في وقت لا زالت فيه غالبية مواضيع خطب الجمعة تتمحور حول قضايا لا ترتبط أساسا بالظواهر الاجتماعية التي يعيشها المواطن، تواصل الآفات الاجتماعية نخرها للمجتمع الجزائري الذي تفرق شبابه بين الانتحار والحرڤة واكتسحت فيه المرأة عالم الإجرام من بابه الواسع، بينما بلغت الأرقام المتعلقة بالاعتداءات الجنسية على الأطفال وحالات الطلاق والتشقق الأسري سقفا يفوق الخيال.. فما هي أسباب عجز المساجد عن مواكبة الظواهر الاجتماعية وإرشاد المصلين لكيفية التعامل معها وتجنب آفاتها؟ يرى العديد من المختصين ضرورة إعادة النظر في طريقة الخطاب المسجدي على نحو يكون فيه أكثر واقعية، وذلك للدور الكبير الذي يمكن لبيوت الله أن تقوم به في علاج مشاكل الناس والحيلولة دون الانتشار غير المسبوق للآفات الاجتماعية التي باتت مصدر تهديد للمجتمع الجزائري.. ويُعتبر هذا من أولى أولويات المساجد التي توجد في كل مدينة وفي كل قرية، بل وفي كل حي. وللمساجد حرمتها في نفوس الجزائريين، فهم يلتقون فيها لأداء الصلوات الخمس في جماعة وصلاة الجمعة كل أسبوع، ويصلي بعضهم فيها النوافل كما يصلون فيها التراويح جماعة وكذلك صلاة العيدين وصلاة الكسوف، وقد يصلون فيها صلاة الاستسقاء، فهي في الأصل محل لأداء العبادات الجماعية، وإذا وجد في المسجد إمام كفء ولديه اطّلاع على قضايا الناس الدينية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فإنه سيكون قطب جماعة المسجد وأهل الحي أو الدشرة ومحور كافة شؤونهم، يلتفون حوله ويتعلمون العلم على يديه ويسارعون إلى سماع خطبه ومحاضراته ويسألونه عما أشكل عليهم ويستفتونه في الحلال والحرام، ويلجأون إليه للصلح بين المتخاصمين منهم، كما يقصدونه لإفراغ ما في قلوبهم من هموم وأوجاع. لكن غالبية مساجدنا تفتقر إلى هذا النوع من الأئمة بسبب ظروف متعلقة أصلا بالمستوى العلمي للأئمة من جهة، وكذا الوضع المزري الذي يعيشه الأئمة أنفسهم من جهة أخرى، وهو ما ساهم في إبعاد المساجد عن دورها الاجتماعي واقتصار مهمتها على إقامة الصلوات وإصدار بعض الفتاوى المستوردة في كثير من الأحيان من المشرق، فالإمام الذي لا يتعدى مرتبه 18 ألف دينار ولا يملك المستوى الجامعي المؤهل ولا يستطيع حتى شراء الكتب أو الاستفادة من خدمات الإنترنت بحكم مرتبه لا يستطيع التفرغ لتكوين نفسه أو المساهمة في حل مشاكل الناس والاستماع إلى انشغالاتهم، ووجود أكثر من 16 ألف مسجد في الجزائر عجزت عن التخفيف من طوفان الانحراف وسيل المشاكل التي يتخبط فيها الناس، فبعض المنتحرين بسبب الإحباط والفراغ الذي يعايشونه هم من المصلين، وكم من رواد المساجد الذين تحولوا إلى قتلة جراء فتاوى ضالة لم تجد من يتصدى لها بالتصحيح والتعقيب، والغريب في الأمر أن الأئمة أنفسهم باتوا متابعين قضائيا بسبب إقحامهم في قانون العقوبات لسنة 2001، وهكذا مُنع الخطيب من انتقاد المفسدين، ومما زاد الطين بلة هو وجود بعض المنتسبين لأسلاك معلمي القرآن وقيّمين على المساجد في جرائم التحرش الجنسي والاعتداء على الأطفال، وهو ما عمق الفجوة بين المواطن والمسجد الذي وجهت إليه أصبع الاتهام في العشرية السوداء، فزاد تخوف الناس وانفصالهم عنه، وبدل المكوث في المسجد للذكر والتفقه صار الشعار هو "صلي وارفد سباطك". ومع انتشار الفكر السلفي الانعزالي في الكثير من المساجد، لم يعُد الحديث عن انتشار البطالة وما تخلفه من تفش لظاهرتي الانتحار والحرڤة من الأولويات، كما اضطر المصلون أحيانا إلى رفع شكاوى بأئمة مساجدهم، ووصل بهم الحد إلى إمضاء عرائض راسلوا بها وزارة الشؤون الدينية متهمين إمامهم بالسرقة أو كثرة الغيابات، وكم هي الحروب الباردة التي تشتعل بين لجان المساجد والأئمة فيما يخص التداخل في الصلاحيات، مما يبعد المساجد أكثر عن دورها الاجتماعي الذي لم توضع إلا لأجله. قالوا إنها خطب روتينية خالية من أساليب الإقناع مصلون يبحثون عن الخُطب القصيرة ويحولون صلاة الجمعة إلى "إثبات للحضور" أجمع معظم الذين استطلعنا آراءهم حول دور المساجد في الجزائر، أن خطب الأئمة تتسم غالبا بالنمطية والسطحية والتكرار المملّ للمواضيع التي عادة ما تكون كلاسيكية ولا تواكب أحداث الساعة والمستجدات المحلية والعالمية، وأكد بعضهم أنها خالية من أساليب الإقناع والتشويق والجذب، والنتيجة: استماع بملل أو اختيار إمام يُنهي خطبته بسرعة أو تفادي حضور الخطبة بالمرّة والاكتفاء بركعتي الجمعة. لا اختلاف على أنّ الخطب في المساجد أضحت محل جدل كبير بين منتقد ومتذمر ومتحفظ، إلى درجة أن الكثير من المصلين، وتفاديا للملل أو المعالجة الكلاسيكية لها، أضحوا يختارون مساجد لا يُثقل فيها الإمام على المصلين ويُنهي خطبته في مدة قياسية، فيظن أنه أصاب أجر حضور الخطبة وأجر أداء صلاة الجمعة بأقل "ضرر" ممكن!! وفي هذا السياق، يقول عمي محمد "لم تعد خطب الجمعة تستهويني كثيرا في كلا مسجدي الحيّ، لذلك تجدني أقصد المسجد الذي ينهي فيه الإمام خطبته بسرعة، فيكون الملل أقل". وبالمقابل، هناك من يستغني عن الخطبة تماما ويحضر فقط صلاة الجمعة جماعة حتى لا يفوته الفرض بحسب اعتقاده. السيد أحمد، كهل في الخمسين، أحد هؤلاء، وعن سبب ذلك أوضح "لم نعد نستفيد من الخطب التي يلقونها في المساجد، فمعظمها تتناول مواضيع كلاسيكية ومتكررة أصبحنا نحفظها، وبعضها الآخر خطب باردة أو لا تواكب مستجدات المجتمع ومتطلبات المواطن والمسلم، فقررت منذ سنوات أن أقاطعها وأكتفي فقط بالصلاة جماعة حتى لا تفوتني الجمعة.. والمؤسف أن هذا حال العديد من المصلين.." الرأي نفسه يشاطره بلال، 32 سنة، والذي وصف الخطاب المسجدي في الجزائر بالبارد والكلاسيكي "منذ سنوات وأنا أرتاد المساجد وأحضر صلاة الجمعة بانتظام، لكن النقطة المشتركة بين العديد من أئمة المساجد أنهم يميلون إلى خطابات جافة ومتكررة، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب". أما فتحي، شاب في الثلاثين، فهو يحرص على أداء الصلوات في المسجد، خاصة صلاة الجمعة والأعياد، فأعرب عن أسفه لنوعية الخطابات التي يلقيها بعض الأئمة والتي وصفها بالتقليدية والنمطية التي تخلو غالبا من أسلوب الإقناع "أصبحنا نفتقد للخطاب الديني المقنع، وكل ما أصبحنا نسمعه من خطب خصوصا في صلاة الجمعة تتناول ظواهر اجتماعية عادية يعرفها كل الناس بطريقة سطحية خالية في معظم الأحيان من الأدلة المستوحاة من القرآن والسنة.. وكأن شخصا عاديا يتكلم وليس إماما من واجبه تنوير المصلين بأمور دينهم ودنياهم". المتحدث أضاف أنه بحكم عمله يوم الجمعة في مكان بعيد عن مقر سكناه بعين النعجة، فإنه يتحيّن الفرص لأداء صلاة الجمعة في حيّه "تعوّدت على إمام مسجد حيّنا الذي أجده أفضل من أئمة كُثر سواء من حيث نوعية الخطب التي يلقيها أو ثقافته أو بلاغته أو طريقة إقناعه، حيث أجد نفسي أخرج بمعلومات وتوضيحات عديدة في الفقه أو في أمور الدنيا كنت أجهلها من قبل، وهو ما لم أجده عند الكثير من أئمة المساجد الأخرى". عبد القادر حموية (إمام مسجد النادي ببلكور): "انتداب الأئمة في غير بيئتهم جعل بعضهم عاجزا عن إدراك الظواهر الاجتماعية" بداية ما هو تعليقكم على واقع الخطاب الديني الاجتماعي في مساجدنا؟ - الخطاب الديني الاجتماعي حاليا متذبذب بشكل عام ولم يرق إلى المستوى المطلوب، فهناك بعض الأئمة يؤدي ما عليه في حين أن البعض الآخر تحسه بعيدا تماما عن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، وقد لا يتطرق إلى أهم الأمور التي تشغل بال المواطن، فدور الإمام اجتماعي أكثر منه دورا توعويا. ما هي الأسباب التي غيّبت الخطاب الديني الاجتماعي؟ - الأمر قد يرجع إلى اعتبارين أساسيين وهما الاعتبار التاريخي والاعتبار التكويني، فالأول يتعلق بالأزمة الأمنية التي مرت بها الجزائر خلال العشرية السوداء حيث كانت المساجد تعتمد على الأئمة المتطوعين بشكل أكبر، لكن بعدها انتهت تلك الحقبة التي نحن بصدد معايشة آخر آثارها على اعتبار أننا في مرحلة انتقالية وتحولت رؤية الإدارة إلى ضرورة تطوير المساجد وترقية أداء الأئمة. أمّا الثاني وهو الاعتبار التكويني فيتعلق بمستوى الأئمة الذي يحتاج إلى تطوير ومتابعة، فالتكوين الذي يتلقاه الإمام لا يتعدى السنتين، وهي مدة غير كافية بالنظر إلى التطورات الحاصلة والتي يجب أن يسايرها الإمام باعتباره طرفا فاعلا في المجتمع، لذا يفترض إقرار تكوين متواصل بدل اعتماد بعض الأئمة الحريصين على مواكبة بيئتهم الاجتماعية والمؤدين لرسالتهم الاجتماعية على تكوينهم العصامي، ثم إن بُعد الإمام عن محيطه يعود إلى استغراق هذا الأخير جلّ وقته في بطون الكتب، وهو ما جعله ينعزل عن المجتمع سواء من حيث اللغة التي يخاطبهم بها أو من حيث الأفكار التي يحملها. وهناك مسألة أخرى ربما ساهمت إلى حد ما في هذا التذبذب أو الغياب ببعض المناطق وهي انتداب الإمام من منطقة تختلف عن المنطقة التي يتواجد فيها ثقافيا واجتماعيا، حيث يجعله ذلك في عزلة يعجز معها عن مواكبة وإدراك واستيعاب الظواهر الاجتماعية والوقوف عليها، فليس كل مجتمع يفتح لك أبوابه ويتقبل منك مناقشة انشغالاته، سيما إن لم تكن من أهل المنطقة ولم تبذل جهودا للاندماج مع أهلها ومشاكلهم والتطرق إليها من على المنابر. كيف يتم تحديد الخطب، وهل للوزارة الوصية دخل في الموضوع؟ - لم يسبق للإدارة أن راسلت الإمام لإجباره على تناول خطبة معينة ما عدا ما تعلّق ببعض المناسبات الخاصة والهامة أو الظروف التي تمر بها البلاد على غرار مشروع المصالحة الوطنية الذي يعد مشروع أمة وهو لا يعدو أن مجرد توجيه عام في صيغة "يا حبذا" غير أن الإمام الكفء لا ينتظر الإدارة لتملي عليه ما يفعل، بل يجب أن يكون في قلب الأحداث ويحث على الخير أينما كان ويحسس بالمخاطر التي تتربص بالبلاد والعباد والأمة جمعاء، ويتطرق إلى القضايا التي تمس صميم الاستقرار الاجتماعي، مثلا الجدار الفولاذي الذي أقدمت على بنائه مصر على اعتبار أن الإنسان أو المصلي متأثرا بوسائل الإعلام دون تجريح، لذا فإن من واجب الإمام التطرق إليها دون تجريح أو شتم، فهذا النوع من الأحداث يفرض نفسه على الشعوب. ما هو تصوركم للحلول الرامية للارتقاء بالخطاب الديني الاجتماعي؟ - الحلول الأساسية تكمن في التخلص من كل تلك النقائص بدءا بتكثيف التكوينات الخاصة بالإمام وحرص هذا الأخير على مواكبة البيئة الاجتماعية التي يحيا بها، بالإضافة إلى انتداب أئمة ضمن نفس البيئة التي نشؤوا فيها أو قريبة منها من أجل إيجاد تقارب في التصورات والانشغالات. يحيى دوري (مدير التوجيه الديني والنشاط المسجدي بالوزارة): "الوزارة اعتمدت سياسة التكوين لتحسين خطاب الأئمة" صرّح المدير الفرعي للتوجيه الديني والنشاط المسجدي بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف السيد يحيى دوري أن الخطاب المسجدي المنتهج حاليا بالمساجد متطوّر ومساير لمجريات الأحداث، وأن الوزارة تتبنى تكوينا دوريا للأئمة لتحسين الخطاب عبر كل المنابر. وأكد دوري في اتصال هاتفي مع "الشروق اليومي" أن الخطاب المسجدي كان مواكبا للعديد من الظواهر الاجتماعية التي عرفها مجتمعنا مؤخرا "فقد عرضت بالعديد من مساجد الوطن خطب حول ظاهرة الحرڤة والنظرة الشرعية حولها، كما قادت المساجد حملة تحسيسية للتبرع بالدم في شهر رمضان المنصرم لما انصرف الناس عن التبرع بدمهم، ونسّقنا كوزارة مع مديريات الصحة، وتمت العملية في ساحات المساجد الكيرى عبر الوطن، وشرع فيها الأئمة أولا كنماذج محفزة على التبرع". وقال دوري إن الكثير من الظواهر الاجتماعية يتم التعرض لها من خلال الخطاب المسجدي، مستثنيا البعض منها بالقول "إذا كان من يدخل المسجد ولا يسمح الخطاب حول الموضوع الذي يختلج في نفسه" مصنّفا ذلك في خانة الحالات الفردية التي لا يمكن للخطاب المسجدي أن يغطيها مهما كان متواصلا مع حالات المجتمع. وأما عن بعض الخطابات التي ما تزال إلى يومنا هذا في المساجد والتي ألفناها أبا عن جد والتي توحي بأن الخطاب المسجدي متكرر ولا يأتي بجديد، فقد ردّ ممثل الوزارة "هذه قضايا عقائدية أخلاقية دينية وثوابت يجب التذكير بها باستمرار، وهناك متغيرات يجب أن نواكب بها العصر ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستغني عن هذا النوع من الخطاب حتى ولو مكان متكررا". وعن تحكم الوزارة في الخطب عبر المساجد وتوجيهها، نفى ممثلها ذلك قائلا "في كل ولاية يوجد مجلس علمي يضم خيرة الأئمة على مستوى الولاية، يوجّه تحت إشراف مدير الشؤون الدينية فتتم دراسة الجوانب العلمية لمختلف القضايا التي يمكن التطرق إليها من خلال الخطب عبر المنابر"، مضيفا أنه "يتم اقتراح مواضيع دورية كل ثلاثي ليتناولها الأئمة في خطب وتقترح المحاور ويفتح الباب لاجتهادات الأئمة لتكييفها حسب سكان المنطقة التي يعيشون فيها". كما نفى دوري أن تحظر الوزارة على الأئمة مواضيع بعينها "فالإمام ملزم بما يفرضه عليه الشرع من قرآن كريم وسنة نبوية شريفة، وعليه أن يتناول المواضيع دون أن يحدث هزّة اجتماعية، فهو تماما كالطبيب يصف لمريضه الدواء المناسب والجرعة الكافية للعلاج".