طاردته السفارة العراقية، حماه بومدين ولاحقته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يعد مظفر النواب أحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، ليس فقط لإنتاجه الراقي ومكانته الأدبية، لكن أيضا لمواقفه السياسية، فهو الشاعر سليط اللسان الذي يخافه كل الحكام العرب، قصائده كانت تهرب عبر المطارات في أشرطة تسجيل بعدما منعت كتبه في اغلب الدول العربية وتعرض للسجن والتعذيب من قبل النظام العراقي السابق زار الجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين في عام 1977 يوم كان محمد الصديق بن يحيى وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي، يومها كان مصطفى كاتب مكلفا بدائرة النشاطات الثقافية بالوزارة التي يعود لها الفضل في التأسيس لحركة ثقافية شهدت ميلاد جيل كامل من المسرحيين والكتاب والشعراء . * زيارة مظفر النواب الأولى إلى الجزائر لم تكن بدعوة رسمية، ولكن بدعوة من مجموعة من الكتاب الشباب المغامرين قبل أن تتكفل رئاسة الجمهورية بالشاعر الذي كان صديقا للمعارض المعروف الدكتور إبراهيم ماخوص الذي كان بدوره صديقا مقربا من بومدين. * الشلة التي كانت مكلفة بتحضير وتسيير زيارة الشاعر وإقامته في الجزائر تشكلت من عبد العالي رزاڤي وأحمد حمدي ومحمد صالح حرز الله. يقول رزاڤي: "عندما وجهنا الدعوة لمظفر النواب لم نكن نعلم أن له جمهورا كبيرا ومخيفا في الجزائر.. كان يطالب بوتريات ليلية ويرددها معه". * انتظروا النواب فتفاجأوا ببوجملين * يقول محمد صالح حرز الله في شهادته على مرور مظفر النواب من الجزائر: "وجهنا دعوة للشاعر الذي كان ممنوعا في أغلب الدول العربية ومطاردا من قبل المخابرات العراقية، فدخل الجزائر بجواز سفر ليبي وتحت اسم مستعار (لخضر بوجملين) ولما ذهبنا إلى المطار لاستقباله كانت مصالح رئاسة الجمهورية قد أخذت علما بقدومه، فأرسلت من يستقبله في القاعة الشرفية لأنه شخصية كبيرة ومرموقة، والطريف في الأمر - حسب شهادة حرز الله - أن المكلفين باستقباله الذين أرسلتهم مصالح الرئاسة لم يعثروا في قائمة المسافرين على اسم مظفر النواب، لأن الجماعة الأخرى كانت قد أخرجت الشاعر تحت اسم "لخضر بوجملين" من الباب العادي للمطار الذي يخرج منه عامة الناس، ولما وصل مظفر إلى فندق السفير حيث نزل، اتصل بصديقه الدكتور ماخوص، ومن ثم عرفت الجماعة أن الشاعر دخل الجزائر، فتكفلت الرئاسة بكل متطلبات الشاعر من إقامة وفندق وتنقلات في الجزائر، وكان تحت أعين مصالح الأمن التي وفرت له حماية، لأنه كان مهددا ومستهدفا من قبل النظام العراقي في عهد صدام حسين". * يذكر عبد العالي رزاڤي الذي كان مكلفا بالإعداد لأمسية الشاعر بالجزائر رفقة محمد صالح حرز الله الذي كان يومها أمينا عاما مكلفا بالنشاطات الثقافية في اتحاد الكتاب إلى جانب أحمد حمدي أنه يوم التحضير والإعداد للأمسية التي شهدت إقبالا كبيرا لم يكن متوقعا، جاءت جماعة من السفارة العراقية إلى مقر الاتحاد وطالبت بوقف الأمسية، لكن أبو القاسم خمار الذي كان أمينا عاما للاتحاد رفض الامتثال لأوامر جماعة السفارة العراقية، وأصر على إقامة الأمسية في موعدها، في هذا السياق بذكر محمد صالح حرز الله في شهادته أن جماعة السفارة قالت له بالحرف الواحد "نحملك مسؤولية أي كلام يقال ضد العراق ونعتبره موقفا ضد الدولة العراقية، لأن هذا الشخص معارض للنظام" ويضيف المتحدث قائلا: "احترت كيف أتصرف، لذا طلبت مساعدة الطاهر بن عيشة الذي تكفل بإلهاء الجماعة في المكتب وشغلهم بالكلام عن ما جاؤوا من اجله، في حين قمنا نحن بإدخال الشاعر إلى القاعة من الباب الخلفي لاتحاد، ولما سمعوا تصفيق الجمهور لدخول الشاعر حاولوا اقتحام القاعة، لكنهم وجدوها مملوءة عن آخرها، فعدلوا عن الأمر وغادروا دون آن يقولوا كلمة". * "السفير" رفض منحه الجناح الرئاسي.. وهو رفض السيارة الرسمية * يروي أحمد حمدي أحد المنظمين لزيارة مظفر النواب إلى الجزائر، أنه هو من وجه دعوة لمظفر النواب إلى الجزائر، بحكم معرفته السابقة به. يقول حمدي: "لم يكن أحد في الجزائر من المسؤولين يعرف مظفر، ربما باستثناء بومدين عن طريق صديقه الدكتور إبراهيم ماخوس، لهذا اقترحنا اسم مظفر، ولم يعترض عليه احد من النواب لأن مصطفى كاتب الذي كان مقربا من المسرحيين والفنانين لا يعرف أنه شاعر معارض ومطارد بالموت من قبل مخابرات بلاده، وحتى الوزير بن يحيى كان يجهله" * يواصل حمدي قائلا: "تعرفت على مظفر في بداية عام1977 في طرابلس الليبية في حلقة تكوين الصحفيين العرب، وكنت يومها ممثلا للجزائر عن صحيفة المجاهد وكان معي العياشي عبد الحميد عن جريدة الشعب، في الحلقة التي دامت شهرا كاملا، ونظمت من قبل مركز الدراسات الإعلامية للسكان والتنمية، الذي كان يرأسه الجزائري الزبير سيف الإسلام، تعرفت هناك على مظفر وتوطدت صداقتنا ونظمت له أمسية شعرية على هامش الدورة وكان لها صدى طيبٌ" * يواصل حمدي شهادته قائلا: "لما وجهت له دعوة لزيارة الجزائر رفض أن يأتي في إطار رسمي وقال لي: »أنت تعرف حساسيتي من الحكومات ولا أريد أن آتي باسم أي نظام«، وقلت له لكنك ستأتي بدعوة من المبدعين والكتاب، فرحب بالزيارة حتى أنه قال لي »حتى ولو لم تستطيعوا تنظيم أمسية لا مشكلة، سآتي فقط لرؤيتكم« وهكذا وجهنا دعوة لمظفر النواب في نفس السنة التي تعرفت فيها إليه، أي عام1977 ودخل الجزائر باسم مستعار وبجواز سفر ليبي، وكانت الوزارة ومعها الرئاسة قد اتخذت كافة التدابير لاستقبال الشاعر استقبالا يليق بمقامه، لكن لما ذهب المكلفون باستقباله من قبل الرئاسة إلى المطار ولم يجدوا أحدا باسم مظفر النواب، غضب بومدين وغضب الوزير وكذلك مصطفى كاتب الذي الذي اتصل بنا وهو يرغي ويزبد، وصادف أن كان معنا مظفر بفندق السفير لحظتها، والطريف في الحكاية أن مصالح الاستقبال بالفندق رفضت أن تسجل مظفر النواب وتمنح له الجناح الرئاسي الذي خصص لاستقباله من قبل رئاسة الجمهورية، لأنه كان يحمل جواز سفر واسما غير اسمه الحقيقي، حتى تدخل المرحوم مصطفى كاتب والوزير بن يحيى لحل المشكلة، ولكن مظفر النواب رفض أن يركب السيارة الرسمية التي خصصتها له الرئاسة وفضل عليها سيارة رزاڤي المهترئة" * الشاعر المشاكس تحت حراسة المخابرات الجزائرية * كان من الطبيعي جدا أن تخصص السلطات الجزائرية حراسة مشددة للشاعر أثناء تنقلاته، خاصة بعد تزايد التهديدات التي طالته من قبل النظام العراقي، لهذا يقول عبد العالي رزاڤي: "كنا نقطع الطريق من اتحاد الكتاب إلى فندق السفير، حيث كان الشاعر ينزل بعد أن نقوم بالتمويه ونصعد إلى غاية الأبيار ونعود عن طريق البريد المركزي، وهذا خوفا على حياة الشاعر، خاصة أنه أيضا كان تحت أنظار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت أيضا تلاحقه بالجزائر، طلبا لحمايته وخوفا من تعرضه الشاعر لأي خطر على الأراضي الجزائرية". * هذا، وطلبت السلطات من المضيفين الحرص والاحتراس فيما يخص الإجراءات الأمنية المتعلقة بتنقلات الشاعر، يقول رزاقي: "نقلت الشاعر إلى بيتي وكنت يومها أسكن في أحد الفنادق المتواضعة بالعاصمة، وكنا نغير السيارة التي يتنقل بها الشاعر دفعا لأي شبهة أو مراقبة، إلى درجة أننا كنا نغير السيارة في اليوم أكثر من مرة، وكان بذلك مظفر النواب أول شاعر يهرب إلى الجزائر خوفا من أن تغتاله المخابرات العراقية". * * متواضع لا يحب الحديث عن نفسه * يذكر من رافق مظفر النواب انه كان شخصا مرحا ومتواضعا، بسيطا، لا يحب كثيرا الكلام عن نفسه، وقلما يتحدث عن أيام تعذيبه في السجن، من يلتقيه لا يكاد يصدق انه نفس الشخص الذي شغل الساحة الشعرية العربية، يحب كثيرا الاستماع إلى غيره ويحسن الإنصات، وكان يقرأ قصائده بطريقة راقصة وطريقة خاصة به، ويصنع أجواء خاصة فوق منصة الشعر. * يوم أعجب بالقصبة وتمرد على الإقامة الجبرية في الجزائر * في السياق نفسه، يذكر بعض من كانت لهم لقاءات بمظفر النواب انه ذاق ذرعا بالحراسة المشددة التي أقيمت عليه في فندق السفير، فأخبر ذات يوم المكلفين بحراسته وأمنه انه يرغب في النزول إلى الجزائر الشعبية، ليتجول في أحيائها ولرؤية حياة الناس البسطاء، فتطوع احد مرافقيه بأخذه في جولة إلى القصبة، وهناك أعجب مظفر النواب بالأجواء الشعبية التي كانت سائدة في أوساط الشباب، فرغب في البقاء أطول مدة معينة، ورفض العودة مع المرافق إلى الفندق، وفي الجهة المقابلة كانت حالة استنفار قصوى شهدها مقر إقامة مظفر النواب، وباشرت المصالح الأمنية البحث عن الوجهة التي أخذها الشاعر، الذي عثر عليه في القصبة، يجلس على "بيدون زيت" وهو يدخن مع الشباب". * أكبر أمسية في تاريخ الجزائر الثقافي * يذكر أحمد حمدي أن مظفر النواب في زيارته الأولى والأخيرة إلى الجزائر، قام بإحياء أمسيتين، الأولى في اتحاد الكتاب والثانية في قاعة النفق الجامعي، وكانت أكبر أمسية جماهيرية في تاريخ الجزائري الثقافي، حيث امتلأت القاعة عن آخرها وفاضت بجمهورها إلى الشارع الرئيسي للمدينة، واستمرت إلى غاية الثانية صباحا، ومما زاد في نجاح الأمسية الطريقة الفريدة والخاصة التي كان مظفر النواب يقرأ بها الشعر، إذ كان يمثل القصيدة فوق المنصة وكانت له طريقة تشبه الرقص في قراءة القصيدة، فأبدع ليلتها في تقديم وتريات ليلية وخاصة قصيدته المشهورة" »القدس عروس عروبتكم« التي تجاوب معها الجمهور أيما تجاوب، واكتشفنا يومها أن لمظفر جمهورا مخيفا في الجزائر، فأحب هو أيضا الجزائر وأعجب بها لأنه كان يكتشف ثقافة بلد كان يعتقد أنه لا يتحدث العربية، وربما لا علاقة تربطه بالثقافة العربية.