قوبلت المراجعات التي أفرزها المؤتمر الأخير لحركة النهضة التونسية، بوجهات نظر متباينة بين مؤيد ومعارض.. فهناك من اعتبرها مثالا لبقية التيارات الإسلامية التي عجزت عن تحقيق اختراقات في مسيرتها، ومن بينها التجربة الجزائرية، التي هناك من يتهمها بالتراجع رغم أسبقيتها.. في حين إن هناك من يعتبرها تنصلا من المرجعية التي جلبت لها الريادة في المشهد السياسي التونسي في مرحلة ما بعد "ثورة الياسمين"، ومن ثم عدم صلاحيتها للاستنساخ في الحالة الجزائرية. أم إن ما تقوم به النهضة التونسية سبقها إليه إسلاميو الجزائر بسنوات؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عنها. سجلوا خطوات للوراء رغم أسبقيتهم الإسلاميون في الجزائر.. فاشلون أم متهمون؟ طرح الدور "الثانوي" الذي أصبح يلعبه التيار الإسلامي في المشهد السياسي بالجزائر، العديد من التساؤلات حول مستقبل هذا التيار، الذي يبدو أنه لم يعد قادرا على مسايرة التطورات التي تشهدها الساحة السياسية في البلاد. فعلى عكس النجاحات الباهرة التي حققها هذا التيار في تركيا بفضل تجربة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، الذي يقوده الرئيس رجب الطيب اردوغان، وبدرجة أقل التجربة المغربية التي يقودها حزب يحمل أيضا التسمية التركية ذاتها، تبدو حركة النهضة التونسية وقد تموقعت في المنطقة الرمادية، بعد أن نجت من "محاولة انقلابية" فاشلة. ومن رحم تلك التجربة، بلورت "حركة الغنوسي" توجها جديدا، حاولت من خلاله إبعاد شبهة "التنطع" التي لطالما اتهم بها تيار "الإسلام السياسي"، من قبل خصومه من العلمانيين، وهو ما خلص إليه مؤتمرها الأخير الأسبوع المنصرم. وبينما تبقى التجربة المصرية الأسوأ، كونها وصلت إلى سدة الحكم، لكنها سرعان ما انتكست بسبب عدم قدرتها على مواجهة التحديات، تبدو التجربة الجزائرية بدورها قد فقدت الكثير من وهجها، جراء أخطاء جسيمة وقع فيها بعض أبناء هذا التيار، طيلة نحو ربع قرن من الممارسة السياسية. ومن بين الأسئلة التي أثيرت في غضون الأيام القليلة الماضية، هل تجارب "الإسلام السياسي" التي نجحت في دول أخرى (تركيا، المغرب وبدرجة اقل تونس)، تشكل نموذجا ناجحا للحالة الجزائرية؟ أم أن التجربة الجزائرية سبقت نظيراتها على صعيد التعاطي مع معطيات الواقع، لكنها لم تحقق النجاح المأمول؟ الإجابة على هذه الأسئلة تباينت بشأنها وجهات نظر الإسلاميين والمتابعين المحايدين، فالتيار "الإخواني" في الجزائر يؤكد أن ما أنجزه على صعيد الممارسة خلال نحو عقدين من الزمن، حقق أشواطا، وأن ما قامت به نظيراتها في كل من تركيا والمغرب ومن بعدهما تونس، ليس إلا استنساخا للتجربة الجزائرية مع بعض الخصوصيات المحلية الخاصة بكل دولة. غير أن المقاربة الأقرب إلى المصداقية هي التي تنزع إلى التسليم بمحدودية النجاحات التي حققتها التجربة الجزائرية، مقارنة بالتجربتين التركية والمغربية، اللتان عرفتا كيف توظفان زخم المرجعية الإسلامية وقوبلتها في برنامج واقعي ينطلق من الاستجابة لانشغالات الشارع، الذي لا يعير، في عمومه، الكثير من الاهتمام للاعتبارات الإيديولوجية، بقدر ما يبحث عن توفير قوت يومه والاستجابة لانشغالاته المادية. ومن سوء حظ التجربة الجزائرية، التي تمثلها حركة مجتمع السلم، أنها انساقت وراء اعتبارات قيل إنها استهدفت غايات مثل الحفاظ على استمرارية الدولة عندما كانت البلاد تعيش ظروفا أمنية خانقة، غير أن هذا الاعتبار لم يسقط عنها تحمل المسؤولية في بعض المسائل التي لم يكن أحد يتوقع أن يتورط فيها أبناء تيار لطالما اتصف بالنزاهة والشفافية والنظافة. ولعل من أبرز المآخذ التي يمكن تسجيلها على التجربة الجزائرية، هو أنها في الوقت الذي تقدمت فيه نظيراتها في الدول التي سبقت الإشارة إليها، فقد "التيار الإسلامي" في الجزائر بعض المواقع والمنابر التي شغلتها لسنين. وأيا كانت التبريرات التي يمكن تقديمها على هذا الصعيد من قبل "إسلاميي" الجزائر، كالتحجّج مثلا بطبيعة النظام القائم، وغياب الشفافية في العملية الانتخابية التي لاتزال تلاحقها تهم التزوير، التي تعتبر جزءا من الممارسة السياسية القائمة ولو كانت متردية، إلا أن ذلك لا يسقط عنها تهمة التفريط في مكتسبات، كان يتعين أن تعزز بمكتسبات أخرى، لا أن تسجل خطوات إلى الوراء.
رئيس مخبر "الدين والسياسة" الدكتور زبير عروس: نحناح سبق الغنّوشي.. والإسلاميون ليسُوا أهلاً للتجديد! كيف تقرؤون إعلان حركة النهضة التونسية التحوّل إلى حزب سياسي مدني مع ترك الوظيفة الدعوية للمجتمع المدني؟ أولا : فصل الحركة للسياسي عن الدعوي ليس تخليّا عن المرجعية الإسلامية، بل إنّ كل الوثائق تؤكد عليها كمرجعية عليا لسياسة النهضة، كما أن التمايز لا يعني عدم إشرافها على المجال الدعوي، بل تركته لمنظمات المجتمع المدني التي سيكون لها ارتباط غير عضوي ولكنّه وثيق مع الحزب، وهذا تطبيق لحالة دستورية تخصّ تونس. ثانيا: أنّ إعادة التنظيم أو الهيكلة يدخلان في إطار التطور الطبيعي لحركة الاتجاه الإسلامي بصفة عامة، فقد تشكّلت مع الرعيل الأول كجماعة دعوية، اعتقدتْ أنّ هوية تونس الإسلامية في خطر، في ظل سياسة التحديث "البورقيبي"، ثم انتقلت إلى حركة نضال ضد الحكم الشمولي والطغيان في أيام بن علي، لتنتقل الآن إلى أخطر مهمة، وهي مشروع التنمية على جميع المستويات، وفي مقدمتها الشق الاقتصادي وما يرتبط به من مطالب خاصة، أي أن الحركة أمام امتحان وجودي للإجابة عن انشغالات التونسيين، وهذا تطلّب منها التفرغ بشكل أساسي لهذه الرهانات. هل تعتقدون أن الإسلاميين في الجزائر متقدمون أم متأخرون عن نظرائهم التونسيين في هذه المقاربة؟ أولا، لا يمكن أن نحكم على أي حركة بالسبق أو التقدم أو التأخر في هذا المجال، إذ أنّ العمل السياسي لأي حركة، وخصوصا ذات التوجه الإسلامي، يرتبط بخصوصية بلد انتمائها، ولا تستثنى الجزائر من هذه القاعدة، بل أرى أنّ التيار الإخواني الجزائري كان له السبق في بعض مجالات الإصلاح وإعادة هيكلة الذات، بالخروج من الخطاب الديني المتشنج ذي الطبيعة الطقوسية إلى خطاب سياسي واع، يسعى إلى طرح مشروع متكامل، وهذا لا يمكن أن ننفيه عن"حركة حمس" وبقية الأحزاب التي تفرعت عنها، فهذا التيار قال بأولوية الحفاظ على الدولة قبل الحزب، ورفع الجزائر أولا وأخيرا، قبل أن تقول به حركة النهضة التونسية، ولا ننسى أنها استفادت من التجربة الجزائرية بكل سلبياتها وإيجابيتها، من جنوح الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، ورجاحة العقل "الإخواني" بشقيه العالمي والوطني. مع ذلك تعتبر أفكار "النهضة" اليوم تقدميّة، فهل يكمن خلل الأحزاب الإسلامية في مؤهلات نخبها، أم في البيئة السوسيو- ثقافية؟ لنقول بكل صراحة، مع كامل التقدير للقائمين على الحركة الإسلامية في الجزائر، إنّ المستوى المعرفي للنخبة ذات التوجه الإسلامي في تونس متطورة بعقود على مثيلاتها في الجزائر، بل إنّ نخبة الأحزاب الجزائرية ذات التوجه الإسلامي هي جامعية، ولكنها ليست متجذرة في الممارسة المعرفية ذات العلاقة بتوجهاتها السياسية، فهناك الكثير من الإطارات لكن فراستها في النص الديني لا زالت في مراحلها الأولى، ولا زالت تنظر إلى أحكامه انطلاقًا من قيم المجتمع الجزائري الذاتيّة، فهُم ليسوا أهلاً للتجديد، ولا لاجتهاد تفاعلي مع المستجدات العالمية. على ضوء هذا التشخيص، كيف تنظرون إلى مستقبل "الإسلام السياسي" في الجزائر؟ أمام التيار ذي التوجهات الإسلامية مهمة صعبة، تتمثل في تقييم التجربة منذ التأسيس إلى اليوم، لإعادة النظر في خطابهم التجريدي، وكذا النظر بعمق في علاقتهم مع الآخر، المخالف سياسيّا وفكريّا، وقد لمست بعض المؤشرات أو الملامح في هذا الاتجاه، والتي تعبّر عنها بعض الكتابات التي صدرت في المؤتمر الخامس لحركة مجتمع السلم، إضافة إلى الأوراق الفكرية للأحزاب الأخرى ذات المنشأ "الإخواني"، وبالتالي، فأنا متفائل جدا، لأنّي أعرف قيادات في هذا التيار لها محاولات لتفعيل الرؤى التي تخدم المجتمع الإنساني، لكن العقبة التي تواجهها هي عطب الخلافات التي أخذت منحنًى لا يساعد على تكوين وحدة فكرية جامعة تتطلع نحو المستقبل.
رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري: تجربة النهضة ناجحة.. ولا يمكن رؤية رئيس حزب يلقي خطبة الجمعة ما القراءة التي تقدمونها لفصل حركة النهضة التونسية لعملها الدعوي عن السياسة؟ حقيقية؛ تعتبر خطوة طبيعية تندرج ضمن تطور الحركة الإسلامية التي أضحت تواكب المستجدات. ويمكن تأكيد أن تجربة حركة النهضة التونسية ليست الأولى من نوعها، حيث سبقتها في ذلك الحركات الإسلامية بالمغرب وأيضا حركة مجتمع السلم في مؤتمرها الخامس، وترجم ذلك من خلال عدة إصدارات على غرار كتاب "البيت الحمسي مسار التجديد الوظيفي في العمل الإسلامي". كما سيرنا هذه التجربة عن طريق كتاب حمل عنوان "الدولة المدنية"، وكتيب صدر قبل 10 سنوات. ونرى اليوم أن حركة النهضة تسير في نفس النهج الذي بات يفرض نفسه. برأيكم، هل الانتقادات التي وجهتها بعض الأطراف إلى توجه حركة النهضة التونسية بخصوص توجهها الجديد، مؤسسة؟ منتقدو حركة النهضة لم يستوعبوا بعد الموضوع، وحكموا على شيء غير موجود أصلا، فحركة النهضة التونسية تمارس السياسة وتقدم بدائل وتناقش الأحزاب على أساس البرامج، وتقول إن رأيها غير مقدس وقابل للنقد، لكن في مقابل ذلك لا تزال لها مرجعية إسلامية بالنظر إلى أن الحزب السياسي لا يمكنه ممارسة الدعوة فقط، فالقانون لا يسمح ولهذا بدأت توجه إطاراتها نحو المجتمع المدني لممارسة العمل الدعوي. هل يمكن القول إن فصل السياسي عن الدعوي في الأحزاب الإسلامية له وجود في الميدان أم إنه سيظل حبيس النظريات؟ نحن في حركة مجتمع السلم نرى أن هذه التجربة ناجحة، وهناك خطة وضعناها بعد خروجنا من المؤتمر الخامس وصادق عليها مجلس الشورى، حيث تقرر المحافظة على كل ما هو حزبي، مع ترك العمل الدعوي للمجتمع المدني، وهذه التجربة استطعنا من خلالها استيعاب إطارات وكوادر سمحت للجميع بالعمل ضمن قناعاته وميولاته ورغباته. هل يعكس هذا التوجه في رأيكم رغبة في التكيف مع الواقع الجديد أم هو إقرار بفشل المشروع الإسلامي في صيغته القديمة؟ لا يمكن الحديث عن نماذج فاشلة في الحركة الإسلامية بقدر ما يمكن اعتبار التجربة الجديدة متميزة وتعد مكسبا للإسلاميين، الذين سيوسعون هوامش عملهم وعدم الاكتفاء بوظيفة واحدة وفق القوانين والواقع الاجتماعي، فمثلا لا يمكن أن نرى رئيس حزب يلقي خطبة وكأنه إمام، ويجب الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية تتميز بشيئين، الأول قياداتها ومناضلوها ملزمون بالأخلاق الإسلامية بعيدا عن قضايا الفساد والشبهات، والثاني تقديم برامج تكون مبنية على مرجعية إسلامية تقدم البدائل عن النظام الرأسمالي الربوي، الذي تسبب في تفشي الفقر في العالم، ويجب على الحركات الإسلامية أن تتعايش مع الواقع وتفرض نفسها ضمن المنافسة الموجودة. في ظل التوجه الجديد للحركات الإسلامية أين وصل مشروع لم شمل الإسلاميين في الجزائر؟ حقيقية؛ أن تخرج من الأحزاب الإسلامية أحزاب أخرى، فهذه حالة طبيعية وليست حكرا على الإسلاميين فقط، فحزب جبهة التحرير الوطني عرف أيضا في مساره خروج عدة أحزاب من رحمه، ونفس الأمر بالنسبة إلى التجمع الوطني الديمقراطي وكذا التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية "الأرسيدي". ونحن- الأحزاب الإسلامية- نعتقد أن المطلوب منا حاليا هو المحافظة على المستوى الأدنى من التوافق لضمان التقارب المنشود. ويتعلق الأمر بثلاثة أمور يتعين التقيد بها، أولاها كف الأذى وعدم الاعتداء على الآخرين، والتنسيق والتعاون المشترك للوصول إلى الوحدة الاندماجية، التي تبقى هدفا نسعى إلى تحقيقه ولو مع بعض مكونات هذا التيار.