عبد العزيز قاسم أثار الشيخ علي بلحاج، القيادي الإسلامي لجبهة الإنقاذ المحظورة بالجزائر، لغطا كبيرا في الساحة الدعوية الجزائرية عبر هجومه الناري الذي شنه قبل أسابيع من خلال وكالات أنباء عالمية على الضيوف الذين تستعين بهم الحكومة الجزائرية لمحاصرة فكر التطرف. وخص بلحاج الدعاة السعوديين الذين زاروا الجزائر تلبية لدعوة وجهتها لهم صحيفة الشروق بتهم ممالاتهم للحكومة الجزائرية، وبأنهم منحازون لطرف دون طرف، وختم بوصفهم أنهم علماء سلاطين لا علماء ملة. * تصريح بلحاج لقي استنكارا شديدا من لدن جمهرة المعتدلين والدعاة السلفيين بالجزائر، فضلا عن النخب الثقافية والدينية هناك باختلاف أطيافها، والتي بدورها رحبت كثيرا بهذه الزيارات من قبل علماء المملكة ودعاتها، وشعرت بآصرة الأخوة التي تربطها بالدعاة في المشرق العربي والسعودية تحديدا. * * الاستعانة بعلماء سعوديين من قبل الحكومة الجزائرية لمحاصرة فكر التطرف، أعتبره شخصيا مكسبا كبيرا للفكر السلفي الديني بالسعودية، وشهادة براءة بما اتهم به بعد11 سبتمبر، من أنه مصدر فكر العنف المتفجر في العالم. وهي من جهة أخرى، إشارة لافتة مهمة للنجاح الكبير الذي حققته استراتيجية الأمن الفكري التي اتبعتها وزارة الداخلية السعودية في تحجيم فكر التطرف والإرهاب، مما شجع دولا أخرى ابتليت بهذا الفكر السرطاني أن تحذو حذو المملكة في موضوع الأمن الفكري الوقائي، بل وتستلهم تجربتها المتفردة. * * هناك رسالة أخرى، تشي بمدى الكاريزما التي يتمتع بها علماء هذه البلاد ودعاتها، وتأثيرهم الأكيد على شريحة الشباب وطلبة العلم في العالم الإسلامي، الذين يحرصون على حضور دروس ومحاضرات علمائنا ودعاتنا الغرر. وقد اضطر المسؤولون إلى نقل محاضرة الداعية الشهير عائض القرني قبل أشهر بالعاصمة الجزائرية إلى "الإستاد" الرياضي الذي يتسع لعشرات الآلاف، بسبب الأعداد الغفيرة التي حرصت على الحضور، وغصّت بهم مدرجات ذلك "الإستاد" في مشهد ناذر لمحاضرة دينية وداعية نجم.. * * أحد الأمور اللافتة في زيارات دعاتنا للجزائر، هو حرص قيادات متطرفة سابقة، تابت عن فكر العنف على التقاء دعاتنا ومحاورتهم . فهذا حسن حطاب أحد أشهر قياديّي الجماعات المسلحة- كان يرأس الجماعة السلفية للدعوة والقتال قبل توبته- حرص على لقاء الشيخ سعد البريك الداعية السعودي المعروف، وقد كتبت الصحف الجزائرية عن تلك الزيارة التي جمعت الرجلين، ونقلت الترحيب الكبير من لدن حطاب بضيف الجزائر، في سابقة لا تعهد عن الرجل وهو المنكفئ في إقامته الجبرية، شاكرا لدعاتنا هذه الزيارات العلمية، ومؤكدا على أن حديثهم ومحاضراتهم لها أثرها الكبير في إقناع الشباب الذين لجؤوا للجبال وحملوا السلاح. وبالمناسبة، كان مجرد ذكر اسم حطاب هذا قبل عقد من السنوات، كافياً لإثارة الرعب والهلع في نفوس المدنيين من الأهالي الآمنين. * * الرجل قال في حواره مع البريك إنه أمضى ثلاثة عشر عاما في الجبال معارضا للحكومة، غير أنه تيقن وانتبه لخطئه الكبير، وآمن بأن حمل السلاح لن يحل القضية بل يزيدها تعقيدا، لذلك أعلن توبته وسلم سلاحه، وأجدها فرصة لأطالب الإعلام والمسؤولين الأمنيين بالتركيز على تجربة هؤلاء الذين التاثوا بفكر التطرف ثم عادوا عنه، وما الأسباب التي دعتهم لترك ذاك الفكر، وتجيير تلك التوبات لمشروع عملي معاكس في فرز شبه المتطرفين وتفنيدها، وتفكيك دقائقها، فهم الأقدر والأنجح على الإطلاق في ذلك، فقد كانوا يوما ما من حملتها والذائدين المقاتلين عن أدبياتها. * * ثمة خيوط مشتركة كثيرة تجمع هؤلاء المتطرفين، والتجربة التي اكتسبها إخوتنا الدعاة في لجان المناصحة السعودية، عبر محاوراتهم الطويلة وجلساتهم المتعددة مع رموز الفكر المتطرف والشباب الذين تأثروا بهذا الفكر في أماكن توقيفهم، هي تجربة ثرية ينبغي الاهتمام بها، داعيا هنا إلى ضرورة تسجيل هذه التجربة عبر كتيبات وحوارات متلفزة لتستفيد منها جميع الدول التي ابتليت بهذا الداء الفكري الخبيث. فمحاربة هذا الفكر لم تعد شأنا محليا تعنى به الدول المبتلاة، بل بات همّا عالميا ينبغي علينا جميعا التكاثف والتعاون على تحجيمه. ولعلي أرد بهذه النقطة على تلك التهمة التي رمى بها بلحاج، وهو يتباكى على عدم الاستعانة بعلماء الجزائر، وأن المسألة داخلية محضة. فبتقديري أن هذا التفاف غير موضوعي من داعية له أتباعه يفترض فيه الأمانة والصدق، لأن أولئك العلماء الجزائريين قاموا بدورهم، وبعضهم للأسف لم يقم بالدور المطلوب - يعرفهم بلحاج تماما- فالأزمة هناك أكبر، وليس ثمة إشكال في الاستعانة بعلماء من العالم الإسلامي. * * ويتذكر الشيخ بلحاج كم كان لفتاوى العلماء عبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين وناصر الدين الألباني يرحمهم الله جميعا، في منتصف التسعينيات وأواخرها أثرها الكبير في توبة مجموعة لا يستهان بها من أولئك الشباب الجزائريين الذين كانوا في الجبال، وبادروا بتسليم أنفسهم لأجهزة الأمن وألقوا السلاح، فالفكر لا يحارب إلا بالفكر. تحية كبيرة لكل دعاتنا السعوديين الذين لم يكتفوا بحرب الفكر المتطرف بوطننا المضيء بفكر الاعتدال، بل واصلوا الحرب وجيروا كل خبراتهم وما اكتسبوه من تجربة ثرية لكل من يريد الإفادة منها، وذلك ميثاق أخذه الله عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه. * * *إعلامي سعودي * [email protected]