زيارة الرئيس المصري محمد حسني مبارك إلى الجزائر، ورحيل العلامة محمد حسين فضل الله، حدثان هامان في تاريخ أمتنا، أولا: لأنهما يتعلقان بسلطة أولي الأمر في حياة المسلمين سلطة الحكم وسلطة العلم وهي مسألة واجبة التوضيح، سآتي على ذكرها في نهاية المقال... وثانيا: أن لحظات الحزن في تاريخ الأمة تعطي دفعا جديدا للحياة، وزيارة مبارك لتعزية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في وفاة أخيه ستؤدي إلى تطور إيجابي بين الجزائر ومصر في المستقبل المنظور، أما وفاة فضل لله على ما فيها من خسارة فتجعلنا نعيد قراءة فكر العلامة الراحل، وثالثا: أن أمتنا من خلال الوجدان أكثر فعالية من ناحية العقل، وعلينا أن نجمع بينهما، لعل ذلك يساعدنا على إعادة نمط جديد من العلاقات المشتركة التي تحمل صيغة: إن هذه أمتكم أمة واحدة لنعد إلى الحدث الأول وهو زيارة الرئيس حسني مبارك إلى الجزائر لتقديم واجب العزاء لأخيه الرئيس بوتفليقة في وفاة أخيه مصطفى بوتفليقة، وقد اعتبرته مثل غيري حدثا، لأنه يفتح مجالا لحوار واسع بين الدولتين، وإن كانت بعض الجهات داخل الجزائر قد اعتبرت الزيارة خارج السياق، لأنها تجعل الحزن مطية لتحقيق مكاسب سياسية، وبالتأكيد أن تبعاتها الأيام القادمة ستكون نفعية، ناهيك عن أنها حوّلت تبادل المشاعر والمشاركة في الحزن إلى إرهاق للرئيس بوتفليقة لجهة واجب تصرفه أمام حالة عائلية بموقف رجل الدولة، وكذلك فعل عند استقبال الرئيس مبارك، وبذلك تحمل ثلاثة أعباء دفعة واحدة ، عبء رجل الدولة وزعيمها، والعبء الشخصي بالوفاة على المستوى الوجداني، وعبء امتصاص الغضب الشعبي من الحملة المصرية على شهداء الجزائر، وهذا العبء يشاركه فيه مبارك، فهو أيضا يعاني من رأي عام رأى في الشهور الماضية أن كرامة المصريين تداس عربيا، وكان على الجزائريين أن يدفعوا ثمن أخطاء العرب الآخرين تجاه المصريين مع أنهم لم يكونوا طرفا فيها قبل المباراتين وليس بعدهما.. والسؤال هنا: هل فعلا أن الحكم في مصر بقيادة مبارك أراد استغلال العزاء لتنشيط العلاقات بين البلدين؟ السؤال السابق ليس مشروعا، ذلك لأن العلاقة بين الدولتين مهما حصل أو سيحصل أكبر من أن تظل رهينة مشاعر غضب شعبية، ومع ذلك، فإني أرى من الضروري تقديم إجابة تستند على قراءاتي لتاريخ الدولتين بما في ذلك التاريخ البعيد، الذي يمتد في أعماق التاريخ المظلمة حين أتى علينا حين من الدهر لم نكن شيئا مذكورا على مستوى عقيدة التوحيد. بعيدا عن العلاقة التاريخية التي تربط الرئيسين بوتفليقة ومبارك، فإن حسابات صانع القرار تختلف بالتأكيد عن رؤى من هم بعيدون عن المسؤولية، لهذا لا نفرغ عليها تصورات الخاصة أو حتى العامة لنحكم على هذا الموقف أو ذاك ، ولو اتّبع الرئيسان سفهاء القوم في البلدين، أو أخذا برأي بعض ممن اتخذوا الأوطان وثنية جديدة، أو سايروا من أخذتهم العزة بالإثم لقامت الحرب بين الدولتين، ومع هذا كله لا يكمن لنا هنا أن نتجاهل خلفيات اتخاذ القرارات السياسية في البلدين. لندرك أهمية زيارة الرئيس مبارك إلى الجزائر وصدقيتها، علينا أن ننظر إليها ضمن ثقافة الحياة والموت في مصر، فالناس في مصر يضعون في حياتهم مكانين للمأوي، بيت للسكن - المأوى الدنيوي ، والقبر - الذي أيضا بيت للعائلة - المأوى الأخروي، وإلى هذا الأخير يشدون الرحيل في الأعياد والمناسبات السعيدة.. هناك، وهناك فقط تجتمع الحياة والموت، وهناك تتدفق مشاعر الحب والصدق، وقلما يغيب الإنسان المصري عن واجب العزاء، ويطول الحديث في هذا الموضوع ولا يدركه القارئ العربي إلا إذا عاش في مصر وأصبح جزءا منها، وارتمى في أحضان شعبها، وتفاعل معه في أحزانه وأفراحه. من هنا يمكن لي أن أفهم زيارة مبارك فهي تعبير رسمي عن مشاعر حب كبيرة أكبر حتى من الاعتذار الذي يطالب به بعض الجزائريين، لكن هذا لم يوصل الرسالة إلى الشعب الجزائري، والسبب أيضا ثقافي - تاريخي، فمصر وعبر تراثها السياسي كانت، ولا تزال، ترى أن المدخل لعلاقة جديدة مع أي دولة عربية أخرى أو حتى مع دول العالم تتم من خلال النظام الرسمي، وفي هذا الإطار ندرك دفاعها المستميت عن السلطة الوطنية الفلسطينية، قياسا على ذلك فإن اخماد الفتنة بينها وبين الجزائر تمر عبر علاقة طيبة مع الرئيس بوتفليقة، زمانها كان وفاة أخيه وهذا ليس استغلالا وإنما تأمل في الحياة، وإعادة النظر في الأفعال بما فيها الأفعال السياسية، بالطبع هذا النمط من التفكير ليس مقبولا من سكان المغرب العربي استنادا إلى ميراث تاريخي بعيد يقوم بالأساس على فكرة التمرد على سلطة الدولة المركزية، أي أن فهم الشعب الجزائري لن يكون ضمن الرسالة التي أرادت مصر توجيهها، خاصة وأن البعض - ومع تقديرهم للراحل ولمشاعر الرئيس بوتفليقة - يرون أنه لم يكن من كبار مسؤولي الدولة، الذين يقتضي العرف الدبلوماسي والعلاقات الدولية تقديم واجب العزاء من أجلهم. مهما تكن القراءات لزيارة مبارك فهي بادرة خير، تحتاج مزيدا من تعميق العلاقات، وتحتاج فهما أوسع لثقافة الشعبين، إذ لم يعد كافيا الحديث عن المشترك بيننا، لأن معرفة (المختلف) تساعد على بناء علاقة لا تهزها العواصف، وهذه ليست مسؤولية السياسيين وحدهم بل هي من المهام الأساسية لعناصر النخبة، وهنا وجب التذكير بالرأي السديد الذي أبداه الكاتب المغربي "حسن أبراغ "حول هذه الزيارة حين ناقشته في أهم أفكارها قبل كتابة هذا المقال، فأبدى نصيحته عبر ثقافته الواسعة وقراءته للمستقبل، الأمر الذي جعل هذا المقال يتخذ سبيلا غير الذي دار بذهني في بداية الأمر، وهذا أمر طبيعي لسببين، الأول: أن لا أحد منا يملك الحقيقة المطلقة، وبالتي نحن في حاجة إلى إثراء أفكارنا وتطويرها، والثاني أن الباحث أبراغ من الخيّرين المنشغلين بالهم العام والسّاعين إلى الاهتمام بقضايا الأمة وتاريخها ومستقبلها. والآن لننتقل إلى حالة حزن أخرى تخص هذه الأمة صاحبة الرسالة الخالدة.. فقد دمعت عيناي حين أوردت وكالات الأنباء خبر وفاة العلامة محمد حسين فضل لله.. أحسست أني فقدت عزيزا، قريبا من الرّوح، وأعتقد أن هذا الشعور يشاركني فيه كثيرون في العالم الإسلامي، وعادت بي الذكريات إلى ليلة من ليالي العمر، بقيت فيها منتظرا لساعات من أجل إجراء حوار معه، بناء على اتفاق مسبق مع مرافقيه، حتى إذا ما حلت الساعة الثالثة صباحا - إن لم تخني الذاكرة - اتصلت به، فرد علي، مبديا استعداده للحوار معي في تلك الساعة، وحين وصلت إلى غرفته وجدت عددا من ممثلي وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية، كل ينتظر دوره، كان هذا منذ 19 سنة تقريبا. لم يكن ذلك الحوار، يكشف أخبارا أو يتابعها، ولا يقدّم إجابة مفكر لصحفي فحسب، ولكنه كان جلوس تلميذ في حضرة عالم، ودرسا تتوق إليه النفوس لفهم طرق التفاوض، بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى، حيث كان يرى أنه على المسلمين أن يتطرفوا في المفاوضات حتى يجدوا ما يمكن أن يتنازلوا عنه إذا اقتضت الضرورة ذلك، موضحا أن التنازل في البداية يجعلنا عديمي القوة، ويجعل الآخر غير مستعد للتفاوض معنا. من جهة أخرى فإن حواري معه، كان بداية لقراءة بعض كتبه ومتابعة حواراته، حيث نورانية الأفكار من خلال روح الإسلام في مجال الحياة، أليس من يقدم هذا يستحق المحبّة، التي لم تعد أسلوب حياة بين التلاميذ وأساتذتهم في عصرنا هذا؟!. لقد مثّل "فضل الله"، يرحمه الله، علامة مضيئة في حياة المسلمين المعاصرين، خاصة بعد بسطه عمليّا لسلطة العلماء على أهل الحكم والسياسة والثقافة، وذلك من خلال الإقناع، فأعاد بذاك دور العلماء في حياة الأمة لجهة توجيه مسارها، فاستحق أن يمثل، وبجدارة، إجماعا لدى كل القوى السياسية داخل لبنان وجميع المذاهب الإسلامية خارجه، لدرجة حالت دون الاختلاف حول آرائه ومواقفه. وعلى صعيد قوة الأفكار التي طرحها، نال اعتراف التيارات الأخرى ليس فقط على مستوى قوة الطرح وعقلانيته، وإنما لجهة تعايشه مع الفكرة المضادة متأثرا في ذلك بما جاء في القرآن، وهو ما جاء مفصّلا في كتابه "الحوار في القرآن"، الذي أسس لنمط من الفهم نحن في حاجة ماسة إليه بعد فتن جماعات الداخل وتكالب قوى آتية من الخارج، الأمر الذي ساعد من آمنوا بدور أمتهم في التاريخ على تملّك شروط البقاء، ومواجهة القوى المعادية، وتحصيل أحقيتهم في تقدم الصفوف الأولى، واستمرار دورهم في البناء. لقد أعاد فضل الله إلى المشهد العام في عالمنا الإسلامي دور العالم الموسوعي من جهة، والحركي من جهة أخرى، وهذا من خلال وعيه بالتراث وبالتاريخ وبالدين في جانبيه الفقهي والعملي.. لنبصر به مثلا وهو يشخّص المقاومة في حياتنا ودورها المتراكم ونتائجه الإيجابية منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا، وتلك حالة منبثقة من الماضي البعيد، ومولودة من زمن الثورات الكبرى. عمليا فإن أطروحته لا تمثّل على مستوى التنظير، بالنسبة له ولا لنا، ترفا يجمّل به نفسه، ويتباهى به بين الناس، ولكنه علم يجمّله بقدر ما يحاول جاهدا من أجل تطوير أمته ودفعها إلى التأقلم مع حقيقية الإيمان دون أن تظل متخاصمة مع عصرها، وقد يعود السبب في ذلك، إلى الميراث الحضاري للنبوة أولا، ولعلماء السلف ثانيا، ولقدراته الذاتية ثالثا، وفي كل هذا كان الوعي هو المتحكم في حركته حتى حين دخل في تقاطع أو اختلاف مع الأقربين حول قضايا مصيرية . من ناحية أخرى فإن فضل الله تمكّن من استعادة الدور الحقيقي، الرّسالي، المنوط بالعلماء باعتبارهم سلطة روحية وعمليّة في المجتمع، وأقصد هنا دور "أولي الأمر"، الذي ذهب إليه بعض المفسرين، وهو هنا لم يدخل في معارضة للسلطة داخل لبنان ولا خارجه، وإنما اكتسب تلك السلطة من خلال تثوير الدين والعمل بمحكم التنزيل فهما وتطبيقا، غير أنها كانت سلطة مختلفة عن تلك التي جلبت الخلاف أو العنف، لأنها تحركت على مختلف الساحات والمواقع ضمن شروط الإيمان ومكتسباته، وبما أن الدّين يخاطب العقل ويفعّل الفطرة، ويدحض الباطل ويحقّ الحق، فقد كان ل (فضل الله) خلال حياته العملية بعضا من كل ذلك، وهو ما سنشترك فيه جمعيا بعد رحيله، وعلينا تحقيقه كل حين، ما دام يمثل لنا مرجعا إسلاميا مشتركا بعيدا عن التصنيف المذهبي المتداول في الإعلام.