كشف مؤتمر ديربان2 عن فشل النظام الدولي في معالجة إحدى المشكلات الكبيرة التي تعاني منها البشرية وهي العنصرية التي ما زالت تسود بين الشعوب والأمم وبين أفراد المجتمع الواحد، كما كشف المؤتمر عن انسداد في عملية ما يسمى بحوار الحضارات والديانات وبثقافة التسامح والتكامل. فدول العالم اليوم، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، متقدمة أو متخلفة تعاني من ظاهرة العنصرية التي أصبحت آفة تؤرق معظم دول المعمورة. وبالرغم من التداعيات السلبية لظاهرة العنصرية فإننا نلاحظ عددا من دول العالم لا يجرؤ على القيام باللازم لمواجهة العنصرية ومحاربتها والعمل على حل المشاكل التي تعرقل مسيرة الأمن والسلام والحوار بين الديانات والثقافات في العالم. * * ففي جنيف غابت عشر دول غربية عن المؤتمر وانسحبت وفود 23 دولة غربية خلال كلمة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد التي انتقد فيها الدول الغربية التي اغتصبت أراضي دولة لتأسيس دولة أخرى، وانتقد فيها كذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية وحربها على العراق وأفغانستان. انسحاب الدول الغربية يعتبر موقفا سلبيا وتجرد من مسؤولية كبيرة وهامة أمام المنظومة الدولية وأمام الضمير الإنساني. كما تكتلت الدول الغربية لفرض بيان ختامي يضع إسرائيل في مأمن من الانتقادات ومن الممارسات العنصرية التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني بصفة منظمة ومنسقة ومنهجية. ورغم كل ما حدث في المؤتمر أدانت إسرائيل ووجهت لوما كبيرا للرئيس السويسري وللأمين العام للأمم المتحدة بسبب لقائهما الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. * في ديربان بجنوب إفريقيا سنة 2001 أدى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى انحراف المؤتمر عن مساره، ولنفس السبب فشل مؤتمر ديربان2 عن جمع المنظومة الدولية لتتفق على وضع استراتيجية تناهض وتحارب من خلالها كل أشكال العنصرية والتمييز والفصل التي تنتشر في مناطق عدة من المعمورة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراع عنصري؟ هذا السؤال يجب أن يطرح وبجرأة وبموضوعية وبمسؤولية كبيرة من قبل دول العالم والمنظمات التي تنشط في مجال حقوق الإنسان، وهنا نلاحظ، مع الأسف الشديد، إفلاس المنظومة الدولية وعدم تحمل مسؤوليتها أمام إبادة شعب وحرمانه من أرضه وحقه في الحياة. * في كلمته الافتتاحية قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون "إن العنصرية هي بكل بساطة إنكار لحقوق الإنسان، ويمكن ممارستها على مستوى نظام، كما يمكن التعبير عنها بشكل غير رسمي كمعاداة السامية على سبيل المثال أو معاداة الإسلام". كما عبر بان كي مون عن أسفه العميق لمقاطعة المؤتمر من قبل دول كبيرة وفاعلة في النظام الدولي، وكان من الأجدر ومن واجب هذه الدول أن تكون متواجدة وحاضرة للمساهمة في إرساء قواعد الحوار وطريق لمستقبل خال من العنصرية. * خطاب الرئيس أحمدي نجاد لم يستعرض سوى وقائع تاريخية حقيقية وصادقة؛ حقائق تقلق وتزعج الكثيرين، وهذا ما جعل العديد من الوفود الغربية تغادر قاعة المؤتمر بطريقة يمكن القول عنها إنها تصرف بعيد كل البعد عن اللياقة والاتيكيت والكياسة والدبلوماسية. نجاد قال "بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لجأوا (الحلفاء) إلى القوة العسكرية لانتزاع أراض من أمة برمتها، تحت ذريعة معاناة اليهود. أرسلوا مهاجرين من أوروبا، والولاياتالمتحدة، ومن عالم المحرقة لإقامة حكومة عنصرية في فلسطينالمحتلة". ما قاله نجاد في كلمته أمام مؤتمر مناهضة العنصرية ما هو إلا توصيف واقعي لحدث تاريخي يدين العنصرية الغربية. * مؤتمر ديربان2 الذي جاء من أجل محاربة العنصرية تخللته مواقف عنصرية مع الأسف الشديد، فالوفود التي خرجت من قاعة المؤتمر كان من واجبها الرد على خطاب نجاد، إذا رأت أنه خطاب خال من الصحة والحقائق والأدلة وأنه عنصري، بالأدلة والبراهين والحجج لتفنيد الأطروحات والآراء والأفكار التي جاء بها نجاد. ما يقوم به الكيان الصهيوني في دولة فلسطين وما قام به مؤخرا في محرقة غزة ما هو إلا إنكار يومي منظم ومنسق لحق شعب بكاملة في الحياة والعيش. وهنا يجب الإشارة إلى مئات المنظمات الدولية وإلى مثقفين وساسة غربيين ويهود استنكروا الصهيونية واستنكروا التصرفات العنصرية اليومية لإسرائيل في حق الشعب الفلسطيني. كما انتقد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مقاطعة الدول الغربية للمؤتمر واعتبر ذلك "خطوة أنانية متغطرسة". * إسرائيل، التي تتغنى بالمحرقة وبعنصرية هتلر عندما قرر حرق مئات الآلاف من اليهود في غرف الغاز، تقوم اليوم بنفس التصرفات والسلوك مع الفلسطينين في بلدهم ووطنهم وأراضيهم. الفلسطينيون اليوم يعيشون سجناء في أرضهم لا يتمتعون حتى بحق العيش والحياة. فكيف لمؤتمر نُظم لمناهضة العنصرية تُمارس فيه العنصرية وأمام أنظار ملايير المشاهدين. * ما قاله نجاد أثنى عليه وزير الخارجية الفلسطيني الذي انتقد الاحتلال الإسرائيلي ووصفه بأنه أسوأ انتهاك لحقوق الإنسان، وأنه أكثر أشكال العنصرية والتمييز العنصري خطرا وقبحا. كما أردف قائلا "إن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني الذي يواجه أسوأ صور السياسة العنصرية من القوة المحتلة يجب أن يتوقف، ووصف جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية بأنه جدار فصل عنصري". * أين إذن الخطأ في خطاب أحمدي نجاد؟ وأين هي مبررات انسحاب وفود 23 دولة أوروبية من قاعة المؤتمر؟ وكيف نصف سلوك مثل هذا في مؤتمر جاء من أجل مناهضة العنصرية والتقارب والحوار بين شعوب ودول العالم. فإسرائيل تعتبر دولة عنصرية بامتياز فهي ليست دولة لجميع مواطنيها، وإنما هي دولة لليهود أينما كانوا، حيث يوفر "قانون العودة" الأساس القانوني لهذه الممارسة التمييزية، لكونه يمنح يهود العالم أينما وُجدوا حقوقا سياسية استثنائية فريدة في إسرائيل. كما تهدف إسرائيل إلى تهويد الأرض الفلسطينية وهذه هي العنصرية البحتة وفي مختلف تجلياتها، وهذا يعني طرد الفلسطينيين من أراضيهم. فإذا أخذنا هذه المعطيات بعين الاعتبار أين أخطأ الرئيس الإيراني أحمدي نجاد وأين العيب في خطابة أمام مؤتمر مناهضة العنصرية. * قد يسأل سائل عن أين العرب في كل هذا؟ وهل ما قاله نجاد كان أجدى بالعرب التفوه به والنطق به؟ رغم أن القضية قضيتهم بالدرجة الأولى فالحضور العربي كان محتشما ولا يكاد يذكر في مؤتمر ديربان2 بجنيف، وإلى متى يبقى الآخرون يتكلمون باسم العرب؟ فالمشهد العربي في ديربان2 كان حزينا، مهمشا ومغيبا تماما لصالح المنظمات الصهيونية التي تعرف كيف تستغل مثل هذه المحافل للحصول على التأييد والتعاطف والمساندة من دول العالم ومن المنظمات المختلفة التي تنشط في مجال حقوق الإنسان والحريات الفردية. وهكذا غاب ضحايا العنصرية الصهيونية في ديربان وخرجت إسرائيل فائزة في مؤتمر ديربان2 وسيدة الموقف رغم غيابها، مؤتمر كان من المفروض يدينها ويعاتبها على الأعمال العنصرية اليومية التي تقوم بها. إن غياب المشروع العربي المشترك وغياب استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع الكيان الصهيوني واستمرار الوضع العربي الراهن داخليا وخارجيا سوف يضعف من الموقف العربي تجاه إسرائيل والدول والقوى المساندة لها.