هل كان وصول أوباما للبيت الأبيض تجسيدا لحلم مارتن لوثر كين أم ينبغي أن نرى فيه القدرة الهائلة التي باتت تمتلكها المؤسسة الحاكمة في القطب الأوحد، على إيصال من تشاء للمنصب الذي تشاء في حكومة الولاياتالمتحدة عبر مسار لا يحتاج إلى تزوير الاقتراع مادام يمتلك وسائل تزوير إرادة الناخبين بتقنيات تسويق تبيع اليوم للأمريكيين ولشعوب العالم الرؤساء والمؤسسات والقيم بذات الكفاءة التي تسوق بها سلع وخدمات النظام الرأسمالي، وتبيعنا أحداث 11 سبتمبر والفتية العرب التسعة عشر، قبل أن تسوق الحرب على الإرهاب، والحرب على العراق وأفغانستان. * أمريكا المهزومة في أكثر من ساحة، المستيقظة على كابوس انهيار الحلم الإمبراطوري، تكون يوم الثلاثاء الماضي قد كسبت أكثر من معركة، يزعم معظم المحللين أن الفضل فيها يعود للناخب الأمريكي، الذي حارب عفاريت الذهنية العنصرية، وتخلص من أوزار ذاكرة مكلومة بثلاثة قرون من العبودية والتمييز العنصري. * أيّا كانت القوى التي تصنع عادة رؤساء الولاياتالمتحدة، في هذا البلد المحكوم بحزب واحد بوجهين، فإن إيصال رجل أسود إلى البيت الأبيض، يملي على العقل المنصف الاعتراف لها، في الحد الأدنى، بالدهاء السياسي، والقدرة على النط حتى قبل السقوط، وتكون قد أصابت بحجر واحد أكثر من عصفور في الداخل وفي الخارج. * * مسيح نصف أبيض لتبييض مسوح أمريكا السوداء * داخل الولاياتالمتحدة التي قسمها بوش والمحافظون الجدد إلى فسطاطين، كما قسم العالم إلى محور خير ومحاور شر، تأتي هذه الخطوة العملاقة لتوحد الأمريكيين، أو على الأقل تمنح الشعور بذلك، حتى وإن كان وصول نصف أسود إلى البيت الأبيض، لن يخرج السواد الأعظم من الملونين الأمريكيين من إرث ثلاثة قرون من العبودية والميز العنصري ومشتقاتهما. * خارج أمريكا، سوف تجد الولاياتالمتحدة في رئيسها الأسود رسولا جديدا، يجدد لها موسم التبشير بالقيم الأمريكية التي فضحها بوش في أبو غريب وغوانتنامو والسجون السرية، ويحمل أكثر من رسالة تهدئة كاذبة وتطمينات لحلفاء كادوا ينفضون من حولها. * وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، بهذه السرعة، وبهذه الأغلبية الواسعة، يفترض أن نرى فيه حدثا عظيما، ثم نحمده للديمقراطية الأمريكية، ونبني عليه آمالا عريضة وتطلعات كبيرة. * غير أن خبرتنا بالولاياتالمتحدة، من فصول تاريخها القصير، تدفع بنا إلى تفكيك هذا الحدث، وإخضاع المراحل التي أنتجته للفحص والنقد، واعتبار السؤال التالي كسؤال مشروع: »هل نحن بحيال إنجاز عظيم للديمقراطية الأمريكية، أم أننا كنا ضحايا واحدة من أعظم عمليات التزوير الحذق، والعبث بالعقول الذي خدع الناخب الأمريكي، وسفّه عقول المليارات من البشر؟". * * تزوير الإرادات حتى لا تزور المسارات * وحتى تكون الصورة واضحة، فإنني لا أشك لحظة أن عملية الاقتراع كانت سليمة بالمقاييس الغربية المعتمدة، لا يطعن فيه بالتزوير، وأن قرابة 53٪ من الناخبين الأمريكيين قد صوتوا فعلا لباراك أوباما، لكني أشككك بقوة في نزاهة المسار الانتخابي الذي أوصل إلى البيت الأبيض، شابا أسودَ مغمورا، حديث العهد بالنخبة الحاكمة، في زمن قياسي، وأغلقت معه حقبة سيطرة وتفرد قبيلة ال"وابس" أي الأمريكيين البيض البروتستانت. * القصة كما سنرى، حيكت بخيوط رفيعة شفافة، مشبعة برسائل تحت ضوئية، لا يحيط بها البصر. ولست متأكدا أنها بدأت فقط منذ عامين، حين تقدم هذا الشاب أمام حشد صغير من سكان ولاية ألينوا ليعلن ترشحه للسباق على منصب رئاسة الولاياتالمتحدة. فقد كان مشروع إيصال ملون إلى البيت الأبيض إحدى الصيغ المعتمدة، من بين صيغ أخرى، مثل إيصال امرأة. وهي صيغ، كتبت ملخصاتها المؤسسة المستأثرة بالحكم، قبل أن تعهد بها إلى كتاب السيناريوهات بهوليود: مخبرها المفضل لقولبة ذهنية الأمريكيين، وكثيرا من شعوب العالم. * * كتاب هوليود لصياغة أفلام واشنطن * الذين تابعوا مثلي مسلسل (24 ساعة) ومسلسلات كثيرة تناولت السلطة بواشنطن، يدركون ما أقول، فقد تعرفوا فيها على امرأة ترأس الولاياتالمتحدة، وشاهدوا رئيسا أمريكيا أسودَ يقود الحرب العالمية على الإرهاب. كما تعرفنا قبل أحداث 11 سبتمبر على العديد من المسلسلات التي تكاد تصف الأحداث بأدق التفاصيل قبل حدوثها. * شخصيا، لم يفاجئني وصول باراك أوباما، ليس لأنني سقطت مع الآخرين في ما بات يعرف بالأوبامانيا أو الانبهار بذكائه، وفصاحته، وقدراته الخطابية، بل لأنني أؤمن بالحكمة القائلة: »استبعد المستحيل، تعثر على الممكن« وقد استبعدت ما كنت أراه مستحيلا في الظروف التي تمر بها الولاياتالمتحدة، حتى من قبل أن ترتج الأرض من تحت وولستريت. * فمن الخيارات التي يشملها حكم الاستبعاد، أن تستعيد الولاياتالمتحدة عافيتها في الداخل وفي الخارج بخيار يعيد الصلة بعهد بوش وغلو المحافظين الجدد. ولم تكن المؤسسة تمتلك في صفوف الحزب الجمهوري شخصية ذات مصداقية تستطيع الابتعاد عن هذا الإرث، والقدرة على إعادة تعبئة القاعدة الجمهورية. ولم يكن لها في الجناح الديمقراطي خيارات كثيرة، حتى وإن كانت راهنت بعض الوقت على هيلاري كلينتن، قبل أن تسحب من تحتها البساط بعد أن بدأت عجينة أوبا تنتفخ وتتماسك. * ليس مهمّا في هذا السيناريو الأسود أن يكون المرشحون على علم بتفاصيل السيناريو والأدوار، لكنهم بالتأكيد كانوا على إلمام بخطوط حمراء وضعتها المؤسسة، هي التي ألزمت هيلاري كلينتن بقبول دور الحاطب في صفوف الأقليات الملونة وذوي الياقات الزرق، قبل أن تهبهم لأوباما، وهي التي دفعت بماكيين أن يقبل بذلك الخيار القاتل لمنصب نائب الرئيس السيدة بيلين، والدخول في سباق صار محسوما لخصمه الأسود، منذ أن قررت المؤسسة الإسراع بتفجير أزمة وولستريت في الأسابيع الأخيرة الحاسمة من السباق. * * تفجير وولستريت لنسف حظوظ المحارب القديم * السيناريو كان يكتب يوما بعد يوم، تماما كما كان يكتب سيناريو مسلسل (24 ساعة) وقد أبقت المؤسسة حتى آخر لحظة على صيغ أخرى، بما في ذلك التمكين لماكيين في حالتين. الأولى: في حالة حدوث حادث أمني كبير. والثانية في حالة توصل العمليات العسكرية التي تكثفت بمنطقة وزيرستان إلى القبض، أو القضاء على ابن لادن أو الظواهري. * التوجه النهائي لمسار السيناريو الأسود، تقرر عشية التفجير المفاجئ للأزمة بوولستريت. وقد كان بوسع الإدارة أن تبادر إلى مخطط بولسن منذ أكثر من سنة، وبالذات منذ انفجار أزمة الرهن العقاري، وتجد تسوية أو مسكنات للأزمة، تحيد البعد الاقتصادي من الرهانات الرئاسية. * * بروتوكول إنزال يهودي ببيت الإنجيليين * فما الذي دفع بالمؤسسة العاملة خلف الستار، على اتخاذ هذا القرار، الذي قرئ وقتها على أنه حكم بالموت على ورقة ماكيين - بيلين، وتزكية مبطنة لأوباما؟ * لعل أهم عامل كان نجاح الشطر الأول من السيناريو، بنجاح الفريق المحيط بأوباما في تحقيق النصر على فريق هيلاري، وكانت التحاليل التي أجريت على الفئات التي صوتت لصالح أوباما، قد أظهرت حصول تقدم لافت في أوساط الناخب الأبيض، الذي أقنعته الحملة بتجاوز العقدة العنصرية ضد اللون، ولم يتخلص من عقدة الجنس. هذا التطور فتح شهية المؤسسة، على اقتناص فرصة لا تعوض، لبيع رئيس ملون للأمريكيين، سوف يجيز بعد ذلك، إمكانية بيع رئيس يخرج عن المواصفات التقليدية التي كانت تجعله حكرا على قبيلة ال»وابس«: الأمريكيين البيض البروتستانت، ومنه فرصة إيصال رئيس من أصول يهودية، أراهن منذ اليوم، أنه سوف يكون الرئيس القادم للولايات المتحدة بعد الأسود أوباما، فجاء القرار الحاسم بدعمه، بتفجير الأزمة المالية في أفضل توقيت لها بالنسبة لأوباما. * * وحتى أضع القارئ في الصورة الكاملة، عليّ أن أذكره ببعض المعطيات: * 1 - لقد كانت الحملة الانتخابية الأخيرة من أكثر الحملات كلفة، (أكثر من مليار وثلث المليار دولار)، أكثر من ثلثيها كانت لصالح حملة أوباما. فإذا كنت تصدق أسطورة جمع ما يزيد عن 700 مليون دولار بطريق الانترنيت، بالقدر الذي يحرر المرشح من قبضة المؤسسة لاحقا، فليس عليك أن تتابع بقية فصول هذا السيناريو. * 2 - لقد كان الإعلام الأمريكي، الذي تهيمن عليه كبريات الشركات متعددة الجنسيات أكبر داعم لأوباما، واصطف خلفه كما لم يفعل مع أي مرشح في السابق. فإذا كنت تصدق أن قنوات مثل أي.بي.سي، وآن.بي.سي، وسي.آن.آن، وكبريات اليوميات، مثل الواشنطن بوست، والنيويورك تايمز، قد أصبحت بين عشية وضحاها، قنوات دعاية للحزب الديمقراطي، في خدمة المرشح الأسود القادم من خارج المؤسسة، فإنني أدعوك إلى الاحتفاظ بقناعاتك، إلى حين تتضح أمامك اللعبة. * 3 - وأدعوك إلى ذات الموقف، إن كنت تصدق، أن اختيار امرأة لمنافسة أوباما في الدور الأول، في مجتمع تشكل النساء في مؤسساته المنتخبة نسبة تقل عن 5٪، أو تصدق أن تعطيل مسار ماكيين باختيار السيدة سارة بيلين كان محض صدفة أو سوء اختيار من المرشح الجمهوري، ولم يكن أداة من أدوات السحرة. * * استفراد ال"سبين دوكتور" بالعقول المغيبة * التزوير والعبث بالعقول والإرادات كما نرى، كان من الدرجة الثالثة، استهدف إعادة تشكيل إرادة الناخب، وقد أنجز بطرق خفية، قد جربها خبراء الإشهار وتقنيات التسويق، في أسواق استهلاك البضائع والخدمات، التي جعلت الأمريكي يستهلك الصورة التي يصنعها الإشهار، وليس بالضرورة البضاعة والخدمات. والانتخابات في الولاياتالمتحدة وفي الديمقراطيات الغربية صارت تخضع لقوانين السوق، وتقنيات التسويق. ألم تر كيف استطاعت نفس التقنيات أن توصل ابن يهودي مهاجر من المجر إلى رئاسة فرنسا بالعمل على رزمة من الهواجس والعقد النفسية والثقافية عند الناخب الفرنسي، ومنها عقدة الجنس التي أهدرت الكثير من حظوظ سيغولين روايال في الفوز أمام ساركوزي. وثمة أمثلة كثيرة في الكونغرس الأمريكي، من منتخبين يدينون فقط لهذه الكيمياء الانتخابية التي تديرها فرق ال»سبين دوكتور« وخبراء علوم الاتصال. * قد يقول قائل: ما حاجة المؤسسة الحاكمة صاحبة القرار إلى هذه التعقيدات، وهي التي تتحكم في الحزبين، لا يعنيها من يتولى إدارة البيت الأبيض أو الكونغرس ما دام خراج المؤسستين يصلها إن عاجلا أو آجلا؟ * أمور كثيرة في اعتقادي دفعت بها إلى هذا الخيار، وتفعيل تقنيات التزوير الخفية بغاية إيصال باراك أوباما إلى الرئاسة في هذا التوقيت. * الأول: أنها تريد أن تتأكد من سلامة ونجاعة التقنيات، قبل الذهاب بأمان، في السنوات القادمة، إلى خيارات تفوق مجرد اختيار رئيس أسود للولايات المتحدة، وتثبت سيطرتها الكاملة، ليس فقط على الإعلام الأمريكي، بل سيطرتها على الإعلام العالمي الذي سخر بالكامل لصناعة حالة الأوبامانيا، التي جعلت العالم يصوت له قبل الناخب الأمريكي. * الثاني: أن الأزمة العميقة في الاقتصاد المالي الافتراضي المالي والحقيق، وما ورثته عهدتا بوش، من تفكك وتحلل للقوة الناعمة الأمريكية في العالم، والاستياء الذي خلقته عند حلفاء أمريكا، تحتاج إلى وجه جديد، ليس له ماضي سياسي يربطه بالإدارات السابقة، وصوله في ذاته يحمل رسالة توهم بالتغيير في الداخل والخارج، وتسمح للولايات المتحدة بالتقاط الأنفاس، وتبييض صحافها السوداء، وبناء جسور ثقة مع الحلفاء الغربيين دون الحاجة إلى تنازلات كبرى قد تهدد موقع الولاياتالمتحدة كقطب أوحد. * * في انتظار نقل تكنولوجيا تزوير الناخبين * قد لا يعنيني كثيرا الفحص في حقيقة إرادة الناخب الأمريكي الذي ينقله السحرة بهذه السهولة المذهلة، من منح عهدة ثانية وبسخاء، لرجل مثل بوش بعد الذي فعله في العهدة الأولى، إلى التصويت بكثافة لرجل أسود بأصول افريقية ومن أب مسلم، لكني مهتم بخطورة تصدير تقنيات التزوير هذه إلى دولنا، لتحل محل التزوير البدائي للمسارات الانتخابية عندنا، ذلك أني أفضل أن أكون ضحية ما نراه عندنا من تزوير بدائي لعمليات الاقتراع، والعبث بصناديق الاقتراع، على أن أكون ضحية لتزوير إرادتي بتقنيات التسويق التي تبيع اليوم للأمريكي ما تشاء.