بقلم: عبد العزيز كحيل لا شكّ أن التاريخ سينصف الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله بعد أن ناله الظلم من أكثر من طرف في الجزائر التي أعاد إليها وجهها الإنساني خلال تولّيه منصب رئيس الجمهورية من 1979 إلى 1991 ولئن غفل التاريخ عن ذلك فإنّ الله سيدّخر له ثواب سعيه المشكور ويجزيه عنّا أحسن الجزاء. لقد اعتلى الرجل سدّة الحكم بعد وفاة بومدين فقام على مرّ عدّة أعوام بجملة من الأعمال الحميدة التي غيّرت حياة الجزائريين نحو الأفضل يأتي في مقدّمتها تقويض صرح الاستبداد والدكتاتورية الذي خنق البلاد منذ انقلاب 1965 ثمّ التأسيس لأوّل نظام ديمقراطي حقيقي في العالم العربي آنذاك أربك الأنظمة الشمولية وبعث الأمل في الشعوب وأهال التراب على ديمقراطية الواجهة والتعددية الزائفة والشعارات الجوفاء وكم خلق له ذلك التحوّل من أعداء في الداخل والخارج وفي مقدمتهم التيار التغريبي ألاستئصالي صاحب النفوذ القوي في دواليب الدولة والحضور الفاعل المتغطرس في الإعلام والاقتصاد والإدارة والذي اعتاد منذ الاستقلال التعامل الفوقي الأحادي مع الشعب وقضاياه وتميّز بمحاربة الإسلام والعربية محاربة منهجية لا هوادة فيها سواء تمّ ذلك بغطاء الاشتراكية أو الليبرالية وقد حاول الرئيس الشاذلي تصحيح الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها فعمد إلى عدّة إجراءات منها: - رفع الغبن تدريجيًّا عن الإسلاميين فأخرج أبرزَ زعمائهم _ الشيخ محفوظ نحناح _ من السجن وأسند وزارة الشؤون الدينية إلى أبناء جمعية العلماء بعد أن كانت بيد اليساريّين واستقدم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وقرّبه منه وأوكل إليه تسيير جامعة العلوم الإسلامية بقسنطينة وكان قد سرّع الانتهاء من أشغالها وافتتاحها بعد تماطل مقصود دام أكثر من عشر سنوات بل كادت الأقلية التغريبية المتنفّذة تُبطل المشروع نهائيًّا بعد أن نجحت في إلغاء معاهد التعليم الديني على يد بومدين في 1977 وبعد ذلك استقدم الشيخ يوسف القرضاوي. وكان من اللافت استقباله في إطار ملتقى دولي بالجزائر للأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام لجماعة الإخوان آنذاك - ومعه المستشار مأمون الهضيبي _ وقدّمه له الشيخ محمد الغزالي بهذه الصفة وهذا ما لم يكن أحد يتصوّر صدوره من أيّ زعيم عربي على الإطلاق. حقائق وتفاصيل - عادت الحياة تدريجيًّا إلى المساجد بعد سنوات من الموت المبرمج والتهميش المُمنهج حيث كانت لا تُفتح إلا ساعة من نهار وتقتصر فيها خطب الجمعة على أوراق مكتوبة نمطية تُرسَل كل أسبوع مباشرة من الوزارة وهي دروس تميت القلوب ولا تحييها يدور معظمها حول محور واحد هو أن الإسلام دين الاشتراكية وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أوّل اشتراكي في التاريخ !!! وويل ثم ويل لمن يتحلّقون في بيوت الله يتدارسون القرآن أو السنة فهم بالضرورة خارجون عن القانون ورجعيون يستحقّون السجن والإبعاد والحراسة المشدّدة وهو ما كان نصيب كثير من العلماء الأحرار أمثال الشيخ عبد اللطيف سلطاني وأحمد سحنون وغيرهما. - بدأ في إعادة الاعتبار للغة العربية في المناهج الدراسية والإدارة والمحيط وكان التعريب قبل ذلك مجرّد شعار سياسي فضفاض في الوقت الذي كانت تزداد فيه غربة العربية يوما بعد يوم ويٌمكّن لغلاة الفرنكوفونيّين في مفاصل الدولة وتكفي الإشارة إلى أن بومدين عيّن على رأس وزارة التربية في آخر حكومة له مصطفى لشرف وهو فرنكوفوني مجاهر ببغضه لكلّ ما هو عربي وإسلامي كان يُزمع صبغة المدرسة صبغة فرنسية غربية أكثر وضوحًا. - سحب البلاد شيئا فشيئا من أحضان الاتحاد السوفييتي والنظم الشيوعية وقرّبها من محيطها المغاربي والعربي والإسلامي ونوّع علاقات الجزائر الخارجية بعد أن كانت البلاد أشبه بجمهورية سوفييتية ويعود إليه الفضل في إنشاء اتحاد المغرب العربي رغم أنّ الأطراف المعروفة بولائها لفرنسا عملت المستحيل لإفشال المشروع بعد ذلك...ونجحت في مهمّتها وأخذت تبشّر بمشروع بديل هو اتحاد البحر المتوسط لأنه تحت إمرة فرنسا وبعضوية الكيان الصهيوني. - عمل منذ تنصيبه على التخفيف من معاناة الشعب المعيشية وقد كانت الحياة تتميّز بندرة مستديمة لمختلف مواد الحياة الضرورية كما كان الشأن في جميع الدول الشيوعية فأحسسنا آنذاك بالعودة إلى الحياة الطبيعية وأصبحت مقوّمات العيش في متناول أيدينا بعد أن عانى الشعب سنوات طويلة من شغف العيش والطوابير اليومية للحصول على السميد والسكر والزيت وحتى الخضر والفواكه المُنتَجَة محلّيًا. - كانت له الشجاعة الكافية لتغيير سياسة الثورة الزراعية التي خرّبت الفلاحة الجزائرية وأفسدت الأراضي ولوّثت الذهنيات وحوّلت الفلاحين إلى مجرّد أجراء يتقاضون مرتبات بعد أن تمّ تجميعهم في قرى نموذجية بعيدة عن أراضيهم تمامًا كما كان حاصلا في المعسكر الشيوعي بقيادة موسكو حاول الرئيس الشاذلي بن جديد إعادة الفلاحين إلى أراضيهم وإعادة الأراضي إلى أصحابها بعد موجة التأميمات التعسفية في مطلع السبعينيات فعل ذلك بعد أن تدهورت حالة الفلاحة وأصبحت الجزائر تعيش على الحبوب المستوردة بعد أن كانت تتمتّع بالاكتفاء الغذائي وتصدّر للدول الأجنبية وامتدّ التدهور إلى الخضر والفواكه والحليب والزبدة فعمّت المعاناة وتضرّرت الفئات الضعيفة في قوتها اليومي ومن المؤسف أن الجزائر ما زالت إلى اليوم تعاني من مخلّفات الثورة الزراعية ويزداد اعتمادها على الخارج في استيراد المواد الغذائية بحجم كبير جدا. - انتهج سياسة صناعية واقعية بعد أن غامر سلفُه المصاب بجنون العظمة في صناعات عملاقة ابتلعت مبالغ خيالية وهي غير مناسبة للوضعية الجزائرية ودليل ذلك أن أيّا من تلك المشاريع الضخمة لم ينجح وفق المعايير الاقتصادية بل كان يخضع للتسيير الإداري حيث اعتاد العمّال آنذاك تقاضي الأرباح دوريًّا رغم أن المصنع أو المركّب أقرب إلى الإفلاس يعيش فقط على ميزانية الدولة فعمَدت السياسة الجديدة إلى إعادة هيكلة الصناعات في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. - حارب البيروقراطية المتغوّلة وقرّب الإدارة من المواطنين ويسّر الإجراءات الإدارية التي نغّصت حياة الجزائريّين منذ الاستقلال وعمل جاهدا على إلغاء تعقيدات الوثائق والملفّات. - وقف بحزم في وجه دعاة الفتنة الطائفية الذين يتذرّعون بقضية الأمازيغية لضرب الوحدة الوطنية والمطالبة بالحكم الذاتي أو الانفصال لبلاد القبائل وذلك فيما عُرف بالربيع الأمازيغي في مطلع الثمانينات وكانت القلاقل تهدف إلى التشويش على سياسته الجديدة وتوجّهه العربي الإسلامي وكان وراءها غلاة التغريبيّين الفرنكوفونيّين الذين يجعلون من رفض هذا التوجّه همّهم الأول والكبر لكنه لم يتراجع ولم يستسلم رغم وقوف فرنسا مع دعاة الفتنة بشكل شبه رسمي ولم تتمكّن الطائفية البربرية من تسجيل نقاط لصالح أطروحاتها ورموزها إلا بعد رحيل الشاذلي بن جديد عن السلطة. - يتضاءل كلّ ما سبق أمام إنجازه الأعظم وهو الثورة على محيطه وتأسيس النظام الديمقراطي بعد أحداث أكتوبر 1988 حيث أشاع الحريات الفردية والعامة وعمل على تفكيك دواليب الاستبداد وكسّر طابوهات النظام الشمولي فانتعشت الحياة السياسية والنقابية والاجتماعية وأحسسنا _ نحن الجزائريّين _ بطعم الحرية وأصبح الإخوة العرب المقهورون يتمنّون مكانَنا وكانوا يتابعون الصحافة الجديدة المتّسمة بالجرأة والحرية التامة ويحسدوننا عليها وكان يُفترض أن تنجح التجربة الديمقراطية وتترسّخ نهائيّا لولا عامل مؤسف حسم الأمر في اتجاه إفشالها وقبرها ألا وهو الجبهة الإسلامية للإنقاذ ذلك الحزب الذي لا تسيّره قمّة صاحبة رؤية وفهم وإنما تسيّره قاعدة لا تعرف سوى العاطفة والانفعال فاستطاعت توجيهها نحو الرفض المطلق والغلوّ في كلّ شيء والسقوط السهل في الحبائل التي تنصبها لها الأطراف الرافضة للتحوّل الديمقراطي فبدل أن تقف في صفّ الرئيس لتعزيز الديمقراطية أفتت أن الديمقراطية كفر (وما زلت أذكر بكثير من الأسف مظاهرة ضخمة طافت شوارع الجزائر العاصمة في مطلع التسعينات رُفعت فيها لافتة كبيرة كتبوا عليها لتسقط الديمقراطية) وبدل التفطّن إلى أن الرئيس هو أحسن ضمان لاستمرار التجربة التي أتاحت لجبهة الإنقاذ الوجود القانوني أعلنت قيادتها وقواعدها أن العقبة الوحيدة التي تحول دون نجاح التجربة الجزائرية هي الشاذلي بن جديد وكم سبّوه في التلفزيون الحكومي وأهانوه وتوعّدوه في التجمعات الجماهيرية فلم يزده ذلك إلا حلمًا...حتى تساءل الناس عند أيّ طرف كانت أخلاق الإسلام؟ وقد وجد الجل نفسه بين حزب اكتسح الساحة من غير أن يكون على بصيرة ولا حنكة ولا حكمة وبين مراكز قوى داخل السلطة تتربّص به لإفشال توجّهاته وسياساته فبدا ضعيف الموقف وحصل ضدّه انقلاب جانفي 1992 وكان بعده ما كان من دماء ودموع وخراب حينئذ تأسّف المتعجّلون على الرئيس الطيب وعرفوا ما كانوا عليه من خطأ في التقدير والمواقف أمّا هو فقد خرج من السلطة مضحّيًا بالكرسي من أجل المبدأ. لقد كان الشاذلي بن جديد رجلاً طيباً متواضعًا ليس فيه غطرسة نظرائه العرب ولا تجبّرهم محافظًا على الصلاة نظيف اليد رغم ما راج عن سلوك أصهاره لكن الأطراف الاستئصالية فشلت في إيجاد أي أثر عن فساد مالي في حياته وكانت تتمنى ذلك لتشويه سمعته وتسويد صورته بعد خروجه من السلطة. وكم ندمنا نحن الجزائريّين عن حكم الرئيس الطيب المتواضع حين دخلت بلادنا أتّون حرب أهلية عمياء لا تبقي ولا تذر وكم تمنينا أن يعود إلى السلطة لكنه بقي بعيدًا عن الأضواء حتى توفّاه الله فأبدى الشعب تأثّره بموته وشارك بكثافة في جنازته وذكره خصاله الحميدة في حين خرجت الصحافة التغريبية بافتتاحيات وتعليقات تنضح بالحقد عليه وتفوح بالتشفي فيه...والشيء من معدنه لا يُستغرب. أرجو أن يتثبّت الناس من سيرة الرجل ليعرفوا إنجازاته الكبيرة ويقفوا على فداحة مصاب الجزائر فيه حين أرغمته الأطراف المتناقضة على الخروج من السلطة قبل استكمال مشروع الإصلاح الشامل الذي كان من شأنه أن يجعل الجزائر رائدة في البلاد العربية والعالم الثالث. رحم الله الرئيس الشاذلي وأسكنه جنة الفردوس.