فكرت في أن أكتب بعيدا عن المحظورات حتى لا أصنّف ضمن "الصف" غير المرغوب فيه، لعلّي أتجنب إحراج هذه الجهة أو تلك، لكن بمجرد أن رحت أتأمل، مثل أي مراقب، أصوات المؤرخين والمفكرين وعلماء الدين والمبدعين ورجال السياسة. وجدتني في "صفّ ما لا يقال"، أشبه ب"حراڤة تيارت" الذين شاهدوا حصة "مدير اليتيمة" حولهم، فاختاروا البحر عوض الاستماع إلى "التضليل الإعلامي" ليلقنوا من يتاجرون ب"جثثهم" حماية لمواقعهم في صفوف "الموالاة". شيبان، سعد الله، وطار وآخرون أحاديث شيوخ المؤرخين، وفي مقدمتهم، سعد الله أبو القاسم تكشف عن حقائق مؤلمة حول دور "النابليونية الجزائريةالجديدة" في تقويض دولة الأمير عبد القادر، ومن يسوّقون "النكتة المعسكرية" يدركون مقصدي، ومن يدافعون عن عودة "الأقدام السوداء" يعرفون ما أريد قوله.ومن يتوقف عند رسائل كبار المبدعين، وفي مقدمتهم الطاهر وطار، إلى السلطات، أو يتابع رسائل المواطنين إلى الرئيس، يرى حجم مأساة أحد عناصر الهوية الجزائرية، وهي اللغة العربية، في مقاومة معاول تهديم الإدارة لوجودها، أو عناوين المحلات التجارية في أهم شوارع العاصمة الجزائرية.أما أحاديث شيوخ العلماء المسلمين، وفي مقدمتهم عبد الرحمن شيبان حول التنصير فهو لا يحتاج إلى دليل. لأن من يقف وراء الحملة يريد أن يخيّر منطقة القبائل بين الانفصال أو التنصير، والرسائل التي وجهها التيار الانفصالي إلى الرئيس الفرنسي ساركوزي، أو وجهها قادة التبشير إلى "الفاتيكان" أو سفراء الدول العظمى وهي أمريكا وفرنسا وبريطانيا لدعمهم، تكشف عمق المأساة التي ستعيشها البلاد، في حال مقاطعة المنطقة، للاستفتاء على تعديل الدستور خلال هذا العام.ومن يستهين بذلك عليه بمتابعة تصريحات ممثلي بعض الدول الأوروبية حول "القانون الجزائري لممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين".ومن يرصد أصوات رجال السياسة، وفي مقدمتهم عبد الحميد مهري، يدرك حجم اليأس الذي وصل إلى حدّ فقدان الأمل في التغيير.وحتى رجال الإعلام صاروا يروّجون للإشاعات، فالحكومة تبدل أكثر من مرة في الجريدة الواحدة، خلال الأسبوع الواحد، وأسماء كثيرة تتداولها دون حياء أو خجل، وكأن مشكلة الجزائر هي في الرئيس أو الحكومة وليست في "الواقع المعيش"! حين تصبح اهتمامات الصحافة هي ب"آراء المساجين" في الرئيس والحكومة والمصالحة الوطنية، ويصير للمجرم والسارق "وجهة نظر"، فهذا يعني أنه علينا أن نقرأ "الفاتحة" على "الإعلام التعددي"، لأنه تحوهل إلى "إعلام إشاعة" لتغذية عناصر التفكك في المجتمع والدولة. الوجه الآخر "الحقيقي" للجزائر الوجه الآخر للجزائر ليس هو ذلك الوجه الذي تقدمه بعض الصحف وتعمل على تسويقه للرأي العام الوطني والدولي، وليس هو الذي يتحدث عنه "الشارع الجزائري". وإذا أراد أحد من القراء التأكد بنفسه مما أدّعيه فما عليه إلا الذهاب إلى "قاعات محاكم الجزائرية"، فحضور جلسة صباحية أو مسائية تقدم فيها أكثر من 100 حالة يومية تعطيك صورة مصغرة عما يجري في المنطقة التي تقطن بها.الجزائريون يتعرّون في جلسات المحاكم، والحقائق تراها أمامك واقفة تتحرك، ترى السارق والمسروق، القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، الفقير والغني، الرئيس والمرؤوس وما يجري في القصور أو البيوت القصديرية، في الجامعات والمدارس، في البنوك والشركات، في مراكز الشرطة والسجون.ولو أن التلفزة الوطنية أو الإذاعة نقلت "مجريات" جلسة من جلسات المحاكم، لربما غفر المشاهدون لها ما تقدم وتأخر من الذنوب التي جعلتهم يتفقون على أنها فعلا "يتيمة" واليتيم يحتاج إلى الكفالة والرعاية من الآخرين.لو يعود توفيق الحكيم إلى الحياة سيحرف كتابه "نائب في الأرياف"، ويعيد النظر في مفهومه ل"هموم المواطنين".ولو يتفرغ عبد القادر حجار ليستكمل الجزء الأول من مذكراته "الحب والحرب بين الذكرى والذاكرة" ليحضر جلسات المحاكم، لربما سيترك لنا أهم كتاب يحمل هموم الوطن، مثلما سجل لنا شهادته كأسير خلال ثورة التحرير بلغة أدبية راقية.لقد تذكرتُ ما كتبه حول "شهادة ثوار في محاكمة" وأنا أخرج من إحدى الجلسات حيث يقول: "وقام مدعى الاتهام بإلقاء خطبة طويلة ومسهبة، خص كل واحد منهم بسيل من الأوصاف هي أقرب إلى الشتم والسّباب منها إلى الاتهام، وراح يعدد الأفعال والجرائم المتأصلة فيهم، وأنهم خطر على المجتمع يجب اجتثاث النبة الفاسدة من الأعراق، وحث القضاة ألا تأخذهم بهم رأفة، وطالب بأقصى العقوبة في حق بعضهم التي هي الإعدام، هكذا نطقها دون أن يهتز له ضمير، وهكذا سمعوها دون أن يهتز لأي واحد منهم جفن"، قلت في نفسي، ما أشبه اليوم بالبارحة، وحمدت الله أن الجنون لن يصب رجال القضاء وعقول المحامين، بالرغم من المشاهد المأساوية التي يعيشونها يوميا على مدار الدورة القضائية. ... حتى محمد (صلعم) موظف لديهم؟! أعتقد أن الكثير منّا يغالط نفسه أو يضلل الرأي العام حين يفصل بين الحاكم والمحكوم، هذا ما تعلمته من الدكتور محي الدين عميمور، من خلال مداخلاته في الفضائيات العربية والإسلامية، وربما أشاطره الرأي في "الأنظمة الديمقراطية"، فأقول مثله، الرئيس الجزائري يمثل الشعب الجزائري، والملك المغربي يمثل الشعب المغربي، لكن السؤال الذي يجلدني هو: لماذا يتحرك من ينتصرون للرسول محمد (صلعم) ضد الغرب الذي يسيء إليه، وليس ضد حكامه الذين يتعاملون مع "المسيء لهم"؟ ولماذا لا ينبّه المثقفون الرأي العام إلى ماهو موجود في القواميس والمعاجم العالمية التي تقتنيها السلطات من إساءة للرسول برسم أو وضع صورة له أثناء التعريف به. ولماذا لا نعيد النظر في مفهوم القانون للإساءة للنبي محمد (صلعم) في بلداننا العربية قبل التشدد مع الآخر؟. من يتوقف (مثلا) عند المادة 144 مكرر من قانون العقوبات الذي جاءت به حكومة أحمد أويحي، سيجد أنها تنص على معاقبة كل من يهين أو يسيء إلى رموز الدولة وأعوانها، وفيها إقحام ل"الرسول محمد صلعم"، فهل المشرّع الجزائري لا يفرق بين الموظف ورموز الدولة، وبين الرسول (صلعم) الذي يجسده مليار ونصف مليار مسلم في العالم.المؤكد أن "الحملة العالمية" للإساءة إلى الإسلام وجدت التربة الخصبة في الغموض السائد في الفصل مابين ماهو ديني وماهو دنيوي، في معظم أقطارنا العربية والإسلامية. فلو قاطعت سلطاتنا منتوجه لربما تكون قد جسّدت وجود الشعوب فيها، ولو أن وزارة الشؤون الدينية الجزائرية، التي ترعى الكنائس والديانات المسيحية واليهودية، قامت بالمهمات المنوطة بها، لما تجرأ الأنجيليون (أنصار بوش) على العمل في الجزائر، دون اعتماد، ولما تجرأ أنصار ساركوزي إلى احتواء البروتستانت، بعد أن التزم الفاتيكان الصمت إزاءهم، وتحفظت الكنيسة الكاثوليكية في الإدلاء برأيها في تسويق "التطرف المسيحي" في الجزائر، في الوقت الذي تحارب "التطرف الإسلامي"، وتدعونا إلى محاربته في بلداننا.التقارير الأمنية الدبلوماسية الغربية تؤكد على وجود فئتين من المتطرفين المسيحيين في الجزائر تحظيان بدعم غير مباشر من الكنيسة الجزائرية وممثلي أمريكا وفرنسا وانجلترا في الجزائر.المشكلة ليست في التنصير ولكن في التسييس، ومثلما كان المرحوم كاتب ياسين يعتقد أن محاربته ل"العربية" هي محاربة للسلطة، فهناك اعتقاد سائد في المنطقة القبائلية بأن "حمل الصليب" هو معاداة للسلطة، لأنها مسلمة، من منطق فهم خاطئ، فالإسلام دين الدولة، والدولة ليست السلطة.ومن يزور بعض المناطق في تيزي وزو أو حدود بجاية، يجد أن العربية في إشارات المرور يتم شطبها، لأنها في نظرهم لغة السلطة، مع العلم، أن هذا الكلام ليس صحيحا، فالعربية لغة القرآن، والإساءة إليها هي إساءة للدين.وحتى يدرك من يحارب الإسلام والعربية في الجزائر أنه يقوّض أركان وجوده، وأنه يعزز السلطة ويقويها عليه بأن يتتبع ماتقوم به السلطة من أعمال، فانخفاض مستوى التعليم، وعدم وجود مناصب لخريجي الجامعات الجزائرية سببه هو أن "الوظائف" تعطى لغير الجامعيين، ولمن لا يعرف العربية.وحتى يدرك الكل حجم الخطر الذي يهدد البلاد بسبب حذف مادة التربية الإسلامية من المدارس، حاوِلوا التقرب من التلاميذ لتستمعوا إلى "لغة التخاطب" فيما بينهم، فالإسلام الذي حارب السرقة والظلم والذل والهوان والانتحار والاعتداء على الآخر، تراجع بسبب انتشار هذه الظواهر، ودعم جهات ل"الفساد".