الغليان الكبير والمتصاعد الذي كانت قد سجلته سوق الأدوية منذ بضعة أشهر، يبدو الآن أنه نجح في تحريك و"خلخلة" بعض الأوضاع المتجذرة بشكل شاذ، مما أفضى إلى التفكير الجدي لأول مرة في إعادة النظر في التنظيمات السارية، وربما إعادة ترتيب التوازنات القائمة التي يتجاذبها حاليا 340 مخبر عالمي يسوق منتوجه عندنا، والتي جعلت من سوق الأدوية في البلاد المحملة بأكثر من أربعة آلاف دواء أخطر قنبلة اجتماعية واقتصادية موقوتة. فمنذ أيام طالب الرئيس المدير العام لمجمع صيدال، علي عون، المستقيل أو المحال على التقاعد، طالب الحكومة بالتدخل السريع لوقف ما أسماه بالهجمة الشرسة لأزيد من 123 مستورد وبعض المخابر العالمية لكسر الصناعة الصيدلانية في الجزائر، مؤكدا أن بعض المخابر لا تحترم إطلاقا قواعد المنافسة ولا حتى القوانين الجزائرية، مما أصبح يهدد حياة الملايين من المرضى الجزائريين، مستغربا عدم تدخل السلطات على الأقل لمنع الدوس على القوانين.وبالتزامن مع ذلك حذر الاتحاد الوطني لمتعاملي الصيدلة من انفتاح سوق الصناعة الصيدلانية على المنافسة الأجنبية دون مبادرة السلطات بإجراءات تحفيزية للصناعة المحلية التي لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات والتي تحتاج لسياسة تضمن تطورها.ومن جهتها، كشفت الحكومة مطلع الشهر الماضي -على لسان وزير الاتصال عبد الرشيد بوكرزازة- أنها صادقت على السياسة الجديدة لترقية الأدوية الجنيسة وأقرّت القائمة الجديدة للأدوية الخاضعة للتسعيرة المرجعية والتي ارتفعت من 116 إلى 295 دواء بتسمية عالمية، وأكدت أن سياستها الجديدة ستعمل على تشجيع الأدوية الجنيسة وتحيين قائمة الأدوية القابلة للتعويض ومحاربة التجاوزات والغش، وكان ذات الوزير قد أكد من قبل أن مشروع تعديل القانون المتعلق بترقية الصحة الذي تبناه مجلس الحكومة يهدف بالأساس إلى تحقيق الوفرة في المواد الصيدلانية وكذا النوعية وسهولة الوصول إلى الأدوية والحيلولة دون ندرة الدواء، وأعلن عن ولادة هيئة ضبط تنظم سوق الأدوية وتتكفل بالسهر على سلامة الأدوية ونوعيتها وفعاليتها ومراقبة شروط المطابقة والتحكم في أسواقها لفرض الشفافية فيها... وفي ذات الوقت كشفت وزارة الصحة -على لسان ممثلها سماتي - أنها تتطلع الآن إلى رفع حجم الأدوية الجنيسة المستوردة لتصل إلى نسبة 45 بالمائة من مجموع الأدوية المستوردة، على أن يتم الوصول في المستقبل إلى نسبة 70 بالمائة، مما سيخفض بشكل ضخم فاتورة استيراد الأدوية، لكون الدواء الجنيس أرخص ثمنا بنسبة 30 بالمائة. ورغم كل هذه "الهمم" والتصريحات والإجراءات مازالت فاتورة الأدوية المستوردة تسجل ارتفاعا مذهلا ومتواصلا وبشكل غير مسبوق، ومازال الفشل يلاحق كل محاولات تشخيص المعضلة والكشف عن خفاياها الحقيقية، ومازال الاستهلاك الدوائي في بلادنا يتضخم على جميع المستويات لينقلب إلى عبء حقيقي يرهق كاهل الأمة، ورغم ذلك مازالت ظاهرته مسكوتا عنها وسر السكوت لا يدركه أحد. السر الوحيد الذي بدأ ينكشف ويتجلى -كما يبدو- يكمن في حقيقة واحدة مازالت تقف وراء المعضلة كلها وهي إشكالية "حاميها حراميها" وهي التي أشار إليها السيد علي عون عندما استنكر عدم احترام قواعد المنافسة الشريفة. قانون أبوقراط وقانون الإكراميات يُفترض أن الأصل في كل الحكاية أن الطبيب هو الوحيد المخول شرعا وقانونا لوصف الأدوية التي تصرف للناس لأجل العلاج، والأصل أيضا أن لا يصف إلا الأدوية الجيدة التي تحتاجها حالة مريضه، وبالتالي فكل الأدوية التي تدخل البلاد بعشرات الملايين من الدولارات يفترض أن يكون قد وصفها الأطباء وطلبوها باستمرار واختاروها لفعاليتها فصارت "تجارتها" رائجة؛ أي أنهم هم وحدهم المسؤولون عن استيرادها، ويفترض أن الأطباء أحرار في وصف أي دواء، ولا يخضعون إلا للوازع الأخلاقي والمهني والقانوني، طبقا لما تعلموه وطبقا لما التزموا به، وطبقا لما تعاهدوا عليه في قانون أخلاقيات المهنة، وطبقا لقسم أبوقراط، لكن ماذا يحدث حين ينفلت الوضع ويسقط الأصل وتسقط معه حرية الأطباء في بحر إغراءات المخابر الدولية المصنعة للأدوية وضغوطاتها النفسية، فتباع الذمم وتداس الضمائر ويمزق قسم أبوقراط ويرمى قانون أخلاقيات المهن الطبية في المزبلة، ليسود بدل كل ذلك قانون واحد هو قانون مزايا وهدايا لوبيات الدواء.عندها لا غرابة أن تتحول البلاد إلى مزبلة كل المنتوج الدوائي الغالي والمنبوذ في العالم، ولا غرابة أن تقفز فاتورة الاستيراد في هذا المجال إلى ما وصلت إليه وأكثر... منافسة شعارها "طاڤ على من طاڤ" بداية البدايات حركتها المنافسة الطبيعية بين المخابر الدوائية الدولية على السوق الجزائرية والتي يزيد عددها عن ال 340، لأنها إحدى أكبر الأسواق الإفريقية، مما يعني أنه إذا ما نجح مخبر في تسويق بعضا من منتوجه عندنا فقد ولج بداية النجاح والربح الوفير من بابه الواسع، ولذلك لجؤوا جميعا إلى إعطاء أهمية معتبرة لسياسات الترويج التجارية المختلفة، وأغرقوا السوق بالمندوبين الطبيين الذين يتولون الدعاية لمختلف الماركات الدوائية، وصار هؤلاء يقفون بالطوابير مع المرضى على أبواب العيادات الطبية والصيدليات، وفي مرحلة ثانية أصبحوا لا يأتون فارغي الأيدي، بل يحملون معهم هدايا رمزية بسيطة عليها أسماء ورموز أدويتهم، ليتذكرها الأطباء عند تحريرهم للوصفات الطبية، ثم انفتحت السوق على مصراعيها، واشتعلت المنافسة بين المخابر الدوائية وأصبحت أكثر شراسة، وسرعان ما تحولت إلى حرب شعواء بلا ضوابط استخدمت فيها كل الأسلحة المباحة وغير المباحة، وشعارها الوحيد "طاڤ على من طاڤ"، وكان المستهدف الأول في الحرب كلها هو الطبيب والصيدلي ومن يتولى وصف الأدوية وصرفها، وصار السلاح الأكثر نفعا هو سلاح الهدايا والإكراميات والإغراءات و مختلف أشكال "البونيس". وحينها لم تعد وظيفة المندوب الطبي هي شرح دوائه وتوضيح مزاياه والبرهنة على مصداقيته وما إلى ذلك، بل صار المطلوب منه هو ماذا أحضر معه، وصار من العيب أن يدخل مندوب طبي على عيادة طبيب فارغ اليدين أو يحمل معه فقط تلك النشريات والملصقات التي هي في النهاية مجرد كاغط لا يملأ عين الطبيب ولا يسمنه من طمع، وتنوعت الهدايا وتنافست على ترقيتها المخابر الطبية لكسب قلوب مروجيها، فانتقلت من الأقلام الجميلة والكراسات والأجندات المنمقة إلى الساعات اليدوية والمكتبية والحائطية إلى الكؤوس والمحافظ والحقائب إلى المآزر والبدلات الطبية إلى تجهيزات المكاتب والكراسي الوثيرة إلى اللوازم الطبية وأجهزة الإعلام الآلي، هذا بالنسبة لصغار الأطباء العامين، أما المختصون فيستفيدون عادة وبصفة دورية -علاوة على ما سبق ذكره- من رحلات ترفيه واستجمام في إحدى العواصم الأوروبية مقابل تبني المنتوج وترويجه، لكن بالنسبة للأطباء الأساتذة بالمستشفيات الجامعية، ومعهم رؤساء المصالح الذين يتكفلون بطلبات الأدوية، لهم وضع خاص، إذ يستفيدون من شبه عقود مع المخابر، ورحلات الإستجمام والعمرة (؟) يستفيدون منها مع كل أفراد عائلاتهم، وبالتكفل التام ومن ضمنها هدايا العودة، ومنهم من يحظى بأفخر السيارات إذا ما التزم بفرض شبه احتكار لمنتوج دوائي معين في مصلحته، بحيث يغلق الباب أمام الأدوية المماثلة. أما مع الصيادلة فعقود التعاملات صارت شبه موثقة، بحيث إذا نجحت صيدلية ما في بيع نسبة معينة من دواء ما، يلتزم المخبر الدوائي المعني بمنحها "بونيس" يتراوح من "الكوكوت" إلى الدراجة الهوائية إلى الهاتف النقال مرورا بكل الأجهزة الكهرومنزلية وصولا إلى السيارة والرحلة الاستجمامية خارج الوطن، وهو الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يخفي صفقات ومعاملات خطيرة جدا يدفع ثمنها المواطن بصحته وتحوله إلى "كوباي" لتجريب مختلف الأدوية التي تفتقد لشرط المطابقة. والكارثة الكبرى أو الحرب الحقيقية تشهدها المستشفيات والعيادات العمومية المتعددة الخدمات حين يتم فرض طلبية دواء معين دون غيره للاستعمال الاستشفائي ولمدة طويلة وتكون ميزة هذا الدواء الوحيدة هي الإكرامية التي تلقاها المكلف بالطلبية، ولا تستغربوا إن وجدتموه يوما رفقة كل أفراد أسرته في أفخم الفنادق الأوروبية "يتنعنع" في جولة سياحية تكلفتها تساوي أضعاف أجرة عمره كاملا من العمل... لكل مخبر حزبه، وكل حزب بملايين الدولارات فرحون وفي خضم هذه المنافسة على نوعية وقيمة وتميز "البونيس"، صار لكل مخبر دوائي أطباؤه الذين يشكلون له لوبيا قائما بذاته أو حزبا له برنامجه والتزاماته، وانقسمت البلاد إلى أحزاب وشيع دوائية، والكل يغرف من ملايين الدولارات لفاتورة الاستيراد التي تثقل كاهل الدولة. هذه الفوضى الدوائية، وهذه الخسائر، فضلا عن الأخطار الصحية المحدقة.. تعود في الأساس إلى الدور السلبي لوزارة الصحة وإصلاح المستشفيات التي تماطلت كثيرا في تحديد سياسة وطنية متكاملة للدواء، بل الأدهى من ذلك أنها تكاد تتخلى تماما عن هذا القطاع لصالح متعاملين هم في الأصل مجرد تجار و"بزناسية"، فمن الواضح أن شركات الأدوية الأجنبية استغلت الانفجار الحاصل في مداخيل البلاد الضخمة والتسهيلات التي تمنحها وزارة الصحة مع الفوضى التي تعيشها السوق الجزائرية بسبب عدم توفرها على التشريعات الضرورية التي تسمح بمراقبتها والتحكم فيها وكذلك بإجراء تجارب المطابقة البشرية للأدوية التي تدخل بكميات ضخمة جدا وأغلبها منتجات غير حيوية لتحقيق مكاسب كبيرة على حساب الخزينة العمومية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.الدكتور خالد السعيد، رئيس ولائي للاتحاد الطبي الجزائري، يقول في هذا الإطار إنه يتأسف جدا لوقوع الكثير من الأطباء في فخ إغراءات المخابر الدوائية الدولية، واعتبر القبول بالهدايا الكبيرة مقابل الالتزام بترويج المنتوج الدوائي هو خيانة للأمانة الطبية، وحمّل وزارة الصحة مسؤولية وقف هذه الظاهرة الخطيرة بمحاولة التحكم في عملية استيراد الدواء، وبالتالي التحكم في كل مجريات المنافسة، وأوضح أنه في جارتنا الشرقية (تونس) تتكفل الدولة وحدها باستيراد الدواء، وفي حالة مبادرة أحد الخواص بإنتاجه محليا تتوقف تلقائيا عن استيراده، وأرجع أيضا سبب هذه الفوضى الدوائية إلى تساهل وزارة الصحة في تسجيل أي دواء تتقدم به المخابر الدولية، خاصة الفرنسية منها، والغريب في الأمر أنه مقابل ذلك لا تتساهل في تسجيل الأدوية المصنعة محليا المقدمة من الشركات الجزائرية العمومية والخاصة. لكن المسؤولية الأولى -كما أضاف الدكتور خالد السعيد- يتحملها الطبيب الذي يبيع ضميره ويخون صحة مريضه بكتابة دواء غير مقتنع به مقابل تلقيه هدايا من صانعيه، والغريب في الأمر -كما يضيف- أنه لم يسبق أن قام طبيب بتسجيل ملاحظات أو تحفظات ضد دواء ما لدى المصالح الصحية التابعة للدولة، لتتولى وزارة الصحة التحقق من فعاليته بإجراء عملية المطابقة. وإذا كانت بعض المصادر تشير إلى أن مصالح وزارة الصحة والسكان قد انتبهت لخطر الإكراميات والهدايا التي تقدمها المخابر الدولية للأطباء على المنظومة الصحية بأكملها وأصدرت تعليمات بمنعها، إلا أن ذلك سيبقى على ما يبدو مجرد إجراء ميت ما دامت ضمائر الأطباء ميتة، لكون الهدايا والإكراميات -مقابل تفضيل دواء على آخر بدون اعتبارات طبية- هي عملية لا تتم في وضح النهار. من مدونة أخلاقيات الطب: المادة 10: لا يجوز للطبيب وجراح الأسنان أن يتخليا عن استقلالهما المهني تحت أي شكل من الأشكال. المادة 11: يكون الطبيب وجراح الأسنان حرين في تقديم الوصفة التي يريانها أكثر ملائمة للحالة، ويجب أن تقتصر وصفاتهما على ما هو ضروري في نطاق ما ينسجم مع نجاعة العلاج. المادة 18: لا يجوز النظر في استعمال علاج جديد للمريض إلا بعد إجراء دراسات بيولوجية ملائمة تحت رقابة صارمة المادة 20: يجب أن لا تمارس مهنة الطب وجراحة الأسنان ممارسة تجارية.. المادة 24: يمنع ما يلي: قبول أي نوع من أنواع العمولة أو الامتياز المادي مقابل أي عمل طبي. المادة 119: لا يجوز للصيدلي بأي حال من الأحوال أن يبرم اتفاقية تهدف إلى الحد من استقلاله التقني خلال ممارسة مهنته المادة 136: يمنع أي نوع من أنواع التواطؤ على حساب مصلحة الجمهور بين الصيادلة والأطباء وجراحي الأسنان والمساعدين الطبيين أو أي شخص آخر.