يزعجني خطاب التعقل الذي يريد كثير من المثقفين العرب وقلة من الجزائريين تبنيه في المعركة الإعلامية بين الجزائر و"الفراعنة" لأسباب عدة أهمها أنه خطاب يساوي بين المعتدي والمعتدى عليه وينطلق دائما من التغاضي على مسألة تحديد من هو البادئ بالظلم؟ * * هذا النوع من الخطاب يدفعني إلى فقدان الأمل فيما يسمى نخب عربية. لم نرى نخبة في العالم كله تتخطى مشاعر شعوبها مثلما تفعل ما يسمى النخب العربية. لهذا يأتي خطاب التعقل الذي يسري الآن في أوساط النخب العربية كنتيجة منطقية للتحرك المصري داخل هذه الأوساط للضغط على الجزائر ومنعها من الإنسياق وراء رد فعل الشارع الغاضب على مصر فعلا. مع العلم أن المصريين سحبوا سفيرهم للتشاور فيما امتنعت الجزائر عن ذلك لحد الآن رغم كل مايعانيه السفير الجزائري في القاهرة. * لست من دعاة قطع العلاقات الدبلوماسية، لكنني من دعاة مقاطعة كل ما هو مصري: مقاطعة شركة أوراسكوم - الجزائر- التي موّلت مشاريعها بأموال الشعب، ولن يكون ذلك سوى استرجاعا لحق الشعب الذي ضيّعه مرتشو الجزائر مع الراشي المصري. مقاطعة نفايات المسلسلات المصرية التي تتعارض تماما وكل القيم التي نطمح إليها. لقد حان الوقت ليسترجع الجزائريون رشدهم والكف عن التعامل مع المصريين بعاطفة لا يقدرونها. يجب أن ننتقل إلى مرحلة اتخاذ موقف صارم من كل من تجرأ وتطاول على الجزائر تاريخا وشعبا. * في خطاب الإعلاميين العرب هناك الكثير من التساهل.... تساهل في مقارنة سقطة الإعلام المصري بردة فعل الإعلام الجزائري. تساهل.. بتحميل النظامين الجزائري والمصري نفس درجة المسؤولية... وكأن الجزائر أخطأت بدعم فرص انتصار فريقها الوطني في الخرطوم عندما استجاب الرئيس لدعوات مناصري الفريق الجزائري ووفر لهم وسائل التنقل إلى الخرطوم. تساهل.. في عدم مقارنة محتوى الإعلام في البلدين. وتساهل...في النظرة السطحية لردة الفعل الشعبي في الجزائر. * النخب العربية تعتقد، جهلا بالحقائق، أن الحكومة هي من استفزت رد فعل الشارع الجزائري بينما الواقع يقول بأن الشارع حصل على دعم الحكومة تحت ضغطه! في كل المقالات التي نشرت تجاهل الإعلاميون العرب محاصرة مليوني جزائري عبر كامل التراب الوطني لمكاتب الخطوط الجوية الجزائرية طالبين تذاكر إلى الخرطوم بينما لا تملك الجزائر خطا واحدا باتجاه السودان. * كما تجاهلوا التخلي التلقائي عن حوالي خمس ملايين شريحة تلفون "جازي المصرية" في الجزائر علما أن نظام بوتفليقة متواطئ مع أوراسكوم الجزائر؟ * أي نعم ركب نظام بوتفليقة الموجة لتوسيع شعبيته عندما استجاب لمطالب الجزائريين، لكنه لم يكن يملك سوى خيارين: إما تسهيل السفر إلى الخرطوم أو مواجهة انتفاضة شعبية بدأت مظاهرها بالاعتداء على الممتلكات الشركة المصرية في الجزائر. * ما يزعجني في خطاب التعقل الذي تحاول النخب العربية نشره هو ذاك الإصرارعلى محاولة تجاوز ما حصل، كأنه لم يحصل. وهذا النوع من المقاربات في معالجة قضية بهذه الخطورة لن تحل المشكلة، بل ستشجع الطرف المعتدي- أيا كان- على الاستمرار في عدوانيته لأنها لاتلقى عقابا -عربيا- ولو بأضعف الإيمان! * النخب الإعلامية العربية - إلا من لرحم ربك - كما في كل القضايا العربية الأخرى تحاول دائما التموقع بما يخدم مصالحها... لا تناصر القضايا في حد ذاتها وإنما تناصر الحلول والمواقف التي لا تتعارض مع مصالحها. * * كم من إعلامي عربي يرضى بأن يرى نفسه على قائمة غير المرغوب فيهم في القاهرة؟ * اليوم، الدعوة إلى المصالحة بين الشعبين هي صون لهذه المصلحة ليس إلا، ولا أرى أي صدق فيها. فالمصالحة من المفروض أن تبنى على تحديد الظالم والمظلوم أولا، بعدها ننتقل إلى حمل الظالم إلى الاعتراف بخطئه ودعوة المظلوم على التنازل عن حقه.. هكذا تتم المصالحة عند الأمم التي تحترم نفسها أما دعوات المصالحة التي نسمع عنها فهي دعوات للتستر عن جرائم الظالم، وتجاوز حقوق المظلوم. * عزاء الجزائريين جاء من الهبة الشعبية في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج الذي لم يقبل ما جرى في القاهرة، قبل وبعد المبارة.. أما النخب العربية فمازالت تصب جام غضبها على ( لعبة كرة القدم اللعينة التي أوقعت بين شعبين "شقيقين")! * هل يمكن انتظار شيء من نخبة تترفع عن اللعبة الأكثر شعبية في العالم وحتى في العالم العربي! هل يجب أن يدير الشارع العربي ظهره لهذه اللعبة حتى ينال احترام واهتمام النخب العربية؟ * الحمد لله أن إسرائيل لا تملك في هذه الرياضة باعا، وإلا قيل إنها لعبة صهيونية.. وأن الشعوب العربية التي تهتم لمنجزاتها الرياضية هي حليفة لإسرائيل؟ أي منطق هذا الذي يعادي ويحتقر شعور ملياري متفرج لكأس العالم؟ وما يقارب هذا العدد من المتفرجين من بينهم العرب طبعا، لبطولات أوروبا وبطولة أمم أوروبا؟ * ككل مرة تترفع النخب العربية دائما عن اهتمامات شعوبها وكأن الشارع لا ينتج سوى الخطايا الكبرى! أليس هذا منطق الأنظمة العربية التي تتجاهل اهتمامات الشارع؟ صحيح أن النظام في مصر استغل هذا الاهتمام لترتيب توريث الإبن لأبيه، وأن النظام الجزائري ركب موجة تهافت الجماهير على السفر إلى الخرطوم، لكن هذا لا يعني أبدا أن اهتمام الشارع في مصر والجزائر خطأ أو خطيئة كبرى. * أنا متأكد - وأأسف لذلك - أن النظام في الجزائر سيتصالح مع نظيره المصري، فالمصالح بينهما كبيرة وكثيرة، والحديث عنها قد بدأ فعلا. لكنني لا أعتقد أن الشعب الجزائري سيتصالح مع نظام مبارك ولا مع النخبة المصرية لفترة طويلة جدا، لسبب بسيط هو أن رد الفعل الشعبي في الجزائر لم يكن من صنع نظام بوتفليقة وإنما كان من عمق شعوره الوطني.. كما أن السب والشتم الذي تلقاه مسه في عمق معتقداته وثوابته، وهي أكبر بكثير مما يقال إنه إرث مشترك بينه وبين الشعب المصري. * اليوم أرى أن ما يجمع الجزائريين بأندونيسيا أوماليزيا أطهر وأنقى وقد يكون أنفع مما كان يجمعهم بمصر. فالجزائر لا تملك ما تخسره في مقاطعة المنتوجات المصرية التي يطالب بها المثقفون المصريون ظنا منهم أننا سنتظاهر في الشوارع للمطالبة بالإبقاء عليها. * يجب أن يفهم المصريون أن العروبة ليست منة ًولا جوازا تسلمه مصر لمن ترضى عليهم فقط. عروبة الجزائر هي تلك الروابط الثقافية والدينية التي أخرجت شعوبا عربية كثيرة فرحا بانتصار فريقها أما الهمجية المصرية التي رافقت نهاية المباراة فهي تعبير عن قلة ذوق وتطاول على شعوب حكمتها لقرون. * لا أحد من النخب العربية تعرض لظاهرة التفاعل الشعبي من المحيط إلى الخليج مع انتصار الجزائر على أم "العروبة"، لا أحد منهم كتب عن مناصرة السودانيين بقوة للجزائر البعيدة، رغم أن نظام البشير كان يتمنى أن لا تتأثر علاقته بالقاهرة نتيجة كثرة تحيّز المناصرين السودانيين. لا أحد من النخب العربية كتب مقالا عن وحدة الشعور العربي بالانتصار، وعوض ذلك كتبت النخب العربية مقالات تندد بالعنف من الطرفين. لا يقر العالم ومعه الفيفا سوى بعنف القاهرة غير أن الإعلام العربي رفض النظر إلى عنف القاهرة إلا من خلال عنف مفترض للجزائريين في الخرطوم كأمه يبحث عن تبرير حملة القاهرة أم »العروبة« ضد الجزائر بلد المليون إرهابي؟ * أي نخبة وأي عروبة هذه؟.