تجد البلديات المعزولة التي تعرضت للحرق في زمن الإرهاب في شرق البلاد صعوبة كبيرة في الاستجابة لطلبات مواطنيها الراغبين في الحصول على وثائق الحالة المدنية، بسبب الإتلاف الكلي أو الجزئي لسجلات الحالة المدنية، وسجلات عقود الزواج والطلاق والوفاة وغيرها، وبالرغم من مرور قرابة ال15سنة عن حوادث الحرق هذه، إلا أن هناك بلديات لازالت تصارع مع وزارة العدل لتجديد سجلات المواليد والوفيات والزواج والطلاق، كما هو الشأن بالنسبة لبلدية كركرة "60 كلم" غرب ولاية سكيكدة، التي تعرضت للحرق الكامل عام 1994 على يد الجماعات الإرهابية، * وطالت عملية الحرق مصلحة الحالة المدنية التي تحولت إلى رماد، علما أن عدد سكان بلدية كركرة حاليا يتجاوز ال23 ألف نسمة، ومنذ ذلك الحين ومواطنو بلدية كركرة، بلا هوية تقريبا، بمن يريد الحصول على شهادة ميلاد عليه تسجيل طلبه بالمصلحة وانتظار ما بين ال15 إلى 30 يوما، قصد التأكد من هويته وإثبات نسبه وتاريخ ومكان ميلاده لدى محكمة القل أو محكمة تمالوس، ونفس الشيء بالنسبة لشهادة الوفاة وعقود الزواج والطلاق، التي تستغرق 20 يوما على الأقل، لتتقلص المدة مؤخرا إلى نحو أسبوع وثلاثة أيام، بعد أن تم فتح مصلحة خاصة تعمل مباشرة مع المحكمة، للتكفل بطلبات المواطنين، وقد شرعت البلدية منذ نحو عامين في تجديد السجلات، ومن المرتقب أن تنتهي العملية مع نهاية العام الجاري بحسب تصريح مسؤولي البلدية للشروق اليومي. * الأمر نفسه ببلدية قنواع في أقصى غرب الولاية إذ تعرضت البلدية إلى عملية حرق شامل عام 1995، ولم يتم تجديد السجلات إلا منذ نحو عام فقط، بالتنسيق مع مصالح محكمة القل، وطالت أيادي الجماعات الإرهابية بولاية سكيكدة كل من بلديات الزيتونة، بني زيد، الشرايع، وبين الويدان، والى وقت قريب جدا، كان مواطنو هذه البلديات، بلا هوية وبلا أصل ولا نسب، قبل أن يتم تجديد الملفات جزئيا، قصد استعادة سكان هذه المناطق لنسبهم الضائع؟، وتستعيد معها مصالح الحالة المدنية لهذه البلديات سهولة التعامل مع طلبات المواطنين، سيما وتزايدها الملفت للانتباه مع انطلاق كل موسم صيف، بسبب ملفات الدخول الاجتماعي ومسابقات التوظيف والالتحاق بالمؤسسات العسكرية وملفات الزواج وعقود القران وغيرها. * * البلديات تستنجد بسجلات المجلس القضائي لإنقاذ سجلات الحالة المدنية التالفة * شهدت العديد من بلديات ولاية جيجل التي نصح زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة كل من أرادوا الجهاد التوجه إلى جبالها، خاصة جبال بني خطاب التي كانت مركزا وطنيا لإمارة ما كان يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ، شهدت العديد من عمليات الحرق والتخريب، أهمها حرق مصلحة الحالة المدنية ببلدية القنار التي كانت تسمى في عز التدهور الأمني بمدينة كابول، نسبة إلى مدينة كابول الأفغانية، حيث أتت النيران التي أضرمها الإرهابيون بمصلحة الحالة المدنية على كامل السجلات الموجودة بها، كما تعرضت بلدية الشقفة إلى تخريب جزئي لبعض السجلات، شأنها في ذلك شأن بلدية سيدي عبد العزيز وبلديات أخرى، غير أن هذا النوع من العمليات التخريبية تم تجاوزها بالنظر إلى وجود سجلات أخرى على مستوى المجالس القضائية، وسجلات ما يعرف بنقابات الحالة المدنية التي كانت متواجدة بدوائر تاكسانة، الميلية والطاهير، حيث تم اللجوء إليها من قبل البلديات المتضررة لتجاوز أزمة استخراج شهادات الميلاد التي أرادت الجماعات الإرهابية المسلحة الرهان عليها دون جدوى. * عندما اختارت الجماعات الإرهابية المسلحة توسيع نطاق عملياتها الإجرامية عبر حرق المؤسسات والإدارات العمومية والمرافق والهيئات التابعة للجماعات المحلية كالبلديات ومقرات الدوائر، كان الهدف من وراء هذا التصعيد الإرهابي تضييق الخناق على المواطنين ودفعهم للتمرد والاحتجاج على السلطات المحلية والمركزية، وبالتالي إدخال هؤلاء في مواجهات مباشرة مع الشعب.. وقد كانت بداية التصعيد الهمجي بتهديد المعلمين والأساتذة وإجبارهم على التوقف عن العمل ومقاطعة التعليم في جميع أطواره، في محاولة أخرى لدفع التلاميذ لا سيما منهم طلبة الجامعات والثانويات للخروج إلى الشارع، وحين عجزت هذه الجماعات الإرهابية عن تنفيذ مخططها الذي لم يلق الاستجابة والقبول لدى الأغلبية الساحقة من المنتسبين لأسرة التربية والتعليم، انتقلت عناصر الجماعات الإرهابية المسلحة إلى أسلوب الترهيب واقتحام المؤسسات التعليمية جهارا نهارا، ومداهمة بيوت المعلمين ليلا، وبعدها القيام بسلسلة من العمليات الإجرامية والاغتيالات الوحشية راح ضحيتها أساتذة ومعلمين عبر مختلف جهات الوطن، أبشعها ما تعرضت له 15 معلمة على طريق بني ونيف، حيث تم ذبحهن وإحراقهن داخل سيارة للنقل الجماعي.. ولأن الجماعات الإرهابية المسلحة لم تتحمل ضغط المواجهات العسكرية مع القوات الأمنية المشتركة، انتهجت عناصرها الدموية أسلوبا آخرا يتمثل في المصانع والمؤسسات المنتجة والمراهنة على ضرب الاقتصاد الوطني وسوق الشغل والزيادة في عدد البطالين جراء تسريح عمال هذه المؤسسات والمصانع، وعليه يسهل على الجماعات والتنظيمات الإرهابية تجنيد هؤلاء العاطلين والمسرحين ضمن خلايا الدعم والإسناد وتكليفهم بمراقبة تحركات عناصر الأمن مقابل حصولهم على أموال، ورغم أن هذه الطريقة نجحت مع المؤمنين بمقولة قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، إلا أن الأغلبية رفضت التورط مع الجماعات الإرهابية المسلحة وفضلت تحصيل لقمة عيشها بطرق أخرى شريفة بعد أن هجرت ديارها وممتلكاتها خوفا من بطش الإرهابيين، بدليل أن ولاية جيجل وحدها أحصت أزيد من 125 ألف نازح نحو المدن الداخلية.. وبما أن الجماعات الإرهابية المسلحة كانت مصممة على خلق أجواء الرعب والفوضى والضرب بعشوائية فقد اختارت حرق البلديات وتحديدا مصالح الحالة المدنية من منطلق إيمانها بأن أهم عنصرين في شخصية الإنسان هما زمان ومكان ولادته، وبدونهما لا يمكنه إطلاقا إثبات هويته أو تحصيل حقوقه كالشغل والسكن والزواج وتسجيل الأبناء، فخطأ واحد جد بسيط في شهادة الميلاد يدخل صاحبه في متاهات عديدة ومعقدة، أهمها ضرورة استخراجه لشهادة ثبوت الشخصية، وهي من الشهادات التي تتطلب إجراءات قضائية ورحلات ماراطونية قد تنتهي دون الحصول على أي نتيجة.