أصدر الدبلوماسي والوسيط الأممي محمد سحنون بفرنسا، قبل ثلاث سنوات، شهادته حول جوانب من نضاله السياسي والاجتماعي قبل الثورة، ومشاركته فيها واعتقاله وتعذيبه، ثم محاكمته وحبسه.. * وقد فضل الكاتب تقديم قصته مع النضال والثورة والتعذيب في قالب روائي بعنوان "جرح.. الذاكرة". ونظرا لطبيعة هذا الركن، فقد تعمّدنا ترك الصيغة الروائية مع الاحتفاظ للكاتب باسم البطل الذي اختاره لنفسه. أي سالم(❊). ولد المناضل محمد سحنون بالشلف سنة 1932، وبها نشأ وترعرع حتى المراهقة. وكان والده مسير مدرسة خاصة بالعربية، ومعلمها الوحيد كذلك في أغلب الأحيان. وكان بسبب هذه المدرسة عرضة لمضايقات شبه دائمة من السلطات المحلية الإدارية والأمنية التي لم تكن تتحرج من غلقها بين الفينة والأخرى. وكان الوالد في مساعيه لإعادة فتح المدرسة يصطحب معه أحيانا إبنه محمد الذي يقول عنه تلك المساعي: إنها "كانت مؤلمة، لأنها تكون عادة مصحوبة بإهانات". درس محمد مبادئ العربية والفرنسية بمسقط رأسه، ولما بلغ سن العاشرة توفي والده فكفلته أمه رفقة شقيقته الصغيرة، وبعد اجتياز المرحلتين الابتدائية والإكمالية بسلام التحق بالمدرسة الثعالبية في قلب حي القصبة بالجزائر العاصمة. فتح مجيئه إلى العاصمة في 1951 أمامه عوالم جديدة، إلى جانب الدراسة المنتظمة في الثعالبية.. ❊ على الصعيد السياسي، ما لبث أن اكتشف مسألة التحرر الوطني، فانضم إلى حركة انتصار الحريات الديموقراطية بالقصبة التي كانت يومئذ من قلاع النضال الوطني. وقد بدأ يشارك بدوره في الدعوة إلى الاستقلال بمقاهي الحي، فضلا عن حضور اجتماعات خليته نهاية الأسبوع. وكان الطرح الغالب في دوائر قيادة الحركة آنذاك، حسب الشاهد: الدعوة إلى الاستقلال عن طريق التفاوض قبل فوات الأوان. ❊ وعلى الصعيد الاجتماعي، اكتشف العمل الخيري عن طريق جمعيات مدنية، بعضها كان يستقطب شبابا متعلما من الجزائريين والأوروبيين الأحرار.. وبواسطة أصدقائه الأوروبيين خاصة اكتشف عالم حي "بيراردي" القصديري بحسين داي الذي كان مثالا صارخا لوضعية بعض الفئات من الجزائريين المزرية. وجاءت محنة زلزال الأصنام (الشلف) في 9 سبتمبر 1954 لتوطد أكثر فأكثر علاقاته بأصدقائه الأوروبيين من الشباب المسيحي التقدمي خاصة.. وغداة انتفاضة فاتح نوفمبر من نفس السنة عرفت الساحة الطلابية - الضيقة بحكم العدد المحدود للطلبة الجزائريين عامة والملتزمين بالقضية الوطنية منهم خاصة - مناقشات ساخنة حول الحدث وأبعاده، وما يمكن للطالب الوطني أن يقدم في إطاره. تفاؤل عبان.. قبل الأوان وفي ربيع 1955 بدأ نجم رمضان عبان يتألق انطلاقا من العاصمة، لاسيما بعد أن مدحه الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في إحدى قصائده، وقد أثار ذلك فضول الطالب محمد ورفاقه ورغبتهم في الاتصال به.. وكان لهم ذلك فعلا في مكان ما بحي بلوزداد (بلكور).. وحسب الشاهد، أن عبان كان متفائلا يومئذ، يرى أن حظوظ الجزائر في استعادة استقلالها باتت قوية، وفي آجال ليست بعيدة، وكان ينطلق في ذلك من عاملين: اتحاد الحركة الوطنية، والأمل في تطور إيجابي لموقف اليسار الحاكم من القضية الجزائرية على المدى المتوسط. غير أنه كان يشترط كل تطور إيجابي سريع ب: - توسيع الحركة الوطنية ومحاورة مختلف القوى التقدمية بالجزائر وفرنسا وفي العالم كذلك. - تصعيد وتنويع الضغوط على سلطات الاحتلال.. وبخصوص الطلبة تحديدا، فقد كان ينتظر منهم القيام بعمل سياسي مناسب لصالح القضية، على أن تكون الخطوة الأولى تنظيم أنفسهم لهذا الغرض. وكانت التحضيرات قد انطلقت فعلا في هذا الإطار، وتوجت بتأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في يوليو 1955. بعد هذا اللقاء وضع محمد نفسه رهن إشارة عبان ورفاقه، وساهم بصفة خاصة في تجنيد بعض أصدقائه الأوربيين، ضمن شبكة إسناد مكلفة بإيواء ونقل مسؤولي الثورة بالعاصمة. ولمعرفة نوايا الوالي العام "جاك سوستال"، حضر لقاء مع مساعده العسكري "فانسان مونتاي"، قامت بتنظيمه صديقة فرنسية ناشطة في العمل الاجتماعي بمقر سكناها في حسين داي.. وقد استقال مونتاي لاحقا لأن نوايا سوستال ومن يقف وراءه لم تكن سلمية، كما كان يعتقد عندما قبل العمل في ديوانه. وفي غضون الموسم الجامعي 55 - 1956، نجد محمد في جامعة "السوربون" بباريس حيث واصل نفس المهمة: تحسيس الأوساط التقدمية بعدالة القضية الجزائرية وتشجيع البحث عن حل سلمي لها. ومن مساعيه في هذا الإطار، اجتماعه بالكاتب الكبير ألبير كامو بمقر أسبوعية ليكسبراس، بهدف تشجيعه على لعب دور أكبر في النزاع الدائر بالجزائر حيث ولد وكبر. وكان رد كامو يومئذ: "يتعيّن عليّ أن التزام الحذر، حفاظا على فعاليتي وقدرتي الإقناعية وسط الطائفة الأوربية". غير أن الحرب الدائرة بالجزائر منذ فاتح نوفمبر 1954 ما لبثت أن فرضت منطقها الذي لا يرحم، فأدرك محمد - وبعض قادة الثورة بالداخل والخارج - أنه ورفاقه كانوا متفائلين جدا، في رهانهم على حكومة اليسار لاختيار طريق الحل السلمي.. فقد كشّر اليسار الفرنسي - اشتراكيون وشيوعيون - عن أنيابه في 12 مارس 1956، بالحصول من البرلمان على كامل السلطات لحكومة الاشتراكي جي مولي، كي تجرب الخيار العسكري بكل وسائله وأبعاده. اختراق.. حصار العاصمة وتأكدت خطورة الوضع بالجزائر بشن طلبة الجامعات والثانويات إضرابهم التاريخي، ابتداء من 19 مايو من نفس السنة وتبع ذلك سقوط الطلائع الأولى من شهداء هذه الفئة، ومن بينهم أصدقاء محمد أمثال رشيد عمارة وصابر والتاوتي..إلخ.. بعد الإضراب بقي محمد بعض الوقت بفرنسا، قبل أن يعود إلى الجزائر ليجد نفسه طريدا، يستعين بأصدقائه السابقين من الأوربيين الأحرار خاصة في مأوى عابر، نجاة بنفسه من قبضة شيكات الأمن الرسمية والموازية، ولكن إلى حين.. وفي خضم "معركة الجزائر" أخذ الخناق يشتد من حوله، لاسيما بعد اعتقال معظم رفاقه الذين يناضلون معه في نفس الهياكل.. كان سالم (اسم محمد بعد الآن) يختفي عند صديقة فرنسية تدعى "آنّا" أستاذة فلسفة، رفقة صديق في نفس الوضعية هو محمود (مسعودي) من الأغواط.. فكر الإثنان في مخرج من هذا الحصار، تحت التهديد بالقبض عليهما في أية لحظة، وهنا اقترح محمود اللجوء عند أعضاء من عائلته بضواحي الأغواط، بأمل الالتحاق بالمغرب عبر الولاية الخامسة. تمكن الطالبان فعلا من اختراق حصار العاصمة بمساعدة الصديقة "آنّا" والوصول إلى الأغواط.. حيث لجأ محمود إلى استضافة أحد أقربائه في واحة صغيرة قرب المدينة. كان أمل الطريدين كبيرا في الاتصال بجيش التحرير المرابط بجبال الناحية من سلسلة العمور، بعد أن شرع مسؤولو الجبهة بالأغواط في السعي لذلك.. لكن الأمن الاستعماري كان أسرع، فداهم غرفتهما بالواحة فجرا ليعتقلهما أمام ذهول العائلة المضيفة. "إديت بياف".. كاتمة صراخ المعذبين! منذ الوهلة الأولى وجد الأسيران نفسيهما في فخ رهيب: ظنّ أمن جيش الاحتلال أنهما على علاقة مباشرة بأعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ الذين كانوا غادروا العاصمة يومئذ - بدون ابن مهيدي الذي وقع أسيرا في 23 فبراير 1957. لقد تم نقلهما جوا إلى مطار بوفاريك حيث كان في استقبالهما حشد من المظليين.. وبمجرد أن ركبا السيارة التي تقلهما إلى العاصمة، بادر الضابط المرافق بنصحهما أن يكشفا عن مكان أعضاء لجنة التنسيق - بدءاً ببن خدة - بدون تردد.. مضيفا: ذلك أحسن لكما! وإلا فالعاقبة ستكون خطيرة! مؤكدا ذلك بعبارة: "أفهمتم!". وكان الاستقبال في "دار سيزيني" الشهيرة، على أساس أنهما لم يستوعبا هذه النصيحة! لقد تلقى سالم في رواق الدار لكمات صاعقة من ضابطين، سقط إثرهما مصروعا، وهو يبصق دما مصحوبا بسنّ مهشمة. وعلّق أحد الضابطين على ذلك: "أنه كائن ضعيف!". بدأ التعذيب هكذا! قبل التأكد من هوية الأسيرين ومعرفة ظروف اعتقالهما، بهدف ترويعهما وزعزعتهما. طلب أحد الضابطين من سالم أن ينطق فورا ليقول أين يختفي الآخرون! وعندما أجاب وهو في حالة ذهول: لا أدري عما تتحدثون، كان الرد سيلا من اللكمات من كلا الضابطين، كان مع الضابطين جندي بسيط فلم يتردد في مشاركتهما طرحا وركلا وبصاقا.. لما استفاق سالم من إغماءته وجد نفسه طريحا في رواق مظلم، وهو يصطفق من البرد مع وجع شديد بالرأس.. وما لبث أن أصيب بالذهول، عندما تبيّن أن الأنين الذي يسمعه صادر عن رفيقه محمود المعلق من يديه قبالته.. معنى ذلك أن رفيقه تعرض للتعذيب قبله وقد حان دوره! كان الجلاّد هذه المرة ألمانيا من عناصر اللفيف الأجنبي، وكانت الحصة الأولى تغطيس الرأس في الماء، كررها الجلاد أربع مرات. اختنق سالم، ولم يعد يسمع، ما يطرح عليه من أسئلة.. أخذ الجلاد يضرب ظهره وصدره بقوة لإخراج الماء الذي يخنقه.. الماء يتدفق من الفم والأنف وحتى الأذنين.. تركه الجلاد في تلك الحالة، بعد أن حرص على ربط يديه ورجليه.. كان الجلاد يؤدي مهمته القذرة على أنغام "إديت بياف": "لست آسفة على ما مضى!". محمد التوري.. رفيق محنة كل ذلك في انتظار "الوجبة الرئيسية": التعذيب بالكهرباء بواسطة "الجيجانة".. عاد ضابطا الأمن ومعهما الجلاد الألماني، وبدأوا في تشغيل هذه الآلة الجهنمية، مع وضع سلكين منبعثين منها في أذني الضحية.. شحنات كهربائية صاعقة تتدفق من "الجيجانة"، فيهتز لها الجسم هزا، مصحوبا بآلام لا تطاق بالأذنين خاصة.. يكرر الضابطان نفس الأسئلة: أين يختفي القادة؟! وما علاقاتهم بشبكات الإسناد التي ينشطها "الأوربيون الأحرار؟!". أسئلة مصحوبة بحديث عن "مؤامرة خارجية"، و"أوامر تأتي من تونس والقاهرة وحتى من موسكو".. حديث حاقد كذلك عن "ناصر الذي أخذ منهم قناة السويس.. ويريد إضافة الجزائر"! بعد هذه "الوجبة الدسمة" رمي بسالم في زنزانة وهو في حالة غيبوبة تقريبا.. ثم جيء بنزيل ثانٍ في نفس الزنزانة، لم يكن قد ذاق مثل هذه "الوجبة" بعد! لذا رثي لحاله أول وهلة. وأخذ يحاول تطمينه والتعرف عليه! لم يكن هذا النزيل غير الفنان الكبير محمد التوري الذي اعتقل بتهمة جمع المال لفائدة الجبهة.. وهو الذي أخبر سالم بمكان اعتقاله وتعذيبه: "دار سيزيني" المنكودة الذكر.. كان التوري يعتقد أنه سيغادر هذا الوكر المنحوس وشيكا، فوعد رفيقه بإشعار عائلته، بعد أن أحسّ بمدى قلقه على حال والدته وشقيقته، وقد علم أن مصالح الأمن حققت معهما وحجزت من المنزل العائلي بالشلف وثائق وصورا وبعض الكتب.. كان الظلام دامسا بالزنزانة، ماعدا خيطا رفيعا من الضوء يتسلل من تحت الباب.. مع نغمات "إديت بياف" التي كانت بمثابة كاتم لصرخات المعذبين وأناتهم المتصاعدة من مختلف أرجاء هذا الوكر الرهيب: "دار سيزيني". (يتبع) * صدرت عن مطابع النهضة (بالفرنسية)، باريس 2007.