لا حديث في عاصمة الأوراس باتنة، إلا عن قبيلة زاندار القادمة بكل عناصرها من شيوخ ونساء ورضّع من قلب النيجر، حيث بنت لنفسها قرية في محجرة بجنوبباتنة، حيث مخاطر الحجارة من أمامها والمزابل من خلفها، وسط علامات استفهام كثيرة. على بعد مائة متر عن محطة المسافرين "أذرار الهارة" بعاصمة الأوراس، وداخل محجرة قديمة قرب مزبلة عمومية جنوب مدينة باتنة، ينتصب اليوم غيتو للاجئين الأفارقة الذين يعيشون في حفرة كبيرة، لا تكاد ترى للرائي العابر لمشارف المدينة، رغم وقوعها على بعد عشرات الأمتار من الطريق الوطني الثالث، كما لو أن هؤلاء اللاجئين الأفارقة الذين نزحوا إلى المدينة على فترات يريدون أن يعيشوا مأساة الهجرة والاغتراب والبؤس لوحدهم ودونما إزعاج السكان والسلطات.
حي إفريقي في قلب محجرة وقرب مزبلة عمومية عندما وصلنا رفقة كوكبة من الإعلاميين وأعضاء جمعية شباب أصدقاء بلدية باتنة إلى المعسكر الإفريقي، تتبعا لعشرات العائدين من رحلة التسول اليومية وبيع بعض الأغراض الصغيرة، وجدنا عددا من النسوة يحملن قناني ودلاء الماء المعمر من المسجد، الواقع أسفل الحي ومن بعض بيوت المحسنين الواقعة على مشارف الطريق، وغير بعيد عنهن رجال صاعدون ونازلون على الممر حاملين بعض الأغراض والحقائب استعدادا لموسم الهجرة إلى الجنوب أو السفر شمالا بحثا عن فرص أحسن، أو عذابات جديدة للإنسان الإفريقي القديم، وفي مسلك تنتشر فيه الأوساخ والنفايات الهامدة أطفال يمارسون ببراءة لعبة خلط بقايا طلاء في دلاء رماها مارون من هنا. بين الفينة والأخرى، كنا نسمع اللهجة السواحلية كما موسيقى افريقية، تنبعث من مدخل مسلك، يشبه الباب الطبيعي الذي يتفرع عنه شارعان ببيوت مكعبة مصنوعة من الكارتون المقوى والبلاستيك وبقايا أبواب وأخشاب، ولأن الدخول يتطلب موافقة من السكان فقد أفهمنا بعض الشبان، أننا نريد أن نتجول بين شوارع المعسكر قصد عرض صورة صحفية حقيقية تنقل المعاناة الإنسانية لما يزيد عن 900 شخص وعشرات العائلات، التي توقف بها المصير المؤقت في محجرة، ترحي الحجر، وها هي اليوم تحتضن البشر، بحثنا عن منسق أو زعيم يسهل لنا المأمورية فدلنا أحدهم على "بابانا"، فكان كهلا لطيفا يرتدي قميصا أزرق ولا يتقن سوى الإنجليزية، التي سهلت تفاهمنا حول الهدف، فيما التف عشرات الأطفال مرددين عبارات السلام بالعربية، أما إحداهن فصاحت اسمي عائشة والأخرى "فاسيما" وتعني فاطمة، وبدا أن اللاجئين المسالمين والمتدينين بالفطرة، كانوا أكثر سرورا بقدومنا من صدمتنا لبؤسهم المنتصب في هذه القرية الصغيرة.
أفواج حراسة لصد لصوص الداخل ومنحرفي الخارج إذا كانت التقديرات الأمنية تشير أن المقيمين هنا لا يكاد يفوق 350 نفر، فإن الواقع يؤكد أن العدد هو زهاء الألف بالنظر للموجات المتسارعة ولعدم استقرار الرقم المتغير باستمرار، وللعيش هنا أقام هؤلاء شبه قرية أو غيتو من البلاستيك والكارتون بطريقة تشبه المدن القديمة، بيوت متكاتفة وشوارع تدرك وأنت تتجول داخلها أنك في غاو أو كيدال، ومحلات تبيع كل شيء تقريبا، بقالات ومطاعم لبيع الأرز والملوخية والأكلات التقليدية، وكوارع الدجاج والفطائر وسط دخان ينبعث من كل ركن وزاوية تحت مواقد تفور تحت الخشب. ثم أنك تسمع هدير محرك، فيجيبك رشيد فال وهو لاجئ من مالي عمره 27 سنة ويتقن اللهجة الجزائرية اتقانا كاملا "هذا مولد كهربائي اشتريناه عن طريق التبرعات لشحن بطاريات الهواتف النقالة، داخل محل لإصلاحها وتحميلها، ذلك أن الهاتف النقال هو عصب الحياة هنا للاتصال بالعائلات المنتشرة جنوب البلاد أو في البلد الأم، كما يسهل تبادل المعلومات بين هؤلاء وحتى تأمين الحي من لصوص الداخل والخارج، حيث يتم تنظيم الحراسة ليلا منعا لوقوع سرقات بين اللاجئين أنفسهم أو من بعض المنحرفين الذين يغيرون على البيوت بين الفينة والأخرى بقارورات الغاز المدمع كما حدث ذات نهار، كما يسهم الهاتف في إخطار مصالح الشرطة والحماية المدنية في حالة حدوث طارئ مثل حادثة احتراق الزبالة العمومية والتي كادت تخنق أنفاس اللاجئين وتحرق منازلهم قبل أيام لولا تدخل مصالح الإطفاء".
البؤس أفضل من الموت جوعا أو في الحروب ! جل النازحين قدموا من منطقة أو قبيلة زندار الواقعة في دولة النيجر بطريقة تعيد للأذهان موجات هجرة سابقة لم تنقطع منذ قرون، بين جنوب القارة وشمالها، وقصة حي الزنوج بالفزازنة قرب حي الزمالة والذي شكل جزءا من تاريخ مدينة باتنة القديم والحديث ليس ببعيد عن الأذهان، بعضهم شبان تركوا زوجاتهم هناك، مثل أحدهم قال لنا أنه في فاقة من أمره لتدبر مبلغ يكفي لعودته لموطنه بغاو بمالي لتفقد زوجته أو أبنائه رغم مرضه بداء البواسير المزعج، وغير بعيد عنه بقال يستعرض بحركات بهلوانية افريقية البيض والعصير صائحا في وجه المارة بحثا عن شار. تطل برأسك داخل مهجع بلاستيكي فترى فيه شيئا يشبه التراب متحركا في الظلمة وسط العطن عدا بؤرة ضوء تنبعث من مصباح رأسي أو مصباح كهربائي موجه، فتتذكر الوصف الذي اختاره نجيب محفوظ للمعلم زيطة صانع العاهات المقيم في فرن قديم في ملحمة زقاق المدق الشهيرة، فيجيبك الشيء المتحرك "أنه صانع فطائر" مستعرضا المقلاة الكبيرة والملعقة. وتتوغل داخل القرية لتصادف وسطها أشخاصا متكئين على الأرض وفوق التراب مثل شيخ جمده الزمان في موضعه فتتساءل كيف وصل هذا إلى هنا شأنه شأن شخص آخر بلا رجل، ويدرك بابانا ما يدور في الذهن فيجيب بغير تحفظ "النازحون إلى هنا إما فارون من الجوع والفقر والجفاف وانعدام الرزق أو من الحروب المتحركة كالرمل جنوب الصحراء، رغم ما يتبدى من بؤس فإنه لا شيء ينقص للحياة هنا وهو أفضل بكثير من جحيم العيش والحروب هناك".
مسجدان.. وصيدلية! فجأة يؤذن مؤذن للصلاة فتتقدم لتعثر على مصلى صغير جهزت أرضيته بستائر وزرابي تقليدية وقربهم أناس يتوضأون للصلاة وامرأة ترفع كفيها ضارعة للمولى ولا تفهم إن كانت تحمده على العيش هنا أو تطلب منه الفرج القريب، ورغم ما يتبادر لذهنك من تساؤلات مؤرقة فإن هؤلاء يعيشون هنا حياة مختلطة بالتراب وحمالة مخاطر صحية جمة بيد أنهم راضون بقدرهم وأنشأوا لهم حياة جماعية واقتصاد تجاري في قلب الفاقة، فهناك مصلى على الهواء الطلق يقيم فيه العشرات صلاة المغرب جماعة، ومحل للحلاقة يجز فيه شيخ شعر رؤوس الزبائن تحت ضوء مصباح رأسي. وفي زقاق آخر، محل صيدلية يبيع فيها صاحبه بعض الأدوية والمسكنات من نوع الباراسيتامول والرومافيد والدوليبران، بقربه طاهي جوانح الدجاج وكوارع البقر بثمن 100 دج للصحن وبجواره مطعم يقوم فيه صاحبه ببيع أطباق الأرز فيضطرك أن تقول له حينما يخبرك أن ثمن الطبق 50 دينارا جزائريا "هذا أرخص من ثمن أطباق مطاعم المدينة" فتدوي الضحكات وسط حركة دبيب وصخب الأطفال الذين يرقصون ويغنون وكأنهم في حفلة.
تبرعات من السكان وألبسة وأدوية من الجمعيات يشرح لنا أحدهم يوميات القرية بقوله "في الغالب يخرج الرجال والنساء نهارا لجمع الصدقات لانعدام العمل، فقد حاول بعضنا العمل فلم يجد وفي بعض الحالات يأكل مشغلونا حقوقنا، ومساء يعود هؤلاء محملين ببعض الأموال والمواد الضرورية، أما أغلب ما يجمع فيحول لأهالينا هناك، حاولنا أن ننظم أنفسنا، فهناك شبه مجلس للأعيان أو رؤساء جمعية من كبار السن والعقلاء يحلون الخلافات والمشكلات الطارئة بين أفراد الجمهرة ويضمنون أسس العيش المشترك، والحمد لله لم يحدث أن سجلنا جريمة هنا رغم سنوات من الإقامة، لم نسجل أيضا أي وفاة طبيعية هناك، وحتما هناك مواليد ولدوا هنا وتم توليدهم في عيادة الأمومة التي ترحب بنا ويعاملنا الناس بكل احترام، كما أن الجمعيات والمحسنين من السكان لا ينقطعون عن القدوم إلينا بين الفينة والأخرى، محملين بالطعام والفرش والألبسة. رغم كل ما رأيناه، لا يطلب هؤلاء سوى المساعدة الفورية على عدة صعد سواء ما تعلق بالإقامة في أمكنة لائقة أو بالصحة، حيث يتم استهلاك أطعمة المحلات في مكان تنعدم فيه شروط الصحة أصلا ناهيك عن ارتفاع درجة الحرارة وتأثيرها على بعض المستهلكات غير المحفوظة في درجة برودة محددة، كما أنه لا وجود لمراحيض سوى ما يؤتى من قضاء الحاجة على مشارف القرية وخلف الكثبان المحيطة بها في مشاهد قد تتسبب في كوارث صحية تهدد حياتهم حتى وإن كانت مجرد حياة عبور أو لجوء قد يزول أو قد يطول!