لمّا كانت الجزائر الفضاء الشاسع الذي يكتنز الأرض والإنسان، وكانت على الدوام تلك العروس التي يتودّد إليها كلّ ذي إحساس خيّر كان أم شرير، فإنّها شكّلت على امتداد الزمن أرضا بأبعاد ثقافية وحضارية حاول سهرة أوّل أمس الأستاذ صالح بن قبي إبرازها وتثمينها وذلك بدعوة من المجلس الأعلى للّغة العربية. الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية وهو يرحّب بضيف العدد الجديد من منبر "حوار الأفكار" في سنته الخامسة على التوالي، تحدّث عن المسار المتميّز سواء النضالي أو المهني حيث قال "يجمعنا اللقاء اليوم بشخصية متميّزة ارتوت من نبع الوطنية الصافي، وكانت شاهدا على العنجهية الكولونيالية، وضحية لها مثلما كانت مع النخبة التي قاومت الاندماج الاستيطاني"، ليواصل الدكتور ولد خليفة سرد أهمّ المحطات التي أثّثت السيرة الذاتية لأحد المهندسين الأوائل لوزارة الخارجية الجزائرية والمناضلين من أجل اللغة العربية، حيث أشار رئيس المجلس الأعلى للغة العربية إلى أنّ الأستاذ بن قبي نجح عام 1968 في إقرار اللغة العربية لغة رسمية في "اليونيسكو". واستأنف تدخّله بالقول إنّ الأستاذ صالح بن قبي استثمر تجربته الإنسانية والدبلوماسية في عدة مناطق من العالم كسفير للجزائر في موريتانيا، ليبيا، السودان والمملكة العربية السعودية، كما عاصر العديد من الأزمات والنجاحات، فكتب عنها بعيدا عن التهليل العاطفي، من بينها "الدبلوماسية الجزائرية بين الأمس واليوم"، "عهد لا عهد مثله" و"الجزائر في كلّ أحوالها". الأستاذ بن قبي أوضح في "الجزائر بأبعادها الثقافية والحضارية" أنّه حاول من خلال كتابه الأخير "الجزائر في كلّ أحوالها" الوقوف عند مختلف الأبعاد التي تتميّز بها الجزائر عربيا، إسلاميا وإفريقيا، ليستعرض بعد ذلك الدور الذي لعبته الجزائر عبر مختلف الحقبات التاريخية في التمكين للدين الإسلامي واللغة العربية، وأكّد في هذا الشأن أنّ "علاقات الجزائر مع العروبة تمتدّ إلى ما قبل الإسلام وبالتحديد إلى عهد الحضارة الفينيقية" مشيرا إلى أنّه "بمجيء الإسلام وانتشاره في ربوع المغرب العربي عام 670 ميلادي صارت الجزائر جزءا لا يتجزأ من العالم العربي-الإسلامي". وأوضح أنّ الجزائر "صارت بفضل التطوّر الذي بلغته الحضارة الإسلامية، تشكّل قوة عسكرية وسياسية كبيرة في شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط" مذكرا بالدور الذي لعبته في نشر الإسلام في القارة الإفريقية، وأشار إلى أنّ العلماء والمفكّرين الجزائريين ساهموا بشكل فعّال في تأطير وتعليم شعوب البلدان الإفريقية تعاليم الإسلام" مستدلا في ذلك بدولة نيجيريا "التي تعتبر أكبر دولة مسلمة في إفريقيا". ليعرّج بعد ذلك على البعد الحضاري والديني للجزائر إبان العهد العثماني وخلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية ودور هذا البعد في تفجير ثورة أول نوفمبر التحريرية خلص المحاضر إلى أنّ "الخروج من دائرة التخلّف يمرّ حتما عبر الاهتمام بالنخب المفكرة والمبدعة في مناخ من الحرية ببعديها التفكيري والتعبيري في ظل العدالة الاجتماعية ودولة القانون"، محذّرا في الأخير من مخاطر النظام العالمي الجديد الذي يستهدف -مثلما قال- الحضارة الإسلامية بكل أبعادها"، ودعا الشباب من الجيل الجديد إلى التمسّك بدينه ولغته والاعتزاز بالانتماء إلى وطنه حتى يتمكن من بلوغ مجالات العلم والمعرفة والإبداع وتوظيفها في خدمة وتطوير مجتمعه. وللإشارة، فإنّ الأستاذ صالح بن قبي من مواليد أفريل 1933 بمدينة قسنطينة، شارك في العمل الطلابي والنشاط السياسي السري ضمن الخلايا الأولى لجبهة التحرير الوطني، كان عضو أول مكتب للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ثمّ عضوا للجنة المديرة لكامل الاتحاد، كما أشرف في تنظيم إضراب 19 ماي 1956 للطلبة الجزائريين عن الدراسة في الجامعات الفرنسية وإعلان التحاقهم الجماعي بصفوف جبهة وجيش التحرير الوطنيين، ورافق أيضا المرحوم محمد الصديق بن يحيى في أول اتصال للثورة بالحكومة الفرنسية بالعاصمة الجزائرية. ألقي القبض على صالح بن قبي في أفريل 1957 بالعاصمة في خضم "معركة الجزائر"، وقضى أربع سنوات من الاعتقال والتعذيب بالعديد من المحتشدات، عايش فيها علماء أجلاء أمثال الشيخ أحمد سحنون، الياجوري، الشبوكي، ابن عتيق، سعيد صالحي واحمد عروة، وشارك إلى جانبهم في أعمال ثقافية من تدريس وكتابة ومحاضرات. وغداة الاستقلال مباشرة، عيّن الأستاذ كأول مدير للتعاون الثقافي والاجتماعي والفني بوزارة الخارجية، فكان شاهد عيان على تطور علاقات الجزائر مع الخارج وخاصة البلدان العربية في مجالات التعليم، التكوين، الطب، الفنون والرياضة طوال عشر سنوات. ينتمي الأستاذ بن قبي إلى معهد الدراسات الاستراتيجية كمشاور وإلى "مؤسّسة الأمير عبد القادر" التي كان رئيس مجلسها العلمي، كما أنه عضو المكتب الوطني ل"مؤسسة مفدي زكريا"، كما له العديد من الدراسات في المجالات المتخصصة الصادرة عن كل من المجلس الإسلامي الأعلى، المجلس الأعلى للغة العربية، وزارة المجاهدين ومؤسستي "الأمير عبد القادر" و"مفدي زكريا".