صورة الشروق الحلقة الرابعة غادرت المحل واتجهت نحو شارع آخر، وقد لفت انتباهي متجرا متواضعا جدا على واجهته الرئيسية يرفرف علم بالي من الحجم المتوسط، وكان المتجر متخصصا في بيع بعض الخردوات والعقاقير، مساحته صغيرة لا مكان فيها إلا للبائع وأنا. دخلته ووجدت فيه شيخا في الستينيات من عمره، يلبس الزي الصحراوي. عرف من خلال ملامحي ولهجتي أنني أجنبي، قدمت له نفسي من أنني كاتب صحفي جزائري، وأول سؤال طرحه علي: "أمر لم يحدث من قبل كيف سمح المخزن لصحفي جزائري أن يدخل المدينة ويتجول فيها؟"، أجبته: "جئت للمشاركة في ملتقى هنا بالداخلة"، رد: "يعني هذا الملتقى الذي ينظمه المغاربة في أرضنا". ثم أردف: "أول مرة أسمع بجزائري يناصر المخزن". * قلت له: "أنا لا أناصر أحدا جئت كصحفي والحقيقة التي أصل إليها سأبلغها للعالم كله"، ابتسم وهو يقول: "أعرف الجزائريين جيدا، والله أحب هذا البلد وأعشق ثورته، وأنا على يقين أن البلد الذي أنجب هواري بومدين رحمه الله لا يمكن أن ينجب خونة". * كان الحديث مع التاجر شيقا وطويلا، وكشف لي الكثير من أسرار هذه المدينة التي تبدو هادئة في ظاهرها، والسبب هو الحصار الأمني الذي تحكم قبضته المخابرات على المواطنين، وكل من تلاحقه شبهات "الانفصال" سيلقى مصيرا سيئا، بل سيضطر تحت الضغوطات إلى مغادرة المكان نحو عمق الصحراء بحثا عن لقمة عيشه. وعندما أردت أن أعرف أمره وهو الذي يعبر بصراحة عن تأييده لجبهة البوليساريو، فقد أكد لي أن دكانه المتواضع يكشف الحقيقة، فضلا من أنه لا يتحدث كثيرا في الأمر حتى يتفادى ما يتعرض له من طرف الضرائب والأمن. وقال مختصرا أوجاعه: "فعلوا بنا العجب العجاب ولكن لن أغادر الداخلة ولن أغلق محلّي حتى أموت أو يشرق علينا فجر الاستقلال". * بالنسبة للعلم المغربي فأكد لي أنه لم يعلقه ومستحيل أن يفعل ذلك، ولكن كل ليلة ينزع الراية يجد أخرى في الصباح على واجهة المحل، وعندما أردت أن أعرف من يقوم بذلك، قال لي أنهم مرتزقة المخزن على حد تعبيره، وأضاف: "تفاديت الأعلام الكبيرة والضخمة التي تعلق كل ليلة على واجهة محلّي، تركت هذا البالي الصغير المدنس ليعرفوا أننا لسنا مغاربة مهما فعلوا". * أحسست أن التاجر لا يريد أن يحكي الكثير، بالرغم مما قاله إلا أنني أراه مترددا أو يلف الحذر سلوكات أخرى صادرة منه. سلمت عليه وهممت بالمغادرة، ولكنه شدّ على يدي قائلا: "ما قلته لك سيقوله لك الجميع هنا وإن كان البعض يفضل الصمت أو التقية لأن المخازنية لا يرحمون". * لاحظت أن المحلات البارزة التي تحتل أماكن إستراتيجية يملكها المغاربة، أما الصحراويون ففي تلك الأحياء الفقيرة والهشة، أو البيوت المهترئة التي تتواجد في زوايا خفية من المدينة الغنية بالثروة السمكية ومداخيلها أسطورية لا يمكن تخيلها. * إتجهت نحو مقهى آخر، غير بعيد من مسجد عمر بن الخطاب "ر"، ولما دخلته لاحظت الأنظار تتجه نحوي، فملامحي توحي أنني غريب عن المدينة، قصدت أربعة شبان على طاولة في زاوية المقهى، وكانوا كبقية الزبائن يتبادلون النقاش على إبريق ضخم من الشاي بالنعناع. سلمت عليهم، وإستأذنت أن أجلس إليهم، فبادرني أحدهم بأنهم سيكونون في قمة السرور، وراح يحدثني عن معرفته لي ومتابعته لعدة برامج في قناة الجزيرة التي شاركت فيها. * راحوا يسألونني عن الجزائر التي يحبّونها كثيرا، وعرفت أنهم من أبناء الصحراء، أردت أن أعرف موقفهم من جبهة البوليساريو أو من أطروحة الحكم الذاتي التي يقدمها المغرب، أجابني أحدهم قائلا: "الصحراويون كلهم مع تقرير المصير ومن تجده يشيد بالمغرب إما أنه مستوطن مغربي أو أنه مرتزق يبحث عما يملأ بطنه". * أضاف آخر وهو يلتفت يمينا وشمالا "لقد قال لك المختصر المفيد والأفضل أن نتحدث في أمر آخر فالعيون ترقبنا". لكن ألححت على أن أسألهم حول الإنجازات التي يتحدث عنها المغرب في الصحراء الغربية، أجاب محدثي: "حتى فرنسا شقت الطرقات وشيّدت العمارات في وهرانوالجزائر لأنها كانت تعتقد أن الجزائر فرنسية، ولكن فعلت ذلك من أموالكم وبسواعد شعبكم، هنا أيضا الثروات التي تملكها الصحراء الغربية لو وجهت للصحراويين لصاروا أغنى شعوب المنطقة". * سألته: "أين تذهب الثروات؟" أجاب: "تنهب وتهرب للداخل المغربي يا أخي أنور". وسألتهم أيضا عن خيمة منصوبة في الشارع غير البعيد من المقهى، فأخبروني أن البيوت مهترئة، والسكنات التي تبنى تعطى للصحراويين لكن بشرط بيع الذمة للمغاربة، والأراضي يملكها النافذون ويبنون البيوت ويشيدون المرافق السياحية التي تعود عليهم بالملايير. فقال آخر: "حتى النادل يأتون به من الشمال ولا يتركون فرصة للصحراويين حتى يشتغلوا". * الشيء الذي لفت إنتباهي خلال رحلتي هذه، أنني لم أقرأ أبدا أي كتابات على الجدران، ولا وجدت منشورات معلّقة تناهض المغرب، كعادة الدول أو المدن التي تخضع للاحتلال الأجنبي وحتى تلك التي بها ثورات شعبية وحروب أهلية، ولما حاولت أن أستقصي الأمر، وصلت إلى ما مفاده، أن الصحراويين نضالهم يختلف عما هو معهود لدى الآخرين، "الكتابة على الجدران لا تحرر أرضا، كما أن السلطات تعاقب صاحب أي بيت يكون قد كتب عليه أي شيء يناهض الأطروحة المغربية، وخاصة إن كان مواطنا صحراويا" كما علق أحدهم. * ويوجد من ذكر لي أن المدينة تخضع لمراقبة شاملة تحصي على الناس أنفاسهم في البيوت، ولا يمكن أن يتجرأ أحدهم على الوصول للكتابة في الجدران. أما مواطن آخر فقد قال لي: "المدينة صحراوية، والجبهة تناضل على مستويات عديدة، ونحن لا نريد أن ندخل في مواجهات مع قوات الأمن المغربية، التي ستستغل الفرصة للإنقضاض علينا". * ترددت على محلات ومقاهي وكلمت الناس في الشارع، ووصلت إلى قناعة أن معاناة الصحراويين قاسية جدا، وأن ما يتبجحون به في وسائل الإعلام الرسمية المغربية هي مجرد أحاديث للإستهلاك ودغدغة مشاعر المجتمع الدولي ليس إلا. * * خيمات وصرخات في عمق الصحراء * * عدت إلى الفندق وكلي أسى وألم مما سمعته من هؤلاء الناس، بل أصيب رأسي بالدوار وأنا أسمع ما يندى له الجبين برغم التحفظ والخوف والتردد، عن الفساد والظلم والتعذيب وإنتهاك الكرامة الآدمية في أبسط حقوقها المعاشية. لم أمكث كثيرا في الفندق حتى حضر المدعو بومبا، وهو صحراوي يقيم ما بين الداخلة وإسبانيا، يشغل منصب رئيس جمعية الفضاء الشامل المناصرة للأطروحة المغربية، وقد جاء من أجل أن يتجوّل بي في المدينة حتى أتعرف عليها أكثر وأكثر، وكان برفقته الأستاذ فيرناندو خوسيه الذي يعمل محاضرا في جامعة إسبانية، وبرفقته أيضا شقيقه الطبيب. * انطلقنا نحو وجهة أخرى لم نزرها من قبل، وكنا في إتجاه مدينة العيون الصحراوية، وظل بومبا يحدثنا عن جمال المنطقة والثروات الطبيعية التي تتواجد بها، ومن حين لآخر يقوم بترجمة الحوار بيني وبين الإسبانيين الذين على ما يبدو محدودي الرؤية فيما يخص تاريخ الصحراء الغربية والمراحل التي مرت بها. أثناء الطريق شاهدت خيمات، وزعم مرافقي أنها لصحراويين يغادرون المدينة في العطلة السنوية، نحو المناطق الريفية من أجل الإصطياف والإستمتاع بالطبيعة الخلابة. * من حين لآخر تعترضنا مواكب أو سيارات عسكرية، تبدو أنها في دوريات مراقبة، ونقل للجنود أو البضائع، مما يزيد من اليقين أن المنطقة عسكرية بإمتياز، وتخضع لإجراءات إستثنائية وطارئة، تختلف عما رأيته في كلميم وآسا مثلا. * في الطريق وقبل وصولنا إلى مركز مراقبة تابع للشرطة، إتصل بومبا بأحد المسؤولين وأخبرهم بأنه في رحلة إستطلاع مع ضيوف، ذكرني بالإسم أما الإسبانيين فقال أن معه نصارى. وعندما وصلنا للحاجز الأمني أشار لنا الشرطي بالمرور مقدما تحية نظامية، بالرغم من توقيفه لكل السيارات بإستثناء العسكرية منها، وعلى ما يبدو أنه تلقّى أوامرا من المسؤولين في الداخلة، ولما سألت مرافقنا عن أسباب طلبه هذا، أخبرني أن المنطقة عسكرية وتخضع لإجراءات أمنية إستثنائية وصارمة، ولو لم تعط الموافقة من السلطات ما سمحوا لنا نحن الغرباء بالتجوّل في ذلك المكان. * تراءت في الطريق خيمات متعددة وظهر أطفال في ظروف فقر مزرية، من خلال ملابسهم الرثة والممزقة، وأقدامهم الحافية، ووجوههم الشاحبة. وكذلك رأيت نساء يمارسن رعي بعض الماعز والغنم لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. طلبت منه أن يأخذنا لنتواصل مع السكان في هذا المكان المقفر، ولكنه تماطل وفي ظل إصراري على ذلك، أخبرني أنه سيأخذنا إلى مكان جيد وآمن. بعد ما يقارب الثلاثين كيلومترا عن مدينة الداخلة، توقف صاحبنا في ظلام غبار العجلات والرمل الأبيض، أمام نسوة يحملن على ظهورهن أخشابا، وسألهن عن خيمة أحد معارفه، فدلونا عليها وكانت لا تبتعد كثيرا عن الموقع الذي نحن فيه. * دخلنا الخيمة ووجدنا رجلا في الثلاثينيات من عمره ومعه أطفال وشابان، كان أحدهم اسمه أحمد يدرس في الثانوي، وقد سعد كثيرا لرؤيتي وهو الذي يتابعني ويقرأ مقالاتي، وقد ذكر لي بعض العناوين التي نشرتها خاصة في الشروق اليومي، فسألته: "هل تقرأ الشروق؟"، أجاب: "هي جريدتنا نحن أيضا في الصحراء الغربية"، بل ذهب إلى أبعد من ذلك لما قال: "نحن لا نقرأ الصحف المغربية أبدا، نقوم من خلال مقهى الأنترنيت يوميا بتحميل الصحف الجزائرية وعلى رأسها جريدة الشروق التي هزمت الفضائيات المصرية". * أحمد بعدما أخذ صورا تذكارية معي بهاتفه النقال، إسترسل في الحديث عن واقع الصحراويين المزري، حيث تحدث عن الحڤرة واللامبالاة والظلم والتسلط والتهميش الذي يتعرضون له يوميا وبصفة دائمة، كما أكد لي ما أشرت له سابقا من أنه يمنع على الصحراويين الصيد، وكل من يتجرأ على فعل ذلك سيجد نفسه في قبضة عناصر الدرك الملكي، ووصف أن ثروات الداخلة السمكية صارت ملكا للجنرال بنسليمان. * * لقد حاول مرافقنا بومبا أن يمنعه من الحديث سواء عن طريق تغيير الموضوع أو بالغمز والإشارات التي تنبهت لها، إلا أن أحمد أصرّ على نقل ما وصفها ب "مأساة أهل الأرض تحت أقدام الغزاة". والأمر نفسه بالنسبة لرفيقه الذي سأسميه ياسين، بدوره أكد لنا بصراحة على أنهم محڤورين في أرضهم، وأن ثرواتهم تنهب في وضح النهار، عاقدا العزم على الدول الكبرى لتحرير الصحراء الغربية وتصفية الإستعمار. * أثناء ذلك الغضب الجامح الذي ظهر على الشاب أحمد وهو يروي لي معاناتهم مع الفقر والظلم والتسلط، نادى عليه بومبا وهمس له في أذنه، عرفت أنه يطلب منه السكوت وعدم كشف مثل هذه الأمور لي، بل سمعته يقول: "أنا جئت عندكم بضيوف وعيب أن يسمعوا منكم هذا الكلام". لكن أحمد ابتسم بسخرية وعاد إلي مسترسلا: "أعرف أن الجزائريين شرفاء وهذه هي الحقيقة التي يجب أن تعرفها منا نحن سكان الصحراء وليس المغاربة الذين يحتلون بلادنا، أو المرتزقة من مثل هؤلاء"، وأشار بسبابته إلى صاحبنا الذي إسود وجهه من الحنق والغيض. * أما الأستاذ الجامعي الإسباني وشقيقه، فقد انشغلا بأخذ صور تذكارية للمكان، وأحيانا يستمع لترجمات يقوم بها صاحبنا، ولديّ شك في سلامة الترجمة، لأننا أحيانا نتحدث في أمر جدّي ومحزن عن إستغلال الأطفال بطرق لا تمت بصلة للقوانين الدولية، ولكن الأستاذ الجامعي بعدما يتلقى الترجمة بلغته الإسبانية التي لا يتقن سواها، يضحك مقهقها، مما يوحي أن الحال لم يصله كما هو. * لم يصبر صاحبنا كثيرا على إصرار أحمد وياسين على التحدث بصراحة، وإعلانهما مواقفا لا تتماشى وطموحاته التي أراد أن يوصلها لنا من خلال هؤلاء السكان، وزاد الطين بلة لديه هو تدخل صهرهم الذي كان قبلها يلتزم الصمت ويعدّ لنا الشاي، حيث قال بالحرف الواحد: "لن نقبل بالمغرب أبدا ولو نموت جميعا"، حينها وقف صاحبنا طالبا منا المغادرة، إلا أن الرجل صمم على توصيل فكرته قائلا: "لن نقبل إلا بالحرية التامة والكاملة"، فرد عليه صاحبنا: "الحكم الذاتي هو حرية كاملة لنا"، فرد عليه من دون أن يلتفت نحوه، بل سمر نظراته في وجهي وهو يقول: "الحرية التامة... الحرية التامة... ولن نقبل عنها أي بديل". * غادرنا المكان الذي إختاره لنا صاحبنا بنوايا مسبقة ومبيتة، وتساءلت في قرارة نفسي عن الحال في الخيمات الأخرى، فالرجل هو من قصد بنا هؤلاء الأشخاص الذين على ما يبدو كان يعتقد مؤازرتهم له في نشاطاته، وبالرغم من ذلك وجدتهم ثائرين ضد المغرب وضد حتى من أمثال صاحبنا ومن معه، الذين وصفهم أحد المتحدثين بأنهم "مرتزقة لم يحققوا غايتهم مع الجبهة في الجزائر وإسبانيا، فلجؤوا إلى المخزن يعرضون خدماتهم، وهم لا يساوون جناح بعوضة لدى الصحراويين الشرفاء". * إتجه بنا صاحبنا الذي كان ناقما من أصحاب الخيمة التي إستقبلتنا، وراح يبرّر لنا تلك المواقف بأنها عدائية فقط، ولا أساس لها من الصحة، فقلت له: "لماذا لم ترد عليهم في حينها؟"، فأجاب: "لا أريد أن أدخل في كلام لا أساس له". قلت له: "لكن يظهر على ملامحهم الصدق وعلى واقعهم المزري ما يؤكد صحة أقوالهم". تهرّب من الجواب بالتحدث إلى مرافقنا الإسباني فرناندو، إلا أنني أضفت له: "أعلم جيدا أننا نميز بين الكاذب والصادق، ولكن لما دخلت الداخلة ولم أجد لا مناشير ولا شعارات تحريضية على الجدران، كنت أعتقد أن البوليساريو لا أثر لها، ورحت أفتش عن الجبهة بين الجدران والشوارع والمحلات، ولكن بعد ثلاثة أيام لم أجد في قلوب الصحراويين سواها، وأما المغرب وإن ظهر عبر اللافتات وصور الملك والأعلام، إلا أنه لا مكان له بين الصحراويين"، وأضفت مؤكدا له: "هل يعقل أنني لما وصلت رحت أفتش عن البوليساريو في المدينة التي تلبس حلة هادئة، وعندما حان وقت المغادرة لم أجد سوى البوليساريو برغم أنكم تطمسون معالمها في كل شيء، والأمر الواحد الذي عجزتم فيه هو عمق الشعب الصحراوي الذي صعب أن ينال منه". * ..يتبع