في التعليقات الإعلامية والفايسبوكية على وفاة رضا مالك، رحمه الله الذي وسعت رحمته كل شيء، لفت انتباهي في هذه التعليقات، التعامل مع الحدث، وكأنه تصفية حسابات، وليست تعليقات على أحداث ووقائع وما يحيط بها أمور، فتحول النقاش، من نقاش لأراء ومواقف رجل من أحداث، إلى نقاشات وأراء أناس من بعضهم البعض، وكان القوم اغتنموا فرصة موت الرجل، ليسجلوا مواقفهم من بعض البعض، كما هو حال حضور الكثير من الحاضرين من الرسميين في الجنازة. في حين أن وفاة شخصية في مستوى رضا مالك، تفرض على المعلق الوقوف عند الكثير من الأمور التي ساهم فيها، والتي صنعها أو التي التحق بها، سواء كان ذلك في أثناء الثورة أو بعدها، ابتداء من سنة 1955 إلى أن أقعده المرض وتوفاه الله بعد ذلك عن عمر بلغ السادسة الثمانين، وبقطع النظر عما نجح فيه ورسب..، وفي كل ذلك لا معنى لقولنا "اذكروا محاسن موتاكم"، كما جاء على لسان البعض، ولا معنى أيضا "لقولنا اذكروا.... بما فيه ليحذره الناس"، كما قد يقول آخرون؛ لأن أهمية الموضوع ليست في الموقف من الرجل، بقدر ما هي مناقشة لأفكار وتسجيل الموقف منها سلبا وإيجابا، وليس من الضروري أن نعلن عن حبنا لرضا مالك أو بغضنا بعد ذلك. مات رضا مالك، والموت حق على كل حي، وليس لأحد من الناس الفرار منه صغيرا كان أو كبيرا، وعزيزا كان أو ذليلا، ومدللا كان أو حقيرا، وليس لأحد الاعتراض على مجيئه، وتوقيته وزمنه ومكانه، كما أن الموت لا شماتة فيه؛ لأنه نهاية كل حي، ومن يشمت اليوم سيشمت به غدا لا محالة. ولكن ما يبقى من الميت وما يخلده به الله هو الأقوال والأفعال ذات الثقل والأثر في حياة الناس؛ لأنها من الأمور التي تتناقلها الأجيال إلى بعضها البعض عبر طول التاريخ وعرضه، رواية ودراية، ومدحا وذما، وثناء وعتابا. وأنا هنا لا تهمني شخصية رضا مالك الإنسان الذي له وعليه، كما أشرت إلى ذلك، ولا تهمني خياراته السياسية واجتهاداته، وإنما يهمني الإطار الذي كان يعمل فيه وفي إطاره، وهو إطار الحركة الوطنية، ومن ثم فإن ما يستنتج من أراء ومواقف لرضا مالك خلال مساره السياسي، ينطبق على الكثير من أبناء الحركة الوطنية، ولكن ما يميزه عن الكثير منهم هو أنه يعتبر من الطبقة المنظرة للتيار الذي تزعمه هو أو تزعمه غيره. والحركة الوطنية في مسيرتها، انشطرت إلى شقين، شق التيار الوطني العروبي الإسلامي، وشق التيار الوطني التغريبي، وقد برز هذا الإنقسام بوضوح في أفكار جنينية لم يتبناها مناضلو الحركة الوطنية سومها، في محطتي: الأزمة البربرية 1948/1949 في حزب الشعب الجزائري، ومحطة معركة "الميم"، عند إنشاء الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، بعد اندلاع الثورة التحريرية؛ لأن الخط التغريبي يومها كانت تتبناه وتجهر به النخبة الاندماجية والحزب الشيوعي. وعدم تبني الحركة الوطنية للخيارات التغريبية أثناء وقبل الثورة، ليس لأنها خالية منها، وإنما لكون الثورة على الاستعمار تقتضي المفاصلة عن كل ما يقرب منه، والالتحام بكل ما يبعد عنه، فلم يكن الطرح التغريبي مرحبا به في ذلك الوقت؛ بل لم يعتمد كتيار معترف به إلا بعد الاستقلال في إطار الدولة الوطنية. ورضا مالك كان من بين عناصر هذه الفئة مناضلي هذه الحركة الوطنية، الذين تقلدوا مناصب عليا أثناء الثورة وبعد الاستقلال، وحققوا مكاسب هامة للمجتمع الجزائري في إطار ثورته المباركة، وفي إدارة تحرير جريدة المجاهد لسان حال الثورة، وموقعه في المفاوضات الجزائرية الفرنسية أثناء الثورة وإلى ما هنالك من الأعمال الخادمة للقضية بامتياز، ولكن كل ذلك كان في إطار المجموعة الوطنية الكبرى، وليس وفق الخصوصيات المذهبية والأيديولوجية، التي كان عليها رضا مالك وصحبه، وتمنينا لو أن رضا مالك بقي على ذلك في ممارسته السياسية، كما كان الكثير من رفاقه الذين يخالفونه التوجه الأديولوجي. على أن رضا مالك يومها كان يوظف قدراته وطاقاته الفكرية والثقافية في إطار خدمة المشترك الوطني أثناء الثورة، رغم تبنيه لأفكار أخرى لا تمثل التوجه الأصيل في الحركة الوطنية، ولكن بمجرد تحقق الاستقلال العسكري حتى عاد رضا مالك -ومن معه من التغريبيين في الحركة الوطنية-، مواقعه وخياراته الأصلية التي بقي لها وفيا، وقد أصدر مؤلفاته المعبر عن ذلك ومنها على وجه الخصوص كتابه "[حرب التحرير والثورة الديمقراطية] في حجم متوسط تجاوز عدد صفحاته ال 700 صفحة، وهو عبارة عن ندوات صحفية، ومحاضرات، ولقاءات، وحوارات قديمة لم يضف عليها شيئا جديدا، وإنما اكتفى بجمعها وتبويبها في ثمانية فصول وأربعة ملاحق، أثار خلالها عدة قضايا تاريخية وإعلامية وسياسية ودبلوماسية.. كان من أخطرها حديثه عن الإسلام والإرهاب، والإسلام والديمقراطية" [نقلا عن مقال أبو جرة سلطاني، الشروق]، جمع فيه مواقفه كلها قديمها وجديدها، وهي ذات جذر واحد مواقف مبدئية من الإسلام والإسلاميين، فهو لا يفرق بين إسلامي وإسلامي. قد يضطر سياسيا للتصريح بالثناء على بعيض الإسلاميين كما فعل في تصريحات منسوبة إليه حول الشيخ محفوظ نحناح، بكونه إسلاميا متفتحا، ولكنه في مقالاته التنظيرية التي يكتبها بعيدا عن المواقف السياسية الآنية، لا يتردد في الإعلان عن مبادئه الاستئصالية، التي تدين كل توجه إسلامي؛ لأنه يتبنى موقفا من الدين وليس من متدينين. رضا مالك إذن واحد من التيار الوطني التغريبي، ولم يكن في يوم من الأيام على غير هذا التوجه، وإنما ما وقع في مسار الرجل، أنه في أثناء الثورة كان المجال الجامع، هو مجال الثورة، الجميع ذاب فيه، ولكن ما إن تحقق الاستقلال العسكري، حتى ظهرت خصوصيات القوم، فكان ممن ظهر توجهه التغريبي رضا مالك؛ لأن المرحلة، مرحة ترتيب البيت، ولا بد لهذا البيت أن يبنى بصيغة عند هذا الطرف وبصيغة مخالفة عند ذاك...، وبداية التباين العملي كانت مع مؤتمر طرابلس، الذي تقرر فيه الخيار الاشتراكي، الذي كان يمثل "موضة" الفئة التغريبية يومها، رضا مالك، محمد حربي، مصطفى لشرف، الهاشمي شريف، بن زين... وغيرهم. وهنا أضطر لمخالفة الأخ عز الدين ميهوبي وزير الثقافة، عندما قال في كلمته التأبينية التي ألقاها في الجنازة "إنه عصي على التصنيف"؛ لأن الرجل مصنف وهو من صنف نفسه ابتداء، وقد ظهر هذا التصنيف الذي اتاره لنفسه في مواقف سياسية لاحقة كما سنرى ذلك فيما يأتي. يتبع