في الوقت الذي كان فيه اليمن يحضر للاحتفال بالذكرى ال 19للوحدة ، برزت دعوات للانفصال ، والتي بلغت أوجها بإعلان ''علي سالم البيض''، الرئيس السابق ل''جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية'' -قبل الوحدة- أنه سيقود المساعي المؤدية إلى انفصال الجنوب. وجاءت دعوة ''البيض'' لانفصال ''اليمن الجنوبي'' عن ''الشمالي'' مرة أخرى في وقت يشهد فيه الجنوب حالة من الغضب والسخط على الفساد وعدم تحقيق أية ميزة من الوحدة، ولهذا السبب تدور منذ عام 2006 مظاهرات شبه يومية جنوبية تتهم الشمال بنهب ثروات الجنوب، وأدت لسقوط قتلى وجرحى بالرصاص في مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في عدن جنوب اليمن، وكذا في محافظتي ''لحج'' و''الضالع'' اللتين شهدتا اشتباكات مسلحة، ومواجهات دامية بين قوات الجيش وأعداد من الأهالي قيل بأن ورائها توجهات انفصالية. الرئيس اليمني علي عبد الله صالح سعى لتطويق هذه المحاولات الانفصالية في خطاب وجهه إلى الشعب بمناسبة العيد التاسع عشر للوحدة اليمنية يوم 21 ماي الجاري، دعا فيه إلى الحوار بين اليمنيين ومعالجة كافة القضايا التي تهم الوطن، وألمح إلى أن مشكلات اليمن الاقتصادية راجعة للأوضاع الاقتصادية الناتجة عن الأزمة المالية العالمية وانخفاض أسعار النفط عالميا، إلى جانب انخفاض الإنتاج في اليمن وزيادة معدلات النمو السكاني، وبالمقابل طالب قادة جنوبيون بانفصال الجنوب عن الشمال بالتراضي مثلما فعلت مصر وسوريا في دولة الوحدة، ولكن المسؤولين الشماليين يرون أن هناك فارقا كبيرا بين وحدة اليمنيين ووحدة مصر وسوريا أقلها القرب الجغرافي. هل التخويف بالانفصال حقيقة ام فزاعة لدعم عبد الله صالح ؟ تساءل أهم الخبراء والسياسين حول الاسباب التي أججت مشاعر الانفصال بمثل هذه الصورة المتصاعدة وهل ينفصل اليمن الجنوبي عن اليمن الشمالي بالفعل ويعود شطر من البلاد للقتال ضد الشطر الآخر، وهل خطر الانفصال وتفتت البلاد وسقوطها في فخ الفوضى حقيقي أم أنه مجرد ''فزاعة'' جديدة من الحكومة لتخويف اليمنيين ودفعهم للاصطفاف خلف الرئيس ضد خصومه بدعوى وجود خطر يهدد أمن واستقرار البلاد؟ يقول بعض الخبراء ان السلطة الحاكمة في اليمن تسعى لتخويف مواطنيها المطالبين بإنهاء حكمها الجاسم على صدورهم بإطلاق ''بعبع'' أو ''فزاعة'' التخويف من خطر الانفصال وتقسم البلاد وانهيارها على غرار ما يجري في الصومال المجاور، لدفع اليمنيين للوقف خلف السلطة وحشد الدعم للرئيس اليمني وضرب المعارضة (أحزاب اللقاء المشترك)، حيث يصورون كل من يطالب بإنصاف الجنوب والاهتمام بمشاكله أو من ينتقد الرئيس على أنه ''انفصالي'' ومعاد للوحدة اليمنية، وتشهر به وسائل الإعلام الحكومية وتطارده. والملفت هنا أن الرئيس اليمني تحدث في اللقاء التشاوري مع قيادات السلطة المدنية والعسكرية في 25أفريل الماضي بصورة تؤكد رغبته في ترسيخ هذه الفزاعة أو لأن هناك خطر حقيقي يهدد اليمن حيث قال صراحة: ''أنا لا أخاف عليكم أنتم.. لكني خائف على الجيل الجديد، لن تكونوا شِطرين.. ستكونون دول، وستتقاتلون من بيت إلى بيت، ومن طاقة إلى طاقة''، وألمح إلى ما يجري في العراق والصومال وحذر منه.ولكن ما رفع من أسهم ''الفزاعة'' كان قول نائب الرئيس عبد ربه منصور، إن ''حكم ديكتاتوري لمدة 60 عاماً أفضل من فوضى سنة''، وكأنه يطالب اليمنيين بالاصطفاف خلف الرئيس وإلا ستعم الفوضى!. وما يقوله الرئيس ونائبه يبدو رداً على ما تقوله أحزاب المعارضة المتحالفة في ''اللقاء المشترك'' التي ترى أن سلوك الرئيس والسلطة وغياب الديمقراطية والشفافية هو الذي يؤدي لتعميق الأزمات والمشكلات السياسية والأمنية والمعيشية، بشكل يبعث على انتشار الفوضى ومزيد من التدهور والانفلات على كافة الأصعدة، وتصاعد شبح الحروب والعنف والانقسامات المجتمعية وتفاقم الأزمات المعيشية. دعوات الانفصال تضع استمرارية نظام صالح على المحك مقابل رأي الخبراء الذين يرون أن السلطة الحاكمة في اليمن تستثمر في تخويف الناس من خطر الانفصال ، لدفع اليمنيين للوقف خلف السلطة وحشد الدعم للرئيس اليمني وضرب المعارضة، يرى البعض الآخر ان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي تتراكم بوجهه المشاكل يواجه ازمة كبرى لاستمرارية نظامه خصوصا مع صعود النزعة الانفصالية في الجنوب، لان اليمن يواجه اصلا خطر عودة القتال مع المتمردين الزيديين في الشمال، وخطر تنظيم القاعدة الذي يعد مسؤولا عن سلسلة من الهجمات التي ضربت هذا البلد الفقير الذي تراجعت عائداته النفطية بقوة بسبب الازمة الاقتصادية العالمية.الا ان الخبراء يجمعون على ان جنوب البلاد الذي كان مستقلا بين 1967 و1990 بات على حافة الانفجار، وان مشكلة الجنوب هي الاكبر بين مشاكل الرئيس اليمني (67 عاما). ويؤكد الخبراء ان صالح الذي يعد تكتيكيا ماهرا، يصارع منذ 31 عاما امواج الازمات. وعلى الرغم من اتهامه من قبل البعض بانه يلعب لعبة مزدوجة مع الاسلاميين المتطرفين القريبين من القاعدة، تمكن صالح منذ العام 2000 من المحافظة على دعم الدول الغربية بدءا من الولاياتالمتحدة، وذلك تحت شعار الحرب على الارهاب ..والسؤال الذي يطرحه الجميع في اليمن بما في ذلك داخل السفارات الغربية هو ما اذا كان صالح سيتمكن من اطفاء الحريق في الجنوب. مخاطر الانفصال على الوحدة مهما كانت الاسباب التي تقف وراء تعالي دعوات الانفصال في هذا الوقت بالذات الا ان هذا في حد ذاته يمثل خطرا حقيقيا على اليمن، فبعد 19 عاما من الوحدة دشنت في 22 ماي 1990 بين اليمن الشمالي والجنوبي فهناك مخاوف كبيرة متصاعدة ليس فقط من عودة انشطار اليمن لدولتين، وإنما لثلاث وأربع.، رغم انه ليس سراً أن الشطر الجنوبي يعاني من الإهمال ضمن مسلسل الفساد وانهيار الخدمات منذ انضمامه للشمال، وهو ما أعاد دعوات الانفصال بعد أربع سنوات فقط من الوحدة ولكنها قمعت حينذاك بالسلاح. فدعاوى الانفصال ظهرت مجدداً في أفريل 1994 بوادي ''دوفس'' بمحافظة أبين الجنوبية بعد أربع سنوات فقط من الوحدة، وتفجرت حرب دموية شرسة عرفت بحرب الانفصال أو حرب الألف ساعة، وانتهت الحرب بتسليم الانفصاليين سلاحهم للقوات الحكومية، وتم إعادة الوحدة مرة ثانية في 7 جويلية ,1994 وأصبح علي عبد الله صالح هو ''الرئيس اليمني'' بعد أن كان لقبه ''رئيس مجلس الرئاسة'' في أكتوبر .1994 وتبع هذا في عام 2006 دعوة رسمية لأول مرة من رئيس الوزراء اليمني السابق حيدر أبو بكر العطاس، وهو أول رئيس وزراء لدولة الوحدة اليمنية، للعودة للانفصال وتقسيم اليمن إلى شطرين شمالي وجنوبي، حيث دعا العطاس كلاً من الرئيسين علي سالم البيض وعلي عبد الله صالح اللذان وقعا على اتفاقية الوحدة بين الجنوب والشمال إلى الذهاب فورا إلى مقر الجامعة العربية في القاهرة والتوقيع على اتفاقية ل ''فك الارتباط'' بين الجنوب والشمال كما فعل جمال عبد الناصر حينما قرر السوريون فك الارتباط مع مصر.وأكد العطاس أن الغالبية الساحقة من أبناء المحافظات الجنوبية والمعارضة تؤيده في هذه الدعوة للانفصال، وأرجع الرغبة في الانفصال إلى ''مكابرة السلطات في صنعاء'' وتجاهلها الدعوات لإيقاف الفساد واستغلال أراضي وإمكانيات الجنوب، والتعامل مع الجنوب بعقلية ''القمع العسكري'' وبعقلية ''المنتصر'' و''المهزوم''؛ فتحولت إلى محتل''، بحسب تعبيره!. وما زاد من خطر الدعوة للانفصال هذه المرة والتخوف من وقوع صدامات دامية بين السلطة وبين الجنوبيين أن اليمن يعاني من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية وانخفاض أسعار النفط وتدهور أحواله الاقتصادية.وغني عن البيان أن هناك اتهامات مستمرة للسلطة في قضايا نهب الأراضي وحقوق المتقاعدين، وإتباع سياسة الإرضاء والاستمالة، كشراء القادة، والوجهاء، ومراكز النفوذ بالمال والمناصب والسيارات، وتجاهل مشاكل المواطن العادي والمجتمعات المحلية، والشباب الساخط العاطل عن العمل، وهي سياسة ترى المعارضة -سواء في الشمال أو الجنوب- أنها شجعت مزيدا من القوى على التمرد. سيناريوهات غربية ترجح الانفصال هناك تقارير غربية بدأت تروج بالفعل لسيناريو الفوضى في اليمن وتعتبره ''مشروعاً طويل الأجل في أفضل الأحوال''، أي أنه سيناريو قادم قادم ولكن قد يطول انتظاره أو يقصر.. هذا على الأقل ما خلص إليه التقرير الدوري ل ''وحدة المعلومات الاقتصادية الدولية'' بلندن الصادر في أفريل الماضي ,2009 والذي يغطي فترة النصف الثاني من العام 2008 وتداعياتها. فقد رأى التقرير أن موقف الحكومة والنظام في اليمن بات مهزوزاً أكثر من أي وقت مضى نتيجة للعديد من العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي من بينها تزايد نشاط الحركة الانفصالية في عدد من المحافظات الجنوبية، وسيطرة عناصر التمرد الحوثي على عدد كبير من مرافق الدولة بمحافظة صعدة، وضعف أداء الحكومة، وفشل وزرائها المستمر، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي اليمني الهش، ناهيك عن التحدي الكبير الذي تواجهه الحكومة والمتمثل في ارتفاع وتيرة هجمات القاعدة. ويخلص التقرير لترجيح وصول سيناريو الفوضى لليمن، عاجلاً أم آجلاً، لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه!. كما يرصد التقرير إنفاق الحكومة مبالغ كبيرة من ميزانيتها لإعادة التسليح، ويعتبر ذلك عبئاً كبيراً على الحكومة اليمنية في ظل الأزمة المالية الحادة والعجز المالي المتفاقم الذي يصل هذا العام الي خمسة مليار من الدولارات. ويرى التقرير البريطاني أن الحل والمخرج هو ''الانتقال إلى نظام أكثر فيدرالية''، يمكن أن يمتص الكثير مما وصفه التقرير ''التمرد في الشمال والجنوب''، ويمكن له أيضاً أن يساعد على ترسيخ الوحدة الوطنية، أما لو استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الحكومة اليمنية ستفقد الكثير. اليد الغربية تقف وراء دعوات الانفصال يبرز في الوقت الراهن تساؤل جوهري ، وهو لماذا الآن فقط يسمح الغرب للرئيس السابق ''علي سالم البيض'' بالتحرك بحرية في الدول الأوروبية وعقد المؤتمرات الصحفية التي يعلن فيها فصل الجنوب عن الشمال ودوره القيادي في ذلك؟ ولماذا ظهرت تقارير غربية تحذر من تفتت اليمن؟. لا شك أن عودة علي سالم البيض مجدداً إلى الحياة السياسية ودخوله معترك الأحداث الجنوبية وقيادته تيار الانفصال رسمياً، يعتبر مؤشراً قوياً على وجود ضوء أخضر إقليمي ودولي للبدء في تدويل القضية الجنوبية، ربما يظهر أيضا في تناول الإعلام الغربي لقضية الانفصال بصورة مبالغ فيها كما وضح في استضافة الشخصيات الجنوبية المعارضة في الخارج والترويج للقضية الجنوبية. وربما يرجع هذا لاختلاف أو تبدل المصالح الغربية -خصوصا الأوروبية- مع اليمن الموحد من جهة، وانفصال أوروبا في سياساتها عن أمريكا في الكثير من دول العالم، بدليل أن أمريكا أعلنت استمرارها في تاييد الوحدة لأن هناك مصالح أمريكية وراء التعامل مع سلطة يمنية واحدة، فضلا عن تضرر شركات غربية في اليمن. وقد اعتبر محللون سياسيون أن تأخر ''وحدة المعلومات الاقتصادية الدولية'' في بريطانيا في إصدار تقريرها الدوري حتى هذه الفترة (أفريل 2009) برغم أنه يتناول فترة النصف الثاني من ,2008 دليل على التوجه الغربي لاستهداف اليمن، حتى قالوا إن ''الغرض من إخراج هذه المعلومات في هذا التوقيت يؤكد سعي قوى دولية في إحداث بلبلة وفوضى عارمة في البلاد خاصة وأن القائمين على هذه المؤسسة يدركون جيداً بأن الأزمة المالية العالمية قد سحقت كبريات الشركات العالمية وأحدثت خلخلة في موازين الاقتصاد الدولي وكبرى الدول الرأسمالية''. يشكل هروبا من الواقع ... الانفصال ليس الحل للأزمة تعتبر دعوة الانفصال التي نشطت في جنوب اليمن هروبا من الواقع، فاليمن بشطريه يعاني من سوء الإدارة وتردي الأوضاع الاقتصادية وليس الجنوب فقط ، وإن كان الجنوبيون يشعرون بأن ما يصيبهم أكثر وطأة مما يصيب أشقاءهم في الشمال. ولن يحل الانفصال أياً من مشاكل الجنوب اليمني ، بل قد يزيدها تعقيداً ، فقادة الجنوب تقاتلوا فيما بينهم ، عندما كانوا يحكمون البلاد ، وجرت تصفيات دموية لبعضهم البعض، إلى جانب إساءتهم لحكم البلاد وتحويل جنوب اليمن إلى دولة تعيسة يعيش مواطنوها في فقر وأمن مفقود ، بينما حققت الوحدة نوعاً من الاستقرار وألغت فرص القتال الدموي بين القيادات المتصارعة. الحل للأزمة اليمنية يجب أن يكون حلاً لمشاكل اليمن كدولة واحدة، ولن يخدم الوحدة بروز جماعات مسلحة من الصعب السيطرة عليها بل يجب أن يكون الحل عبر الاعتراف بالقصور الذي أصاب إدارة البلاد شمالها وجنوبها والسعي لمعالجته بشكل جدي ، وليس بالتصريحات وإطلاق الوعود ، كما جرى في السابق ، فطريق اليمن يجب أن يكون باتجاه إصلاح البلاد بجهد يتكاتف فيه اليمنيون شمالاً وجنوباً ، والتعجيل بما وعد به الرئيس على عبد الله صالح من إجراء التعديلات الدستورية لتطوير النظام السياسي والانتخابي ، والانتقال إلى نظام للحكم المحلي تعطى فيه صلاحيات واسعة للأقاليم المختلفة، والتسريع بجهود البناء والتنمية التي طال انتظارها.