هل كان منتظر الزيدي أراد فقط الانتقام من بوش وإهانته حين حذاه بحذاءيه أم أنه قد تزاحمت في صدره معاني كثيرة لا يفي بها الكلام المكتوب والمنطوق، فنظر في الموروث فاهتدى إلى أن فصل المقال هو في نعلين من المقاس الكبير يحذو بهما رأس حفيد "كاليغولا" وقد تذكر أن اسم الشهرة للإمبراطور الروماني الماجن إنما اشتق من الحذاءين العسكريين الصغيرين الذي اعتاد القيصر كايوس سيزار جيرمانيكوس على ارتدائهما ومعناهما في اللاتينية الحذاءين الصغيرين، فاعتقد منتظر أنه إنما يقذف حذاءين بحذاءين، وتلكم لعمري ليست جرما. * لله دره زميلنا الصحفي العراقي منتظر الزيدي، فقد قسم العرب والمسلمين، ومن جاورهم من الأمم إلى فريقين بزوج حذاء، قال بعضهم إنما أراد أن يحذو به لبوش، وزعم الفريق الآخر أنما أحذاه على حد قول العرب: أَحْذانِي من الحُذْيا، أَي أَعطاني مما أَصاب شيئاً. وعلى هذا المنوال انقسم رأي الناس من العامة والخاصة والخبراء، وأعوان المخبرين، وعلى هذا انقسمت الطبقة السياسية في العراق بين مؤيد رأى في المنتظر الزيدي، المهدي المنتظر الذي غسل عار الاحتلال بنعليه، ومن يقول أنه قد ألحق العار بدولة العراق، بعد أن أهان ضيفها الكبير وهو يحاذي على المنصة رئيس الوزراء. * لقد أنفقت القسط الأكبر من الأسبوع الأخير أرصد ردود الأفعال على ما أرى فيه أهم حدث في السنة المنتهية، أنهى به منتظر الزيدي عهدة بوش قبل موعدها بمشهد مهين لرئيس أعظم قوة في العالم، لن ينتهي أثره عند رحيل بوش، ولن تكون الرمية الأولى والأخيرة في وجه جبار رمى الملايين من الأبرياء في العراق وأفغانستان بصواريخ التوماهوك، وقذائف اليورانيوم المنضب. * * بالنعل يقرى الضيف الثقيل * * دعونا نذكر ببعض الوقائع حتى نتفهم سلوك الصحفي العراقي، ولا نستهجن، لا ردود الأفعال المؤيدة المنتصرة للمنتظر الزيدي، ولا تلك التي شجبت فعلته، وصنفتها في خانة قلة الأدب والذوق وحسن الضيافة، واستخفافا بالحرفية، وخروجا عن العرف المهني. * لنتذكر أن الرئيس الأمريكي لم يحل ضيفا على العراق كرئيس لدولة ذات سيادة بموجب دعوة، بل حل كالعادة من غير إذن بالدخول، ليستدعي رئيس حكومة الاحتلال المالكي إلى ندوة صحفية خصف فيها كما يقول المثل حذاءه، وزاد في حديثه ما ليس فيه من الكذب والتزوير والامتنان على العراقيين بالديمقراطية، فكانت ردة فعل منتظر الزيدي الذي حذاه بنعليه وكأنه يتمثل بالقول المأثور "لو كنت منا حذوناك" أما وقد فعلت ما فعلت بالشعب العراقي فإني لا أقول لك إلا ما قاله الرازج العربي: * * يَا لَيْتَ لِي نَعْلَيْنِ مِنْ جِلْدِ الضَّبُعْ * وَشَرُكاً مِنْ ثَفْرِهَا لاَ تَنْقَطِعْ * * * حوار بالنعال بدل اجترار اللعان * * لقد كانت هذه كل حججهم، فلم يروا في الحذاءين وسيلة تعبير، على غير ما يقوله لنا فقه اللغة في جميع لغات العلم، من أن الكلمة المنطوقة أو المكتوبة ليست وسيلة التعبير الوحيدة. أليست الإشارة والإيماءة بالرأس كلها وسائل تعبير، بنص الآية الكريمة "قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا". وإن جئنا للباس فهو اليوم وسيط من بين وسائط الاتصال، تعبر به الأجيال بما تعتمده من موضات؟ ولك أن تسأل كوكو شانيل وإيف سان لوران وغيرهما من مصممي الأزياء عن دور الحذاء. ثم كيف لا يكون الحذاء وسيلة تعبير وقد كان اتخاذه من عدم اتخذته رمزا مذهبيا لفرقتين من نساك "سيدة جبل الكرمل" بفلسطين، فاتخذت إحداهما الحذاء من باب التخفيف في المعتقد، ونزعته الطائفة الأخرى كرمز عن أصوليتها والتزامها بالتقشف. ثم إن أحدا لم يعب على نيكيتا كروتشيف الزعيم السوفييتي حين عبر بحذائه، وقد نزعه وجلد به منصة الأممالمتحدة أمام رؤساء دول العالم . * الحذاء لم يكن أبدا وسيلة عبور وحسب، حتى نحرمه من وظيفة التعبير التي اختارها له منتظر الزيدي الذي يكون قبل أن يدخل قاعة الندوة الصحفية قد تذكر الآية الكريمة من سورة طه "إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" فعلم أن المكان ليس بمقدس، وأن بوش، وإن ادعى ما ادعاه فرعون فإنه ليس برب، فعلقت بذهنه فكرة خلع النعلين لغاية نشأت في نفسه. * * فصل المقال من لسان العرب * * قد نظلم كثيرا هذا الصحفي الشاب، إن نحن وقفنا عند المعنى الوحيد الذي وقف عنده المنتصرون لمنتظر، والقول أنه إنما أراد التعبير عن مشاعر الغضب والانتقام لما علق في وجدانه من الصور المهينة والمذلة التي ارتكبها زعيم العقب الحديدي بوش في حق الشعب العراقي. آمل ألا يختزل هذا الفعل في هذا المعنى الضيق، ولا أنها كانت محض ردة فعل من مظلوم على أفعال طاغية. أريد ألا يغيب عن أذهانا أن منتظر الزيدي هو ابن بغداد والكوفة والبصرة والموصل، تلك الحواضر التي دونت لنا لسان العرب وفقهه، ولا بد أنه ملم بمادة "حذا" في لسان العرب، وبالمعاني التي تلازمها، وقد عدت لما يكون قد عاد إليه منتظر الزيدي، قبل أن يجمع رأيه على أن فصل المقال هو في أن يحذو بوش بنعلين من صنع الحذاءين الكوفيين، ولعله يكون قد وقف مثلي عند بعض هذه المعاني، فجهر ببعضها وأضمر أخرى. * المعنى الأول يكون للتقدير: وهو معنى ملازم لفعل الحذو، حيث يفيد لسان العرب لابن منظور أن "حذا: حَذَا النعلَ حَذْواً وحِذَاءً: قدَّرها وقَطَعها. وفي التهذيب: قطعها على مِثالٍ. ورجل حَذَّاءٌ: جَيّد الحَذْوِ. يقال: هو جَيّدُ الحِذَاءِ أَي جَيِّد القَدِّ. وفي المثل: مَنْ يَكُنْ حَذَّاءً تَجُدْ نَعْلاهُ. وحَذَوْت النَّعلَ بالنَّعْلِ والقُذَّةَ بالقُذَّةِ: قَدَّرْتُهُما عليهما. وفي المثل: حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ. * وقد شهد بوش لحذاء منتظر الزيدي بالجودة، وشهد له المشاهدون بحسن التقدير لزمن ومكان حذو بوش بالحذاءين. فهي آخر زيارة للرئيس الأمريكي الذي زعم ذات يوم وهو ينتعل سطح حاملة الطائرات "لقد انتصرنا" فيكون قذفه في هذه اللحظة، درسا له وعبرة لمن سوف يطأ بحذاءيه الزرابي المبثوثة بالبيت الأبيض، وفي ذهن الزيدي نص الحديث الشريف: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ". * المعنى الثاني قلة الوسيلة وضعف الحيلة: فليس لمنتظر الزيدي غير نعل انتعلها وفي نفسه شيء من قول الشاعر: * يا لَيْتَ لِي نَعْلَيْنِ مِنْ جِلْدِ الضَّبُعْ،،، وشُرُكاً منَ اسْتِهَا لا تَنْقَطِعْ، * كُلَّ الحِذَاءِ يَحْتَذِي الحافِي الوَقِعْ. * المعنى الثالث له صلة بخصلة الكرم العربي الحاتمي. ألا يقول لسان العرب: حَذانِي فلان نَعْلاً وأَحْذاني: أي أَعطانيها، فقد أنشد الهذلي: * حَذاني، بعدَما خذِمَتْ نِعالي، دُبَيَّةُ، * إِنَّه نِعْمَ الخَلِيلُ * بِمَوْرِكَتَيْنِ مِنْ صَلَوَيْ مِشَبٍّ، * مِن الثِّيرانِ عَقْدُهُما جَمِيلُ * ويقول الجوهري: اسْتَحْذَيْته فأَحْذاني. ويستدل من الكلام الذي صدر عن بوش أنه يكون فعلا قد استحذا الحضور، بكثير من الصلف فأحذاه منتظر دون انتظار. * ويقال في نفس المعنى: تَحاذَى القومُ الماءَ فيما بينهم إِذا اقْتَسموه مثل التَّصافُنِ. وفي التهذيب: أَحْذاهُ يُحْذِيه إِحْذاءً، إِذا أَعطاه. وأَحْذَيْتُه من الغنيمة * أُحْذِيه: أَعطيته منها. ومنه المَثلُ: بينَ * الحُذَيَّا وبين الخُلْسةِ. وفي الحديث: مَثَلُ الجَلِيسِ الصالح مَثَلُ الدَّاريِّ، إِن لم يُحْذِكَ من عِطْرِه عَلِقَكَ من رِيحه. والحذاء هو كل ما كان يملك منتظر الزيدي، فأحذاهما ضيف العراق، كهدية بشارة أو كعربون عن الغنيمة التي سالت لها لعاب بوش وديك تشيني. * * سلاح التذمر الشامل * * المعنى الرابع فيه الرغبة في الإقتداء. فتقول العرب: حَذَا حَذْوَه: فَعَل فعله، وهو منه. وفي التهذيب: يقال فلان يَحْتَذِي على مثال فُلان إِذا اقْتَدَى به في أَمره. فقد يكون الصحفي العراقي إنما أراد تقليد الزعيمين بوش والمالكي، وأراد أن يحتذي على مثاليهما في القذف بما يتيسر، وقد قذف بوش العراقيين بما تيسر لأمريكا من ترسانة التدمير أرسلت برؤوس ذكية على رؤوس الملايين من العراقيين والأفغان، مشحونة بأسلحة الدمار الشامل، فلم يجد منتظر الزيدي سوى "حذاء التذمر الشامل" يقذف به رأس بوش، ومن كان بحذائه. * ومع هذا يكون الزيدي قد أضمر المعنى الآخر كما يورده اللحياني: "أَحْذَيْتُ الرجلَ طعنةً أَي طَعنتُه" أو أراد معنى حذى اللبنُ اللسانَ والخَلُّ للفم، يَحْذيه حَذْياً قَرَصه. أو أنه يكون قد رأى في بوش ما يراه لحذَّاء في القُرْزوم، وهي الخشبة التي يحذو عليها الحذَّاء. وتوهم أنه قد أصبح بهيئة المِفْراصِ: وهي إشْفى عريض الرأس تُخصف به النِّعال، وهو يردد قول الشاعر: * وأدفع عن أعراضكم وأعيركم * لسانا كمقراض الخفاجي ملحب * ومع كل هذا لا أبرئ ساحة الزميل من إضمار معاني أخرى تفي بها الأمثال العربية كقولهم: "أذل من الحذاء" لأنه يمتهن في كل شيء عند الوطء. والمعنى في المثل: "كُلً الحِذاءِ يحتذي الحَافِي الوَقِعُ" وأمثال أخرى أخشى إن ذكرت بها أن يستغلها المدعي العام في الدعوى المقامة ضد الزميل. * * مقاس 44 على وجه كاليغوبوش * * ولأني متعاطف مع زميل قد ابتدع لنا وسيلة تعبير لا يطيقها الطغاة، فإني أهيب بفريق الدفاع الذي تطوع للدفاع عن الزميل، أن يستعين بقصة الإمبراطور الروماني كاليغولا (37 41 م) الذي عرف بجنونه ودمويته ومجونه. اسمه الحقيقي كايوس سيزار جيرمانيكوس، وعرف فقط باسم كاليغولا. وهو أصغر أبناء الجنرال الروماني جيرمانيكوس أي أنه يشارك بوش في عبارة جونيور، وهو حفيد الأمبراطور تيبير، نشأ بين العساكر الرومانية المخيمة في جيرمانيا، وقد استحق سم "كاليغولا" بسبب الأحذية العسكرية الصغيرة التي تسمى باللاتينية "كاليغا" أي الأحذية الصغيرة التي دأب على ارتدائها. * ويشترك بوش معه في أشياء كثيرة، فمثله ظهر كاليغولا وديعا حليما في الستة أشهر من عهده، قبل أن يتحول إلى طاغية متوحش، وقيل أن ذالك كان نتيجة مرض كما تقول اليوم بعض الدوائر بشأن بوش، ومثل بوش أهدر أموالا طائلة من ثروات روما، وإن لم يتجرأ بوش مثل كاليغولا على ادعاء الربوبية، فقد ادعى أن الرب يكلمه، ولست متأكدا أنه ارتكب مثل كاليغولا زنى المحارم مع الشقيقات، لكنه فعل ما فعل طاغية روما، الذي كان يقتل الأثرياء ليستحوذ على ممتلكاتهم. وإذا كان كاليغولا قد منح حصانه لقب قنصل بمعنى حاكم، فإن بوش قد منح ألقابا مماثلة لحيوانات هجينة في بغداد وكابل. * ألم يستوقفكم في هذا السياق كيف أن بوش لم يلتفت في الحادث سوى لمقاس حذاء منظر الزيدي، وقرأه على الملء من الصحفيين، وكأنه رأى في فعلة منتظر الزيدي ظلما وكيلا بمكيالين، فكيف يضرب كاليغولا أي "الحذاءين الصغيرين" بحذاء من مقاس عشرة (مقاس 44 عندنا). ولا أرى كيف يمكن لفريق الدفاع أن يدفع هذه التهمة الثابتة على الزميل منتظر الزيدي الذي كان عليه أن يضرب "كاليغوبوش" بزوج من مقاس كاليغولا.