واكبت بجاية -حضرا وفحصا- النهضة الإصلاحية بقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مطلع القرن العشرين، وهي المنطقة التي بلغت فيها الحضارة الإسلامية شأوا كبيرا أيام الحماديين، أنستْ الشاعر ابن الفكون القسنطيني بغدادَ وعراقها ودمشق وشامها. * وظلت بقايا العمران الحمادي من قصور ومدارس ومساجد شواهد تتحدى الاستعمار الفرنسي، وتذكّر أهل بجاية بمجدهم التليد، وتدعوهم في نفس الوقت إلى الاستيقاظ من سباتهم العميق، وإلى الأخذ بأسباب النهضة، استعدادا للمعركة مع الاستدمار الفرنسي، ولا شك أن الاستفاقة كانت مرهونة بالخروج من ظلام الجهل،إلى نور العلم، وهي المهمة التي نذرت جمعية العلماء نفسها لها، لذلك كان من الطبيعي أن يستقبل أهل بجاية مدارس جمعية العلماء بالأحضان. * * جيل التحدي * كان الشيخ أعمر بوعناني واحدا من فرسان الإصلاح، الذين أعادوا الحياة إلى التعليم العربي في زمن المسخ الفرنسي، كان واحدا من ذلك الجيل الذي تحدى الاستدمار الفرنسي بإرادة فولاذية، واستلذ ركوب الصعاب، ولم ينثن في سعيه لتضميد الجرح الهوياتي، ولتلافي السقوط في أتون الإدماج، ومن أجل أن تبقى الجزائر أمة لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من الأمم. ورغم أن المهمة لم تكن سهلة، فإن جذوة الهوية الإسلامية المتاججة في قلوب الوطنيين الأحرار، قد جعلت العلماء يأخذون للحياة سلاحها، وهل هناك سلاح أحدّ من المدرسة والتنوير؟ * * من هو الشيخ أعمر بوعناني؟ * ولد الشيخ أعمر بوعناني يوم 29 ديسمبر1904، بقرية برباشة، ولاية بجاية. * تعلم مبادئ القراءة والكتابة في مسجد القرية على يد الشيخ أحمد دركيني، ثم قصد زاوية الشيخ مزيان بودريكة في مدينة القصر أين حفظ القرآن الكريم، ومنها عاد إلى قريته ليكمل تحصيله العلمي في مسجدها، بعد استقدام الشيخ محمد السعيد بن يحيى، باقتراح من الأستاذ الهادي الزورقي مدير مدرسة الإصلاح ببجاية. التحق بالجامع الأخضر بقسنطينة سنة 1932، وتتلمذ على الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى غاية 1937، مع توقف دام سنة واحدة، عاد خلالها إلى قريته للإشراف على مدرستها(1). * وبعد أن أكمل دراسته بقسنطينة سنة 1937، التحق بمدرسة الإصلاح ببجاية ومكث بها حوالي خمس سنوات، كما علم أيضا في المدرسة الخلدونية بنفس المدينة، ثم نقل في سنة 1954 إلى المدرسة الرشيدية بمدينة شرشال، مكث بها إلى سنة 1962. ولما عاد إلى مدينة الجزائر انتقل إلى سلك الأئمة، فعين إماما في مسجد الشراڤة لمدة سبعة أشهر، نقل إثرها إلى جامع كتشاوة بمدينة الجزائر في أفريل سنة 1963. ثم عاد إلى التعليم بعد إدماج المعلمين الأحرار في إطار الوظيف العمومي، فعين أستاذا في إكمالية باستور بالعاصمة سنة 1964، ومكث بها إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1983. ثم تعاقد من جديد مع وزارة الشؤون الدينية، فعين إماما بجامع كتشاوة إلى سنة 1989. * * نماذج من نصوصه * كان أغلب المعلمين المنتمين إلى جمعية العلماء، يجمعون بين التدريس والكتابة الصحفية خاصة في جريدة البصائر، التي كانت تعنى بالشؤون الثقافية والاجتماعية والسياسية للجزائريين، وتدافع عن قضاياهم العادلة، وتكشف تعسف السلطة الفرنسية، وتفتح جسور التواصل مع المغرب الكبير والمشرق العربي. وحرصا على إطلاع شباب اليوم على عيّنة من نصوص الحركة الإصلاحية ببلاد الزواوة أرتايت ضرورة تقديم نتف من مقالين له، باعتبارهما تأريخا لفترة حرجة من تاريخنا. كتب الأستاذ أعمر بوعناني مقالا في صائفة سنة 1937، بعنوان: * [مدرسة الإصلاح تعيد مجد عاصمتها الحمادية] وهو عبارة عن تغطية شاملة لحفل التكريم الذي نظمته المدرسة المذكورة على شرف الأستاذ سعيد صالحي أحد مسؤولي جمعية العلماء في فرنسا، بعد عودته إلى أرض الوطن. وكان الحفل في مقام المحتفى به، نظم في إحدى قاعات السينما ببجاية، تناوب فيه الصغار والكبار على تناول الكلمة، وهذا من باب تشجيع البراعم الصغيرة، والاستفادة من تجارب الكبار، وهذه فقرة من المقال المؤثر: * "احتفلت مدرسة الإصلاح البجائية بقاعة السينما برجل من رجال جمعية العلماء قائم بدعوة الحق بين إخواننا العمال من وراء البحر الشيخ سعيد صالحي، وكانت الليلة مزدهرة بتلك الوجوه النيرة ترفرف السعادة فوق رؤوس الجم الناهض من شباب " صلدي"، وما دقت الساعة التاسعة حتى اكتظت القاعة رغم اتساعها، بوجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة، فكان الكل يهتف بحياة الإسلام ونصرائه، وطامحا ببصره إلى إعادة مجد عاصمته الحمادية، التي هي غرة في جبين التاريخ الإسلامي."(2) * وبعد كلمة الترحيب التي ألقاها مدير المدرسة الأستاذ الهادي زروقي، أعطيت الكلمة للتلاميذ، وصف الأستاذ أعمر بوعناني مداخلاتهم بقوله: "ثم تقدم تلميذ من أنجب تلاميذ المدرسة، فرحّب بالحاضرين ونوّه بانتظام عقدهم، ثم أوصاهم بملازمة الآداب والهدوء، وبعده تلته خطب متعددة من بنين وبنات، طرقت فيها مواضيع تهم الجميع في دينهم ودنياهم، ثم ختم دور التلاميذ بالأناشيد الوطنية فكان لها الوقع الحسن في نفوس السامعين." * أما الأستاذ المحتفى به فقد وصف مداخلته بقوله: "ثم تقدم الشيخ السعيد بين وابل من التصفيق الحاد لإلقاء خطابه القيم، فابتدأ الكلام معربا عما في ضميره من الفرح والحبور بما شهده من أولئك الأبناء من الفصاحة وحسن الأداء، خصوصا البنات، ومعجبا بقيام الأساتذة نحو تثقيف الجميع ثقافة إسلامية. ثم شرع في الكلام بفصاحة سحبانية على انتعاش الحركة الإصلاحية في باريس عاصمة الحرية والسلام، وما قام به هو وزميله الشيخ الفضيل الورتلاني من أبر الأعمال الجدية هناك". * وفي الغد أقيمت على شرفه مأدبة غذاء في مطعم عصري، ألقيت فيه عدة كلمات وصفها الكاتب بقوله: "ومن جملة من أتحفنا ببلاغته الساحرة الأستاذ الشيخ أحمد أحد متخرجي الزيتونة ومدرس بمدرسة الإصلاح، فصال وجال، وكذا رئيس الإصلاح باب عيسى عبد الحميد، والسيد محمد بن الموهوب، والفكاهي المخلص السيد الهادي، ورئيس الكشافة السيد خامسي، وخطب أخرى على أنهج مختلفة متنوعة ممن حضر من أدباء بجاية، فكل عبر عما يكنه صدره من الشفقة والحنان نحو الإصلاح والمصلحين. ثم قام الشيخ سعيد صالحي فشكر الجمعية على غيرتها الإسلامية وعلى ما بذلته من التضحيات في سبيل الصالح العام، وشجعها على عملها السامي". * * احتضان برباشة لجمعية العلماء * أما المقال الثاني فقد نشره في شهر فيفري من سنة 1939، بعنوان [برباشة وعلاقتها بجمعية العلماء]، بدأه بوصف البلدة وصفا جغرافيا وعمرانيا واقتصاديا، خلاصته أن برباشة تقع جنوببجاية بحوالي 30 ميلا، وأنها تضم عشرين قرية متقاربة، بيوتها بسيطة، يعتمد أهلها في معيشتهم على الفلاحة وغرس أشجار التين والزيتون. ومن فرط حبها لجمعية العلماء، واعتناقها للنهضة والإصلاح، أنجزت ست مدارس في ظرف خمس سنوات. وقال في هذا السياق: "... ونادت (أي القرى) بين الملأ أن هلمّوا إلى ما فيه سعادتنا ورفع شان فلذات أكبادنا أيها المواطنون. فتراجعت الأصوات في أرجاء الصقع إجابة للمنادي "إننا على فكرتك ومعك ولنا ثقة تامة، فتقدم ونحن لك من الشاكرين المؤازرين". فانضمت الأصوات واتحدت الأفكار، وصارت كلها تحت راية جمعية العلماء وجندا من جنودها، ثابتا في الصف الأول وذائدا عن شرفها ومبدئها، متمسكا بصبر أهل العزم فناله ما نال الجمعية من سراء وضراء، فسرعان ما نادت النهضة من بينهم: أن حيّ على الأخوة والاتحاد، أن حيّ على الشعور بإنسانيتنا، أن حيّ على القيام بالواجب، أن حيّ على مقاومة الظالم المستبد، أن حيّ على هدم أركان الأوهام واستئصال جذور الخيال، أن حيّ على تغدية الأبناء بلبان القرآن الصرف. قد انقرضت عصور الجهل والظلم لا أعادها الله..."(3) * هذه صورة نضال الأجداد بالقلم والقرطاس، من أجل الحفاظ على هوية الأمة الجزائرية، في زمن الاحتلال والاستدمار، الذي لم يدّخر أي جهد لمحو هويتنا. ورغم اختلال التوازن بين إمكانات الجلاد والضحية، فقد نجح العلماء في إذكاء جذوة الصحوة من تحت رماد الاستدمار، وتلقف جيل نوفمبر صيحتهم " تحيا الجزائر والعرب" وصاغها ملحمة نباهي بها الأمم. * ------------------------------------- * الهوامش * 1- محمد الحسن فضلاء، من أعلام الإصلاح في الجزائر، منشورات وزارة الثقافة، 2002، ص 189. * 2- جريدة البصائر، المجموعة الأولى، السنة الثانية، العدد 76، بتاريخ 23 جويلية 1937. * 3- جريدة البصائر، المجموعة الأولى، السنة الرابعة، العدد 154، بتاريخ 24 فيفري 1939.