قال لي صاحبي عبد القادر "البي تي تي"، وأسميه البي تي تي لأنه كان يشتغل في البريد، ألم تلاحظ هذا الانفلات والاضطراب والتسيب الذي يعيشه المجتمع الجزائري؟ قلت بلى فأردف قائلا إنه الاستبداد. وصاحبي عبد القادر ليس من النخب الحاكمة او المحكومة، وإنما هو واحد من أبناء الشعب الواعي بالحد الأدنى لما ينبغي أن تكون عليه البلاد، فيفهم ما يقال ويقول ما يُفْهعم...، فقلت له يا عبد القادر الإستبداد ليس وحده، وإنما هناك مشكلة أخرى أخطر وأشد علينا وهي مشكلة ضحايا الاستبداد، الذي هو أخطر من الاستبداد نفسه.. أما الاستبداد فقد ألفناه وتكيفنا معه بشكل من الأشكال، وربما تجاوزناه في بعض الأحيان، فاعتبرناه كالشيخ الذي لا يرجى إصلاح عاداته. فالمستبد لا يستبد بك إلا بالقدر الذي تسمح به أنت..، أما المستبد به فإنه ينفذ الاستبداد وفق ما يشتهي المستبد، بسرور كبير واستعلاء فارغ، ويحسب أنه يحسن صنعا. كان هذا الحوار القصير مع صديقي عبد القادر ونحن ننتظر الحافلة "أيتوزا"، فقال عبد القادر لم تأت الحافلة؟ قلت له إنهم قالوا تأتي على الساعة الثانية ونصف.. فعقب بقوله لا ندري ثانية اليوم أم ثانية الغد؟ فقلت متعجبا.. أهكذا؟ نسيت أنك في الجزائر؟ فقلت له هذه واحدة من ضحايا الاستبداد التي تكلمنا عنها قبل قليل، فعمال الإيتوزا هم من الشعب ويغلب عليهم ما يغلب على عموم الشعب، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. جاءت الحافلة متأخرة قليلا وبحكم كثرة الركاب قال لي تعالى نحاول الركوب من الأوائل حتى نحصل على مواقع –كراسي- لأننا ننزل في المحطة النهائيةوالكثير من الركاب ينزلون في الطريق. فدخلنا عالم "التطباع" في مساء رمضان، فسارع الناس إلى الكراسي كما يسارع إليها الانتهازيون من السياسيين، وبحكم أن بعضهم لم يشتر التذاكر قبل الركوب، فقد حجزوا أماكنهم، بوضع الألبية و"الصاشيات" والعكاكز والمحتفظ، ونزل الجميع ليشتروا تذاكر الركوب..، فالتفتُّ إلى صاحبي وقلت له هذا مظهر ثاني من مظاهر ضحايا الاستبداد. جلس صاحبي على كرسي وبقيت واقفا؛ لأنه كان أسرع مني وعرض علي الجلوس، فرفضت وبعد إلحاح منه قلت له نتقاسم الطريق، فعندما نصل إلى النقطة "سين"، سأجلس مكانك، فقال لي هاك الجرائد اشغل نفسك، فتسلمت جريدة وشرعت في تصفحها وقراءة ما يشدني منها. وبينما نحن على تلك الحال ننتظر انطلاق الحافلة، إذ بعامل في الأيتوزا –شركة النقل- يعلن بأنه يبحث عن مكان لشاب ضرير كان معه، ووقف أمام صاحبي عبد القادر، وبقي يلح على أن هذا الضرير من أصحاب الأولوية بالجلوس، وكان إلى جانب صاحبي عبد القادر شاب أقل سنا منه، طلب منه العامل ترك مكانه للشاب الضرير، فأبى في البداية، ثم وقف وترك الحافلة، وأطلق وابلا من المصطلحات البذيئة، التي لا أستطيع نقلها هنا احتراما للقارئ، لا سيما ونحن صائمون، وأنا شخصيا أستحي من أن أكرر تلك الألفاظ ولو بيني وبين نفسي، وكانت الحافلة مختلطة بالرجال والنساء صغارا وكبارا... ونزل، فقلت لعبد القادر وهذا مظهر من مظاهر ضحايا الاستبداد أيضا. وبعد ذلك جاءت عجوز طاعنة في السن واقتربت من صديقي عبد القادر، لا ادري هل طلبت منه الجلوس مكانه أم لا؟ المهم أنه ترك لها مكانه، ثم دخل في حوار ساخن مع شخص مقابل له في المقعد؛ إذ كان من رأي هذا الشخص ألا يقوم من مكانه، ولا يترك العجوز تجلس.. فحاول صاحبي إقناعه أن الأمر طبيعي، والناس يحتاجون إلى بعضهم البعض، ولكن ذلك الشخص لم يقتنع، وقال له لا أستسيغ ما قلت..، ورغم أن صاحبي قد وظف العاطفة وقال له لو كنت أنت مكان هذه العجوز لتركت لك المكان، فإن الرجل لم يستسلم، وقال له العجوز التي لا تستطيع الوقوف تنتظر حتى تأتي حافلة أخرى فارغة.. أو تبقى في دارها، أنا لا أقف لأحد مهما كان ولو كانت "يما" أي أمي على حد قوله..، ودهب يعدد فضائله التي يعيش بها، مع هذا الشعب "لمعوج"، وأقسم أنه يسكن مع 11 جارا ولا يتكلم مع احد منهم!! قلت لعبد القادر وهذا أيضا مظهر من مظاهر ضحايا الاستبداد، ثم دخل محاور ثالث على الخط وقال إن هذا الشعب "معوج" فهو الذي يصنع الأزمات، وذهب يعدد المشاكل التي يتسبب فيها الشعب، ويكرر فضائل أوروبا وأوروبا واليابان وامريكا.....، كل ذلك ليصل إلى أن الشعب الجزائري مشكلته في أن "أصحاب لبلاد"، أي سكان القرى والمداشر بالريف هو الذين أفسدوا المدينة وهم الذين لهم ممتلكاتهم في قراهم وبواديهم، وجاءوا إلى العاصمة ليزاحمونا ويفسدونها ويفسدون أهلها... فقال له صاحبي ولعله لا يملك شيئا في قريته..؟ فقالا له معا -المحاور الأول والمحاور الثاني-.. لا لا لا إنه يريد أن يملك هنا وهناك، وواصل المتحدث الأخير أنه "عاصمي"؛ لأن والده من مواليد 1925، ولما مات والده دفن في لبلاد!! وهذا المنطق في تقديري لا يتبناه إلا واحد من ضحايا الاستبداد. قطعنا مسافة الرحلة ونحن نتبادل النظرات والابتسامات أنا وصديقي وهذا المصطلح الذي كنا نتناقش حوله، وقد أثبتته التجربة في الواقع بهذه النماذج الفاسدة، التي شهدناها في الحافلة في مدة لا تتجاوز الساعة. على الاستبداد هو أنانية وظلم وتجاوز واعتداء، وفي الغالب أن المستبد لا يشعر بأنه يظلم وإنما يظن أن استبداده هو من أجل تحقيق الأصلح والأفضل، وينسى أو يتناسى أن الاجتهاد في تجنب الاستبداد والتقليص من مساحاته أفضل بكثير من المصالح التي تتحقق في ظل الاستبداد إن وجدت. إن الاستبداد شر كله، لأنه لا يعبأ بالنظام الاجتماعي وبالعقود التي تنظمه، يقدر ما يحافظ على أنانية أصحابه؛ ثم لأن طبيعته تمنعه من ذلك. والأسوأ منه كما أشرنا في صدر هذا الحديث، الفئات المستبد بها، عندما تتجاوب مع الاستبداد وتتفاعل معه، بانتهاج الأنانية، وأنانية الأفراد أسوأ من أنانية الجماعات، فتترتب عليها المظالم والاعتداءات والتجاوزات، لا لشيء إلا لتحقيق ذوات الأفراد التي لا تظهر مجتمعة إلا بالاستقراء..، فهذا الذي يفخر بأنه مقاطع ولا يتكلم مع 11 من جيرانه، هو في الواقع ليس إنسانا، والذي ينظر إلى مجموع الشعب على أنه مقسم إلى أهل للبلاد وسكان العاصمة وغيرهم وغيرهم، أيضا لا يحمل في نفسه معنى للمجتمع، والذي لا يتعرف بالتعاون والتضامن بين أفراد المجتمع لا يستحق التقدير... وكل ذلك موجود في مجتمعاتنا العربية بكل أسف. لا شك أن الموازنة بين الاستبداد وضحاياه، يصعب القطع فيها بالغلبة لهذا الطرف أو ذاك، ولكن المقطوع به هو أنه لا فضل فيهما معا، وإنما هما بين السيء والأسوأ، والأسوأ في تقديري هم ضحايا الاستبداد الذين تفاعلوا معه وتجاوبوا مع مقرراته الفاسدة كما قال الله عن المنافقين زمن حذقوا النفاق (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..) [التوبة 101].