ترك أزيد من5000 قصيدة ما بين الملحون والفصيح، ومئات النصوص المسرحية، مثل في فليم العفيون والعصا والفحام في دور الإمام، لا يمكن إنكار اسمه في التأريخ للحركة المسرحية في الجزائر، إنه الفنان المسرحي محمد محبوب اسطنبولي الذي نعود إلى سيرته عبر ذاكرة ابنه عبد الباري الذي جال بنا عبر مسار والده الفنان والإنسان. محمد محبوب اسطنبولي من مواليد المدية عام 1913 لعائلة محافظة احتك بالمسرح في سن مبكرة، أين اعتلى الخشبة وعمره لا يتجاوز سبع سنوات، ورغم تحفظ والده إزاء الفن، لكنه واصل ممارسة المسرح والكتابة له، سواء في زمن الثورة أو بعد الاستقلال. انخرط في حزب الشعب الجزائري وأسس فرقة رضا باي وكان قبلها يكتب الأناشيد الوطنية لصالح فرقة الكشافة الإسلامية، منها نشيد "من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للاستقلال" والذي نسبه البعض للشاعر مفدي زكريا، لكن ابنه أكد أن النشيد من تأليف والده. عام 1948 انخرط الشيخ اسطنبولي في صفوف جبهة التحرير الوطني، ألقي عليه القبض عام 1957 و عرف مراكز التجميع، حيث تنقل بين ضيعة شنو، بني مسوس، سيدي الشامي بوهران، بوسوي وتيفيشون.
من دروب الثورة إلى رحاب المسرح والإذاعة بعد الاستقلال انتسب إلى المسرح الوطني كما عمل في الإذاعة، وكذا في فرقة المسرح الشعبي إلى جانب حسن الحسني الذي كان له الفضل في اكتشافه في البرواقية صدفة، استنادا إلى شهادة ابنه عبد الباري اسطنبولي، كما كان مشرفا على فرقة للمسرح تابعة لمؤسسة سونطراك، أين درب أجيالا من الفتيان على حب الخشبة، ألف وأخرج عدة مسرحيات، توفي في جانفي عام2000، تاركا أزيد من 5000 نشر شعري و11 عملا للأوبرا وأربع روايات، إضافة إلى عشرات السيناريوهات للسينما والتلفزيون بعضها لم ير النور إلى اليوم. كان يقول لابنه "أتظن أن فيكتور هوجو كتب أكثر مني قصائدا ونثرا ؟، يذكر عبد الباري اسطنبولي أن أباه كان مولعا بالكتابة ويكتب باستمرار وبدون توقف، حيث كان لا يفوّت أي مناسبة حتى أيامه الأخيرة عندما كان يذهب مثلا إلى المستشفيات، كان يكتب أشعارا في الأطباء والممرضات، كان يكتب بمعدل ثلاث قصائد في اليوم، لم يكن كثير الحديث، خاصة عن نفسه، لكن يقول عبد الباري أن مرافقتي لوالدي علمتني الكثير في المسرح والشعر والعلاقات مع الناس أيضا، يضيف عبد الباري قائلا "أبي كان يقول لي دائما أعمالي لن يفهمها الناس إلا بعد مرور خمسين سنة عن رحيلي". لقاؤنا مع ابن الحاج اسطنبولي كان فرصة له لتصحيح بعض الأخطاء التي شابت سيرة والده، من بينها ما تردد عن أن نشيد "من جبالنا" ليس من تأليفه بل هو منسوب لمفدي زكريا أو محمد العيد أل خليفة. كشف السيد عبد الباري اسطنبولي أنه تحدث مع والده عن هذا النص، فأخبره أن النص به خلل في الوزن لا يرتكب مثله مفدي الشاعر الكبير في عصره، ولو كان هو صاحب النص ما كان ليمنعه من ضمه إلى ديوانه اللهب المقدس؟
المتديّن المحافظ صديق الفنانين يذكر أيضا السيد اسطنبولي عن والده أنه كان شخصا محافظا ومتدينا، لكنه متفتح على الناس والفنون ولم يكن متعصبا أبدا، بحيث عرف بروحه المرحة وحسه المرهف، حيث كان من عشاق أم كلثوم التي كتب لها الشعر وتبادل معها الرسائل، كان أيضا من عشاق رياضة الملاكمة، ويحب متابعة أخبار ومنازلات محمد علي كلاي، إلى جانب حبه لموسيقى الشعبي وشيوخ الأندلسي من معاصريه، وأغلبهم كانوا أصدقاء له أمثال الحاج محفوظ والصادق لبجاوي ودحمان بن عاشور. الشيخ اسطنبولي عرف أيضا بحبه للغة العربية وحرصه على إعطاء الصبيان أسس قوية فيها، حيث ألف "منقذ الصبيان من عثرة اللسان" الكتاب يلخص قواعد النحو في مائتي بيت من الشعر، يكشف عبد الباقي اسطنبولي أنه تعلم المسرح عن والده الذي صعد بفضله على خشبة المسرح رفقة الحسن الحسني ورشيد قسنطيني، كما تعلم عنه أيضا فن الطرز الذي أخذه بدوره عن يهود المدية في ثلاثينات القرن الماضي. رغم حب الحاج اسطنبولي للشعر الملحون والفصيح الموزون الذي ناصره ضد موجة الشعر الحر الذي ظهرت نهاية الستينات والسبعينات، لكنه غيّر رأيه وكتب في الحر بعد أن تأثر بنزار قباني ومحمود درويش.
قصة "دائرة الطباشير" و"مجنون إشبيليا" اشتهر محمد محبوب اسطنبولي بمسرحيته "دائرة الطباشير" التي أخذ بها الجائزة الأولى في مهرجان دمشق عام1968 ويذكر ابنه أن هذا النص المسرحي لقي ترحيبا نقديا منقطع النظير في مصر، سوريا ولبنان وكتب النقاد كثيرا يشيدون به، وقالوا إنه بفضل هذا النص وجد العرب أخيرا لغة المسرح، كما اشتهر أيضا بمسرحيته "مجنون اشبيليا" التي أعادتها إلى المسرح فوزية أيت الحاج. عمل الفنان اسطنبولي في الثورة بقي بينه وبين نفسه يقول ابنه عبد الباري أنه لم يكن يحب الحديث كثيرا عن نفسه، وقليلا ما كان يتحدث عن عمله في حزب الشعب أو جبهة التحرير أو حتى دوره في التأسيس لفرع المنظمة السرية في الشراقة، التي واصل بها نشاطاته وهواياته بالمنطقة، وبدأ يدرس العربية بهذه المدينة، حيث كان أول من درس بالسبورة السوداء. ألقي عليه القبض في الثورة وتم توقيفه رفقة كل من الحسن الحسني والطيب أبو الحسن واقتيد إلى مراكز الاحتجاز، هناك رسم وأنجز عدة تحف فنية، مستغلا خبرته التي اكتسبها من الرسم وفن الطرز بعض تلك التحف ما تزال بحوزة ابنه إلى اليوم ضمن مجموعة كبيرة من تذكاراته. بعد الاستقلال انتسب الشيخ محبوب اسطنبولي إلى المسرح الوطني، كما كانت له حصص في الإذاعة "رشيدة والقوال". "أحلام وأوهام" و"دنيا الشباب" ألف أزيد من 50 أغنية لصديقه اقربوشن الذي اختبأ في بيته لفترة عندما كانت سلطات الاستعمار تبحث عنه، فقد وصفه اقربوشن بالعبقري، كما اختبأ أيضا لدى فرحات عباس لمدة شهرين، أثناء الفترة الاستعمارية. اغتنم عبد الباري اسطنبولي فرصة الحديث عن والده لتصحيح بعض الأخطاء التي يروّج لها البعض مثل كون الشيخ اسطنبولي هو مؤسس فريق أولمبيك المدية، ولكن هذا غير صحيح يقول ابنه أن أباه أسس ما بين1933 و1935 فرقة"هلال سبور" التي كانت تجمع ما بين الموسيقى والمسرح والألعاب البهلوانية التي كانت موضة في تلك الفترة، في العاصمة احتضن دكانه تأسيس فريق الشراقة الرياضي، لكنه لم يكن هو مؤسسا لأي فريق رياضي رغم ولعه وحبه للرياضة.
تاج الزين الأغنية المفقودة وقصة القصيدة التي أداها الشيخ الخالدي كان هو من أسس فرقة رضا باي التي كانت أول فرقة لموسيقى الجاز في الجزائر إلى جانب اهتمامها بالمسرح، كتب الشيخ اسطنبولي للعديد من الفنانين من اقربوشن إلى سعيد بسطانجي المدعو "حسان بدري" الذي لحن أزيد من 500 أغنية من كلمات الشيخ اسطنبولي، الذي لم يكن يعزف على أية آلة موسيقية، ولم يكن يحلن، لكنه استثناء كتب ولحن "يا العدرة وين المواليك" وحققت نجاحا باهرا في وقتها، كتب أيضا للمطرب ليلي بونيش"لو كان كان عندي الملاين" كما غنى أيضا من كلمات الشيخ اسطنبولي كل من سليم هلالي وعبد الرحمان عزيز ومهدي طماش ورشيد قسنطيني، الذي كتب له 3 أغنيات، لكن يقول ابنه لا أعرف عناوينها، وحتى الشيخ الخالدي الذي لم يتعود أن يغني من كلمات غيره، باستثناء الفنانين الكبار الأموات، أعجب بنص، كان الشيخ اسطنبولي كتبه لقصاب ومرافق الشيخ الخالدي الذي أراد أن يستقل بفرقته ويصبح شيخا، وجد الشيخ الخالدي النص عند مرافقه أعجبه فأخذه منه وغناه في حصة كانت تبث على المباشر أيام الاثنين في الإذاعة في الخمسينات، كما تحصل الفنان على الجائزة الأولى للإذاعة والتلفزيون ككاتب كلمات أغنية "التاج الزين"، في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين والغريب يقول ابنه أن تلك الأغنية لم يعد بثها منذ أن فازت بتلك الجائزة وغير موجودة في أرشيف الإذاعة. محمد محبوب اسطنبولي الذي ظهر في دور الإمام في فيلمي" الفحام" و"العفيون والعصا" كتب أيضا للسينما والتلفزيون العديد من السيناريوهات، أغلبها لم تر النور، وبعضها لم يسجل في ديوان حقوق التأليف، الأمر الذي سهل السطو عليها يقول ابنه من قبل البعض ونسبتها إلى أنفسهم. بقي محبوب اسطنبولي بعيدا عن السياسية قريبا من الفن، ملتصقا بالمسرح، يقول ابنه أن والده لم يكن من أنصار المسرح الفصيح ولا اللغة المبتذلة، لكنه كان من أنصار المنزلة بين المنزلتين"، خاصة في فترة السبعينات عندما تحول المسرح الهاوي إلى واجهة البعض للممارسة السياسية على حساب نوعية النصوص المسرحية التي كانت تقدم، يروي عبد الباري عن والده أنه عندما قرأ لاحقا "ستان سلافسكي" مزق نصوصه، وقال إن ما كنا نقدم لم يكن مسرحا، في عام1973عندما انتشر في الساحة الجدل السياسي كانت الثقافة جزءا منه، في هذه الفترة فضّل الشيخ اسطنبولي أن يقود فرقة مسرحية تابعة لسونطراك، هناك كان يكتب نصوصه ويقدمها على الخشبة ويذهب في جولات فنية عبر الوطن بشباب هواة، حرص على أن ينقل لهم حب المسرح. كان هذا دأبه حتى خرج إلى التقاعد، كما تعامل أيضا مع الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، "والدي بقي مناضلا بسيطا في الأفلان بعد الاستقلال رافضا الخوض في السياسة، كان فنانا وبقي كذلك" يقول ابنه عبد الباري، الذي أكد أن والده لم يسع يوما لفرض خياراته في الحياة على أبنائه وإن نقل إليهم حب الفن، حيث تعلم ابنه المسرح كما حفظ أيضا أصول الطرز والخياطة الأندلسية، "هذه الحرفة أنقذت والدي من البطالة عندما استقال لفترة من المسرح الوطني" يضيف عبد الباري، متحدثا عن والده "أبي كان يرفض التكريمات، ويرى أن أكبر تكريم للفنان هو عرض وتقديم أعماله... كان زاهدا مكرسا حياته للدين، والثقافة والمسرح والشعر والنضال، منذ أن تعلم القرآن بالكتاب بالمدية، عند الشيخ صغير، حيث درس النحو والتاريخ، وحفظ كتاب الله في سن 14 عام، وقد سأله يوما معلمه: «كيف تكتب قصيدة وأنت تدرس عندي النحو، داعيا إياه لنيابته "كما كان لاحقا يخلف إمام بوزريعة عندما يذهب في عطلة". مسار الشيخ اسطنبولي الحافل والمتنوع بين المسرح والشعر والفن عموما بقي محصورا لدى فئة قليلة جدا من الدراسين لتاريخ الحركة المسرحية في الجزائر، ابنه عبد الباري اسطنبولي يعمل على جمع جزء من أرشيف والده، تمهيدا لنشره لاحقا في شكل مذكرات، ربما تساهم في إعادة الاعتبار لهرم من أهرامات المسرح الجزائري في ثلاثينيات القرن الماضي. حيث يروي عبد الباري اسطمبولي عن والده أنه في عام 1939 في البرواقية ذهب عند الحلاق، فوجد شابا يقلد دور البدوي الذي قدمه في مسرحية أدتها فرقة رضا باي فقال له أنت أتقنت الدور أحسن مني. كان ذلك الشاب هو حسن الحسني الذي صار لاحقا العملاق" بوبقرة".