الزيارات المكثّفة للدعاة والمشايخ والعلماء من مختلف ربوع العالم الإسلامي، وخاصة من المملكة العربية السعودية، حظيت باهتمام إعلامي وشعبي واسعين، حيث جاب نخبة من الدعاة مختلف ولايات الوطن، بدعوة من جمعيات مختلفة، وساهموا في المشاركة في حملات توعوية توجهة إلى الشباب خاصة، لترسيخ معاني القيم الإيجابية والتحذير من مخاطر فقدان الهوية والركون إلى الغلو أو التساهل، في حين أن دين الله وسط بينهما. * * بعض أولئك المشايخ تحدّث كثيرا عن واقع الجزائر، وعن حكم الإسلام فيما يحدث من عمليات التفجير واستهداف قوات الأمن وغيرهم من المواطنين، وانتقدوا الفكر الخاطئ الذي يُسوّغ لبعض الناس إزهاق الأرواح والسطو على الممتلكات وترويع الآمنين باسم الجهاد وإعلاء كلمة الله، وباسم نصرة المسلمين والدفاع عنهم، من فلسطين إلى أفغانستان، وأوضحوا أنه لا الشريعة الإسلامية التي أنزلت رحمة للعالمين، ولا المنطق الصائب ولا المصلحة بشقيها: الشرعي والبراغماتي، يُسوّغون اللجوء إلى هاته الأعمال التي يشهد الواقع، في العالم بأسره، أنها جنت على الإسلام أكثر مما خدمته، وأنها منحت مزيدا من الذرائع لأعدائه لكي يُحكموا سطوتهم عليه ويُضيقوا على أهله ويحدّوا من أنشطتهم الدعوية والخيرية الإنسانية، بدعوى التلازم الكبير بين الإسلام والإرهاب. * غير أن أصواتا في الجزائر عاشت المأساة وساهمت في صنعها، تخرج اليوم عن صمتها لتقول لنا إنه لا فائدة من استقدام الدعاة ولا العلماء من الخارج لأن الأزمة في الجزائر "شأن داخلي"، في حين يقول لنا آخر إن أولئك العلماء غير منصفين لأنهم أدانوا الإرهاب ولم يُدينوا السلطة ولم يكونوا منصفين في أحكامهم، وكأن الهدف من استقدام العلماء هو تقديم حلول جذرية للأزمات التي شهدتها الجزائر بعد توقيف المسار الانتخابي. * لو أردنا أن نبحث في جذور المأساة، ولو في إشارة عابرة، لقلنا إن السلطة في الجزائر تتحمل مسؤولية تهميش العلماء الجزائريين منذ الاستقلال، فكبار علماء جمعية العلماء المسلمين الذين شيّدوا بعقولهم وسواعدهم استقلال الجزائر وكانوا قطب رحى النهضة الفكرية التي عرفتها الجزائر عانوا من التهميش والقهر وعاينوا تنكّر الحكومة الجزائرية لهم، أو لم يمت الشيخ البشير الإبراهيمي وهو سجين في إقامة جبرية؟ وكيف كان مصير الشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ العرباوي والشيخ مصباح، في ثلة آخرين قدموا أسمى ما يملكون لهذا الوطن، ولم يلقوا بالمقابل إلا الجحود والنكران؟ * ولو أردنا أن نبحث في جذور هذه المأساة أيضا، لقلنا إن هذا التهميش ساهم بقدر كبير في انفراط العقد الأمني وانزلاق الجزائر في هوة إرهاب أعمى أهلك الحرث والنسل، لاسيما وأن علماء الجزائر لم يعد لهم صوت مسموع كما يقول المثل: "زامرُ الحيّ لا يُطرب"، في مقابل السياسات الخاطئة التي حاولت معالجة الإرهاب فأججت ناره، وبدا حينها أن الحرب مفتوحة بين "حزب الله" و"حزب الشيطان" من أجل مشروع إسلامي أو علماني، في حين أن الضحية كانت، أولا وآخرا، تنتمي إلى "حزب الشعب" الذي كان في خط الدفاع الأول الذي دفع فاتورة لا توازيها في تاريخه غير فاتورة الشهداء من أجل نيل استقلاله. * ولو أردنا أن نبحث في جذور المأساة مرة ثالثة، لسألنا بعض أولئك المنتقدين، وهم الذين كانوا في طليعة دعاة الصحوة في الجزائر، عن سبب قفز هذه "الصحوة" على تاريخ الجزائر وعلمائها ومفكريها، لتنشأ مُنبتّة الجذور وتُشيع في الشباب تلك المقولة الآثمة "لا يوجد في الجزائر علماء"، ونبز كل معارض لفورة الشباب وحماسته بأنه من "علماء البلاط والسلطان"، فنشأت أجيال لا تعرف غير علماء المشرق الذين تُذعن لهم الرقاب، في حين كان علماء الجزائر يُطردون من المساجد كما فُعل بالشيخ الفقيه الإمام أحمد حماني رحمة الله عليه وغيره. * لم تَعُد قضية الإرهاب في الجزائر داخلية منذ أن حمل بعض الشباب السلاح منقادين لفتاوى بعض الدعاة في المشرق، واعتبار أن المواجهة مع السلطة جهادٌ، وهذا منذ بدايات الأزمة في مطلع التسعينيات، ولم تعد قضية الجزائر داخلية عندما نزل كثيرٌ ممن حمل السلاح من الجبال بسبب فتاوى علماء من طراز الشيخ ابن باز والعثيمين والألباني، رحمة الله عليهم، وعندما لا تزال معارك اليوم تُدار على أرض الجزائر وبأبنائها عبر "فتاوى" تحكم بالردّة على كل من يعمل تحت مظلة النظام أو تبيح للإنسان أن يُفجّر نفسه فداءً لطرد الصليبيين واليهود ولتحرير بيت المقدس. * لم يكن هدف أولئك الدعاة والمشايخ الذين قدموا إلى الجزائر هو حل الأزمة الجزائرية المتجذّرة والمتشابكة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ولم يدّعوا بحال أن هذا في مقدورهم، وإنما كشفوا عن رأيهم، بوصفهم "موقّعين عن رب العالمين" في الدماء التي تُسفك في الجزائر باسم الجهاد، وأعلنوها صراحة عندما تلكّأ البعض هنا أو عندما داهنوا وتملقوا: "أن دماء الجزائريين معصومة، لا فرق في ذلك بين رجال الأمن وغيرهم، وأنه لا شيء في الجزائر يُسوّغ اللجوء إلى التفجير أو التكفير". * أولئك الدعاة قاموا بواجبهم من منطلق الأخوة الإسلامية وواجب النصح لكل مسلم، لكنّ دعاةً هنا في "الجزائر المحروسة" سيّسوا دماء المسلمين الجزائريين، ورفضوا إدانة ما يحدثُ الآن من قتل لدواع قد تكون مختلفة: انتقاما من النظام، أو نكاية فيه، أو مساومة بين قضية الجبهة الإسلامية للإنقاذ وقضية الدماء المُراقة الآن، واعتبار أنه لا حلّ إلا بالرجوع إلى تاريخ توقيف المسار الانتخابي وتسوية ملفاته المتأزمة، وإلا فلتحترق الجزائر بمن فيها.