عقود من عمر أمتنا سادت مقولات جاهزة، تعددت في عباراتها. واختلفت في صيغها، لكنها حملت دلالات واحدة، مفادها: أن كل المصائب التي تحل بنا، هي من نتاج المقاومة والمستعمر والقوى المسيطرة على مقدراتنا، ولاشك أن تلك المقولات التي تحوّلت إلى قناعات مع طول الأمد كانت في بعض منها صحيحة، وإن كانت خاصة بظرف معيّن، غير أن هذا لم يعد مقبولا الآن بعد الحروب المتتالية التي شغلت بعض دولنا سواء التي احتلت من قوى خارجية، أو تلك التي دارت فيها حرب أهلية لأسباب سياسية أو خلافية، خصوصا بعد الحرب الدائرة في غزة هذه الأيام. * إن لم تعد الصعوبة في اتخاذ قرار يحدد مصير الأمة ومستقبلها نتيجة التآمر وضغط الآخر الخارجي، وإنما نتيجة القابلية لما يرمز إليه صاحب القوة، العاجز مع جيرانه، مثل عجز الولاياتالمتحدةالأمريكية على منع قرارات تعطّل مصالحها صادرة عن الرئيس »هوجو تشافيز« في فنزويلا.. هناك استسلام في المطلق، قبل بدء الحرب وبعدها وأثناءها، المدهش أن الشعوب التي تدفع الثمن أكثر جرأة عند التحدي وصبرا عند المواجهة، والتزاما بمبادئ الإيمان وتقديم التضحيات مقارنة بالقادة، مع أنها هي الوقود لكل الحروب التي وقعت في الماضي والحاضر، وحتى تلك الأخرى التي ستقع في المستقبل. * مع ذلك، فإن كثيرا من القادة يعتقدون أنها الشعوب لم تصل إلى سن الرّشد بعد، وهذه المسألة في غاية الخطورة، ليس فقط لكونها تكشف عن تناقض لدى الحكام، خصوصا في الأنظمة الجمهورية، ولكن لأمرين هامين الأول: أنه عند الانتخابات، حتى المزوّرة، يتم العودة فيها للشعب، والثاني: أن كل القرارات بما فيها إصدار الأحكام القضائية في المحاكم يتم باسم الشعب. * الشعور بعلوّ المكانة والصّنميّة والوثنية الجديدة، هي التي أوصلت أمتنا إلى الحالة الرّاهنة، فمن كان يعتقد قبل عشر سنوات فقط أن يكون بعض العرب في صف إسرائيل، أو من كان يعتقد تخلينا عن قضيتنا المركزية »فلسطين«؛ ذلك لأن الأمم الأخرى التي ليس لها قضايا نابعة من التاريخ أو الإيمان أو المدنية ابتدعت قضايا تشغلها حتى تظل جاهزة للتجمع والقوة، بالرغم من أنها على باطل.. لقد تجاوزنا حال المخلّفين والقواعد والذين يسلقون المجاهدين بألسنة حداد إلى حالة لا يمكن وصفها، صحيح أن هذا مخزٍ ومقلقٍ ومذل، لكن تلك هي الحقيقة. * لقد زيّنت لنا الدنيا مع أن معظمنا لا ينال منها نصيبا، وهو فيها من الأذلّين، وساعدنا على الغي شياطين الجن والإنس »يوحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا«، حتى غدا القتل لأنفسنا منا أو من الغير أمرا مقبلا ميسورا، وإلا كيف نرى إخوة لنا يقتلون بلا بذنب ارتكبوه إلا أن قالوا ربنا الله وفلسطين أرضنا، ثم نتحالف مع قوى خارجية ضدّهم بحجتين، الأولى: المحافظة على المصالح العليا للدولة القطرية. والثانية: رفض وصول أحزاب دينية إلى الحكم. * الحجتان السابقتان واهيتان، لأن المصالح الوطنية لكل دولة عربية لن تحقق بتأييد إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية، بل إنها على العكس من ذلك، إذ أن غيابها يعني التراجع الكامل، كما أن المحاولات التي قامت بها الأنظمة العربية خلال العقود الخمسة الماضية لإبعاد الإسلاميين عن الحكم، انتهت إلى استيطانهم للقلوب، فاتسعت تلك القلوب، مثلما رحّبت بهم السجون والمعتقلات، وخرجوا منها أكثر عزما وإقبالا على العمل السياسي، في الوقت الذي عجزت فيه بعض الأنظمة العربية بكل أجهزتها ومؤسساتها من التقدم خطوة واحدة باتجاه الشعوب، مع أن الطريق أمامها معبّد لو أرادت أن تتبع سبيل الرشاد، أو تحتكر الإسلام لو أرادت، وهو الأمر الذي وقعت فيه الأحزاب الإسلامية، حين تحالفت مع السلطات فشغل قادتها أموالهم وأهليهم، والتجربة في الجزائر والسودان والعراق خير مثال. * لا أحد ينكر أن للتيارات الدينية في أوطاننا العربية أخطاؤها، منها ما هو مقبول ومبرّر نتيجة النقص في التجربة السياسية، ومنها ما هو قاتل ومرفوض لأنه يتعلق بتقديم »النفعية السياسية« على حساب مقاصد الشريعة، لكن مهما كانت تلك الأخطاء فإنها لا تجعلنا عناصر النخبة أو الحكام نتعامل مع الإسلاميين باعتبارهم الفئة الباغية، لدرجة نسلّمهم للعدو، كما هي الحال مع حماس في غزة هذه الأيام أو مع حزب الله في حرب 2006.. * لِمَ لا نعتبر الإسلاميين فئات مجاهدة وهم فعلا كذلك، مهما أخطأوا، خصوصا حين يتعلّق الأمر بمقاومتهم للعدو الخارجي؟.. لماذا لا نأخذ العبرة من العدو الإسرائيلي في حربه الظالمة، فهل تختلف أحزابه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار عن أهداف الدولة العبريّة؟ * لاشك أن الفلسطينيين قد تجازوا الخلاف بين التيارات في حربهم الراهنة، يستثنى من ذلك بعض من فريق السلطة الوطنية، وها نحن نرى كل الفصائل باختلاف توجهاتها تقاتل في الميدان مجتمعة على قلب رجل واحد، وإذا كنا نقول أن لسنا أوصياء على الفلسطينيين فليكن هذا الموقف شاملا، وغير قابل للتحايل من طرف أنظمة دول مجاورة لهم، وأخرى بعيدة عنهم. * باختصار من لا يريد لحماس أن تنتصر في فلسطين أمام عدوها، فإنه يعيدنا إلى بداية انتشار الدين، ليسألوا أنفسهم: هل حال المشركون دون دخول الناس في النور وخروجهم من الظلمات؟!. * هذا ليس وصفا للواقع، ولا أملا يرتجى، لكنه الحقيقة الإلهية التي ستجعل ربيع الفلسطينيين قريبا، فالراحلون إلى هناك أحياء في العالم العلوي فرحون، أما من رضوا بأن يكونوا من الخوالف على المستوى العسكري والسياسي والثقافي فليتربصوا بالمجاهدين الدوائر ولينتظروا نصرا مؤزرا للمجاهدين، حتى لو طالت المسافة، أو صعبت الطريق، أو بلغت القلوب الحناجر و»ظنّ كثير منا بالله الظّنون«