التقى بمدينة جدة السعودية الأحد الماضي ولمدة يومين، ممثلون عن 38 دولة من أهم الدول المنتجة والمستهلكة للنفط في سياق المسعى الدولي لمعالجة الارتفاع المستمر لأسعار أبرز مصدر للطاقة في العصر الحديث. الاجتماع لم يحسم مباشرة في قرار زيادة الإنتاج ولكنه أوحى بأن احتمال ذلك بات واردا جدا في أفق شهر سبتمبر المقبل، تاريخ اجتماع منظمة "أوبك" في فيينا. * ومن المتوقع أن تبلغ الزيادة 2 مليون برميل يوميا من حصص الدول العضوة المتفق عليها، إضافة الى إمكانية الإنتاج من خارج هذه الحصص. ولو تأكد هذا فإن الدول المنتجة للنفط من غير الدول المصنّعة تكون قد وقعت في فخ رأسمالي جديد اسمه "مزيد من إنتاج النفط". فماذا يعني أن يركز المستهلكون الكبار على عامل العرض غاضين الطرف عن عوامل مهمة أخرى في تحديد أسعار الذهب الأسود؟. * * الأمن الطاقوي من الأمن القومي * * لازلت الزيارات المكوكية لقادة أكبر الدول المستهلكة للنفط ترافع من أجل زيادة الانتاج على الرغم من إجماع الخبراء واقتناع المنتجين بكفاية المعروض في الأسواق، وقد أثمرت هذه الزيارات دفع عدد من أعضاء "أوبك" من الوزن الثقيل إما الى ضخ المزيد من النفط فعلا أو إبداء النية في ذلك "إذا ما تطلبت السوق مزيدا من الإمدادات"، دون أي يكون لذلك تأثير يذكر على الأسعار. وتنطلق الدول المستهلكة الكبرى في تقديراتها من فرضية "الأمن القومي" التي تشمل الأمن الطاقوي وليس فقط "الاكتفاء الطاقوي". ويعني الاكتفاء تلبية حاجة الصناعة والوقود للظروف الآنية ويستند الى قوى السوق أي العرض والطلب، بينما يتجاوز مفهوم الأمن حسابات السوق إلى تأمين الامدادات للمدى الآجل (البعيد)، ومن الناحية الوظيفية يعني ذلك المخزون التجاري (الاستراتيجي). ويتكون المخزون التجاري من طلب الشركات الرأسمالية الكبرى المستثمرة في قطاع الطاقة ثم بعض الصناديق السيادية التي باتت تفضل المضاربة على النفط فور تراجع أسواق الرهن والعملات، وأخيرا تأتي الدول المصنعة التي يتجاوز فيها الطلب حدود حاجة السكان والصناعة الى التخزين للمدى المتوسط والبعيد. كلها عوامل تتجاوز عامل العرض وتزيد من حجم الطلب وتطرح سؤالا جوهريا: لماذا لا تستثمر هذه الدول في قطاع التكرير؟ ولماذا لا تستكشف النفط في أعماق المحيطات؟ ولماذا لا تستثمر في الحقول الجديدة؟ ولماذا لا تقوم بتسويق مخزونها الاستراتيجي؟ ولماذا لا تمارس سياسة ضريبية جديدة على منتجات الطاقة؟ ولماذا تلقي بالكرة في ملعب الدول المنتجة باستمرار؟ * * * * منظمة "أوبيك" أو الطريق الى الخلاف * * وفي الوقت الذي ترافع فيه الدول المستهلكة من أجل زيادة المعروض بنحو 2 مليون برميل من النفط يوميا ويتخذ بعض الأعضاء قرارات انفرادية يأتي موقف فنزويلا مؤكدا لتوصيات قمة الرياض (نوفمبر 2008) بالحفاظ على تماسك المنظمة في مسألة الإنتاج مع أن سيناريو التهاب الأسعار كان حاضرا وكنا تحدثنا يومها عن سعر محتمل هو 200 دولار للبرميل. وعندما يعلن "شافيز" عن غياب بلاده في قمة جدة، وتعلن أطراف أخرى عدم رضاها عن القرارات الانفرادية فإن ذلك يؤشر لخلافات وشيكة داخل أهم منظمة لانتاج النفط. خلافات من شأنها أن تدفع الدول المستهلكة الى مزيد من الضغط على أنصار المحافظة على المستوى الحالي للإنتاج تحسبا لاجتماع المنظمة القادم. وعندما يلوح الكونجرس الأمريكي باستخدام قانون العقوبات المصادق عليه ضد الدول التي تمتنع عن دعم السوق النفطية، وعندما يلوح الاتحاد الأوربي بتشكيل حلف جديد للطاقة في أوربا، وعندما يعود الحديث عن معاودة الاستثمارفي الطاقة النووية وطاقة الرياح التي تمتلك فيها الدول الصناعية ميزات نسبية، فإن ذلك كله معناه شيء: الاستغناء عن الطاقة عالية السعر لصالح الطاقة الأرخص. وعلى الدول المنتجة إذن المساعدة في خفض أسعار النفط برفع الإنتاج الى حدوده القصوى. هذا ما يفسر الدعوة الى مضاعفة قدرات التكرير والاستثمارات الكبرى في الحقول الجديدة وتوسيع البحث الى النفط الخام الثقيل. * * * هل تنخفض الأسعار؟ * * لا أحد يستطيع الجزم بالجواب مادامت الأسباب متداخلة وتتجاوز عامل العرض الى سلوك الشركات وسياسات الدول المصنعة. ولكن الطلب المتزايد في كل من الصين والهند وبقية الدول الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية واعتماد الميزانيات في الدول الرأسمالية على رسوم الطاقة وتحالف الشركات النفطية في أمريكا، وتأخر تنفيذ الاستثمارات في الحقول الجديدة، كل ذلك يجعل من انخفاض الأسعار في المدى القريب أمرا مستبعدا ولكنه يكون ممكنا جدا في المدى المتوسط. وهو الهدف الذي تسعى إليه الدول المستهلكة الكبرى: مزيد من أرباح الشركات المضاربة، تأمين الإمدادات للمدى البعيد، التحول التدريجي الى بدائل الطاقة الأحفورية أي النفط والغاز. * فأما الشركات المضاربة فتملك أغلبها شخصيات مهمة وهي تقبل كل شيء عدا الإضرار بمصالحها مما يفسر الحديث المحتشم عن دور المضاربة في رفع الأسعار. وأما تأمين الإمدادات للمدى البعيد فهو جوهر "الأمن الطاقوي" للدول الرأسمالية، وأما التحول الى بدائل الطاقة الأحفورية فهو رهان الصناعات الرأسمالية وقد بدأت بالفعل خطط الإنتاج الذي يعتمد على الطاقة البديلة فضلا عن الطاقة الحيوية التي دخلت حيز التجارة الدولية من خلال الصفقة البرازيلية - الأولى من نوعها - هذا الشهر الى اليابان وتصدير الوقود الحيوي. * * والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا تجني الدول المنتجة من احتمال زيادة الإنتاج غير تحقيق ريع متزايد للمدى العاجل (القصير) واحتمال تحول الهم الطاقوي من الدول المصنعة الى هذه الدول ذاتها في المدى الآجل (البعيد).