لا تزال أحداث الخليج تقلي بظلالها وضلالها على الواقع العربي البائس، وعلى دول المنطقة بأسرها، فبعد الإعلان بمقاطعة دولة قطر، ها هي مبررات الموقف تأتي تباعا، دولة قطر راعية للإرهاب والإرهابيين، ثم كانت قائمة الإرهابيين الذين تجاوزا التسعين، واستدعى الفريقان –قطر من جهة، والسعودية والإماراتوالبحرين من جهة اخرى- كل ما بينهما من خلافات في التاريخ، مكالمات هاتفية بين أطراف، يبدو أنها مسجلة بأجهزة تصنت، ومقتطفات فيديو أيضا يبدو انها ليست بعيدة عن أجهزة التجسس...، ولكن العجيب في هذه المعركة أن كل عرض من تهم متبادلة، لم يكن مستهجنا من قبل؛ بل إن دول الخليج كلها مشتركة فيه، وكان يعد من فضائلها. ولذلك أنا مضطر إلى عدم تصديق هذه الزوبعة، او في أسوإ الأحوال أعتبرها نزوة انفعالية فرضتها بعض الأمور الآنية التي لا تتجاوز سحابة الصيف، لا سيما إذا اعتبرنا أن البب الحقيقي هو ما تناقلته وسائل الإعلام من أن هناك خلاف قطري سعودي إماراتي حول المبلغ الذي وعد به ترامب، على تتقاسمه الدول الثلاث، وتراجعت عنه قطر فامتنعت عن دفع حصتها.. أو أن هناك خلاف بين قطر والسعودية حول الموقف من قضايا القدس وترسيم تهويدها. وما يدعوني إلى هذا المعتقد أن الخليج العربي هو المنطقة العربية الوحيدة المتجانسة تجانسا كليا، بما تملك من مقومات البقاء والمقاومة والقدرة على التفاعل مع الواقع، وبما هي عليه من وحدة ثقافية واجتماعية وسياسية؛ بل ووحدة تعاملاتها تجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبما لها من ميزات مادية هامة، بترول وغاز وذهب…إلخ، ولكن يبدو أن العجز الذاتي لقيادات هذا الخليج، ومكر الإدارة الأمريكية، وخبث الإستراتيجية الدولية، أقوى وأكثر فاعلية من مجرد التجانس والتناغم بين الشعوب والأنظمة فيما بينها، فكان ما كان يوم 5 جوان 2017، من دول الخليج الثلاث: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدةوالبحرين، من الإعلان عن مقاطعة دولة قطر الخليجية أيضا. ومن آيات فرص نجاح هذه المنطقة، أنها غير قابلة للتفتيت والتمزيق كما مزق غيرها من دول العالم العربي؛ بل إن حكامها لا يستطيعون تمزيقها لما بين شعوب هذه المنطقة من روابط رحم وعلاقات ومصالح، قد تختلف دول هذه المنطقة وتتنافس، ولكن لا تصل إلى حد القطيعة كما هو ظاهر هذه المفاجأة الصادمة هذه المرة، بالإعلان عن قطع العلاقات بين هذه الدول…، وإذا وقع ذلك لا قدر الله، فإن الأمر يحتاج إلى البحث في العنصر الجديد الدخيل على المعادلة، وهو عنصر غير طبيعي بلا شك ولا ريب. قد يكون هذا العنصر الجديد هو الجيل الجديد الذي نشأ خلال هذه السنوات التي تمثل ذهاب جيل، امثال الملك فهد وعبد الله، والشيخ زايد وحمد، ومجيء جيل آخر من أبنائهم الذين لا علاقة له بالماضي والأعراف التي بني عليها الخليج العربي، وما يؤيد هذا تكاثر جيل العالم الإفتراضي الذي يمثل سواد المجتمع الخليجي، والقيادات الشابة بالإماراتوقطر وقريبا السعودية التي يقال أن هناك تحضيرات لابن سلمان لولاية العهد، ولكن طبيعة الخليج القبلية يصعب تجاوز تعقيداتها بمجرد وصول الشباب إلى مواقع المسؤولية، ويبقى الأمر مفتوح على احتمالات يصعب القطع بها بشيء. إن دول الخليج الست وهي: المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية والمتحدة، والكويت، والبحرين وسلطة عمان، وقطر، يربط بينها مساحة جغرافية واحدة محاطة بخليج العرب وبحر العرب والبحر الأحمر، وكأنها دولة واحدة، ولو أحصينا أسر مواطني هذه الدول الست، لوجدناها بطونا واحدة موزعة عليها، وقد قال لي أحد الخليجيين سنة 1997 في الكويت إن عائلة العتيبي مثلا تعدادها بالملايين موزعة بين السعودية والكويت، ولا أستبعد أن يكون منها مواطنين في الإماراتوالبحرين وعُمان وقطر، ودين هذه الدول واحد هو الإسلام بمذاهبه المشهورة، السنة والشيعة والإباضية، وعوائدهم وأعرافهم واحدة، ونظام الحكم فيهم واحد ملكي وراثي، وأيديولوجيتهم واحدة وهي الليبرالية، ومواردهم الاقتصادية واحدة باستثناء السعودية وهي الأكبر من بينهم، فقد اتجهت منذ سنوات نحو الاستثمار في الفلاحة، مستثمرة في اليد العاملة المهاجرة إليها من الشاميين والعراقيين واليمنيين. لهذه الأسباب وهي العوامل الأهم المساعدة على الاستقرار. لقد نجح مجلس التعاون الخليجي الذي أسس في منتصف سنة 1981، في الوقت الذي لم تنجح فيه الكثير من مشاريع الوحدة والتقارب بين دول أخرى من العالم العربي، مثل مشروع الوحدة المصرية السورية، ومشاريع القذافي المتنوعة والمتعددة، والسوق العربية المشتركة، واتحاد المغرب العربي…إلخ. لقد توصل مجلس التعاون الخليجي في سنة 1997، إلى الإعلان والشروع في توحيد العملة والبطاقة الخليجية الممغنطة، وربما بدأوا يفكرون في الاندماج الإداري والسياسي، شعورا من قيادات المجلس يومها بالتحولات الدولية الهادفة إلى تقسيم الجسم العربي والإسلامي، ولكن القصور السياسي للقيادات وشعورهم وتفاعلهم مع الضغط الأمريكي على حساب الحاجة الوطنية والإقليمية حال دون التقدم وتطوير الأفكار. وهذه الوحد، الثقافية، الاجتماعية، الجغرافية، لم تمنع دول الخليج من الاختلاف والتنافس فيما بينها، فقد كان التنافس واضحا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين الكويت والمملكة العربية السعودية، حيث كانت الكويت مثالا في الممارسة السياسية والإعلامية، بحيث كانت على صغرها وصغر حجمها نموذجا عربيا في الفعل الثقافي والممارسة السياسية، مثلما هو الحال اليوم في قطر، والمتابع للشأن الثقافي يدرك حجم ما كانت ولا تزال تقدمه مجلة العربي للعالم، والمتابع للشأن السياسي يلاحظ مستوى الممارسة السياسية في مجلس الأمة وفي النقاش العام وذلك منذ السبعينيات، رغم أن الكويت لم يكن بها يومها أحزاب، وإنما كان هناك تيارات سياسية متعددة…، كما كان هناك تنافس بين قطر وغيرها من دول الخليج في تصدر المشهد السياسي داخل المنطقة وخارجها خلال تسعينيات القرن الماضي، أما الإماراتوالبحرين وسلطنة عمان في تقديري، لم تكن هذه الدول الثلاث تهتم بالتنافس لما لها من خصوصيات، أما الإمارات فلم يكن يعنيها التنافس أصلا طيلة حكم الشيخ زايد، حيث كان الرجل منشغلا ببناء بلده وتنميتها ماليا واقتصاديا، وأما البحرينوعمان فَلِمَا لهما من خصوصيات مذهبية لا تسمح لهما بولوج التنافس، بقدر ما يهتمان بالحفاظ على التوازن الداخلي والانسجام بين أبناء المنطقة. وتلك المظاهر الوحدوية كانت ظاهرة للعالم في مواقف دول الخليج كلها، في العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي دعم القضية الفلسطينية، وفي إيواء المغضوب عليهم من الشخصيات العلمية والدعوية، ومنهم التسعون المعلن عنهم كإرهابيين في اللائحة الشعودية الإماراتية، وفي مواقفهم من قضايا الشرق الأوسط عموما…، وفي كل هذه المحطات لم يُرَ على واحدة من دول الخليج الخروج عن الرؤية الواحدة، إلا في هذا المشهد الغريب المريب الذي لم تعرفه منطقة الخليج في تاريخها الطويل، ولذلك مقدمات سابقة بطبيعة الحال، من ورائها نَزْغُ الشيطان الأمريكي بينهم، وفق تسربت للقوم في ساحات التنافس الطبيعي، تحولت بسببه التنافس على مر الأيام إلى أخطاء أو خطايا، من قبل حكام المنطقة. ومثلما اضطررت إلى تقديم هذه القراءة من خارج ظاهر الأحداث والأخبار، أنا مضطر الآن لإنهاء الموضوع بالقول إن الغاية الأفضل لخصوم العرب والمسلمين تسويد وتدمير هذه التجربة على ما فيها من السلبيات.