت العمل في خميس مليانة ووادي سوف، مثلما عرضت هذا المونودرام في ضاحية بن طلحة بعد 96 ساعة على المجزرة الرهيبة التي طالتها، وكان العرض في المدرسة التي استوعبت جثامين الضحايا". وأردف "دكّار": "قدمت خبّاط كراعو أيضا في حضرة الوزير السابق ميهوب ميهوبي الذي غرق في موجة ضحك وطالب التليفزيون بتصوير العمل وبثّه، لكن جماعة الرقابة عادت إليه بقصاصة تضمنت 21 اعتراضا، لكن ميهوبي عارض أي قصّ، وجرى بث العرض على حلقات".
كوميديا للانتخابات! فتّش "دكّار" أكثر في جراب الذكريات، وسرد: "في 1997 استدعاني حبيب شوقي حمراوي أيام كان وزيرا للثقافة والاتصال وطلب مني إنجاز كوميديا تحسبا للانتخابات المحلية (23 أكتوبر 1997)، فحضّرت مع الفريق سلسلة سياسية ساخرة "في مهبّ الريح" مع جمال آيت حمودة، وجرى فيها إقحام شخصية خباط كراعو كوصولي، لكن إدارة التليفزيون بثّته في رمضان بدلا عن برمجته بالتزامن مع فترة الانتخابات، وهو ما حجّم كثيرا من قيمته". وفي مقابل تنويهه بما قدّمته الممثلة "بيّونة" وأبرز ذهابها إلى أكثر المناطق دموية، اعترف "دكّار" أنّ التليفزيون سرقه من المسرح، مستطردا: "لطالما حرصت على العودة إلى الركح بعمل يضاهي خبّاط كراعو حيث بقيت مسكونا بالمخاوف، وعازما على العودة في ثوب الابن الضال الذي يكتنز مجموعة أحلام كثيرة، وبعد مسرحية الضغط العالي، كان حب وكذب آخر عرض مسرحي لي سنة 2001".
جحا المفكّر في فانتازيا سياسية لم يخف "دكار" أنّ تجربة المسرح الإذاعي راقته كثيرا، قبل أن ينخرط في الموروث ويقدّم جحا لا كشخصية نمطية معروفة، بل كمفكّر وفي حبّوب ضمن فانتازيا قوية سياسيا وفكريا حملها بكل جزئياتها وروحها على مدار سبع سنوات. وارتمى "دكّار" مجددا في السرد لكن عن زمكانية شامية..: "تجربتي في سوريا كانت بجحا، لكن مغامرات الأخير بدأت سنة 2002 عبر تصوير أحداث الجزء الأول في وادي سوف، والجزء الثاني في غرداية ثم انتقلنا إلى المغرب، وذهبت إلى سوريا أين اكتشف تجربة أخرى هناك 2003 مع ناجي جبر، قبل أن أعود إلى هناك في 2004 بثلاث حلقات أخرى، وفي 2011 شاركت في بطولة المسلسل التاريخي "ظلّ الحكايا" بشخصية طرحت لأول مرة في الدراما العربية وهي "ابن المغازني" زمن هارون الرشيد، حيث كان المغازني من ساحة بغداد، ينتقد الرشيد وجعفر البرمكي زمن تحكم الخلافة الإسلامية في 177 دولة". وعلّق "دكّار" بشأن إطلالته السورية: "أحببت استحداث نافذة دائمة على الوطن العربي، والجمال في الانتقال من تجربة إلى أخرى، مثلما أنّ بلوغ العالمية يمرّ عبر التفنن في المحلية".
أقطن في حقيبتي! قال "دكّار": "أنا رحّالة في فكري ... وفي أحلامي، وفي إقامتي بحقيبتي حرصت على كسب خبرات دائمة وتعلمت في صمت محترما الشيوخ"، ورأى الأكاديمي "إبراهيم نوّال" أنّ "دكار بحث عن هوى وهوى، ما جعله يحلّق في سماء سيدي بومدين ويما قورايا، وبعد رحيل الناصح والأستاذ عبد المالك بوقرموح، تراوح دكّار في الحيرة والمعنى، وبقي بسيطا متواضعا يمكن الوصول إليه". ونوّه الباحث "عبد الناصر خلاّف" بكون "دكّار المنتج والمخرج والممثل" نهض بدور المنشط والوسيط الثقافي، وتعرّف على كل نجوم المسرح الجزائري والعربي، حتى أصبحت فضاءات المسرح ظلا له بحكم السنوات الطويلة التي أمضاها بمعية المخرج علي عيساوي، وتفننه في التواصل مع ضيوفه الجزائريين والعرب من أهل الركح"، بينما وصف "نوّال" ضيفه ب "(جنتلمان) المسرح الجزائري والمتفرج الراقي الذي يشجّع للمواهب". وبنظرات ساهمة، أوعز "دكّار": "السينما رفضتني لغياب العروض، لم يروا في حكيم دكار السينمائي بعد مشاركتي في فيلمي "وكانت الحرب" لراشدي و"بورتريه" لحاج رحيم (1994)، علما أني لم أرفض أبدا العروض"، وكشف: "أعمل على العودة بجحا كممثل ومخرج من بيتي ومدينتي قسنطينة هذا العام، ونحن نحتاج إلى أعمال ذات جدل". وبمرحه المألوف، انتهى "دكّار" إلى أنّه لو يكون مديرا لمؤسسة مسرحية، فإنّه سيجلب مشروعا ويمنح رؤية وأحاسيس، منبّها إلى حتمية محاسبة أي مسؤول على حصيلة ما أنجزه على مدار ثلاث إلى أربع سنوات"، موقّعا حول القادم: "في جعبتي أكثر من مشروع".