يحتمي المثقف العربي بشعارات حرية الرأي والديمقراطية كلما حاصره الرقيب.. والرقيب هنا قد يكون مسلحا بالعصي أو بالمقدس.. وبين التفلت في تناول قضاياه والهروب الى اعمدة الديمقراطية يتأرجح المثقف العربي يلاحقه الخوف من الجوع والمطاردة والتهميش، وتصبح الكلمات والمعارف التي اكتسبها وزرا عليه عندما تكون بلا قوة داخلية تحميه من التردد وتوطنه على المواجهة، ولسوء حظ الثقافة ان غالبية المثقفين ينهزمون في الجولة الاولى امام بريق الدنانير او تلويح الحاكم بسوط او منصب.. وهنا نبدأ الاقتراب من تحديد السمات الاساسية للمثقف العربي في هذه المرحلة رغم ان كثيرين سيصرخون في وجوهنا وهل هناك مثقفون؟؟ اين هم؟ وبلا تردد نجيب انهم موجودون رغم ما يحيط بهم من تعتيم.. ولكن تداخل الاسباب في الخطاب الرسمي وشبه الرسمي لدى الجمعيات السياسية والمكونات الاساسية للمجتمعات صنع حالة من الشعوذة في واقع الناس اصبح المثقف ازاءها كالحاوي او المنتحر.. في مرحلة سابقة عندما كانت معظم انظمة الحكم في وطننا العربي ذات خيارات ايديولوجية محددة وشعارات تنضوي تحتها جملة الانشطة السياسية والاجتماعية.. حينذاك كان سهلا بروز تيار ثقافي ومنابر ثقافية مساندة او مضادة وعلى جبهة رفض توجهات الانظمة يومذاك برز مثقفون كبار ومفكرون متميزون.. في تلك المرحلة برز سيد قطب ومالك بن نبي وجمال حمدان ومحمد قطب وفتحي يكن وغيرهم من المثقفين الاسلاميين الكبار ما برز مثقفون علمانيون حيويون في مصر والجزائر وتونس والمغرب وبلاد الشام. وبرز في تلك المرحلة علماء دين ممتازون مثل شلتوت ومحمد ابوزهرة في مصر وتقي الدين النبهاني في فلسطين وحبنكة ومصطفى السباعي في دمشق.. وامتد التميز الى طبقة الشعراء والادباء. لكننا اليوم نمر بمرحلة الشعوذة.. انظمة حكم تخلط الدين بالهوى وتصنع من الفتاوى الفاسدة واستبداد الانحراف حالة تلفيق عجيبة.. وتحشد بين المناداة بحق فلسطين وبناء قواعد عسكرية امريكية على ارضها.. مرحلة يهتز فيها اليقين مع كل صاروخ امريكي وإسرائيلي ويصبح المستحيل هو احداث خطاب متميز بعد ان اختلطت خطابات الجميع في خلطة لا تشبه شيئا ولكنها تحتوي على شيء من كل شيء.. وهكذا تتكشف قدرة التلفيق وتأقلمها مع تعقيد الظروف.. فبسهولة يتم شطب أي لغة معارضة او رافضة.. فالفكر الليبرالي يعيش خزيه في ظل تنفيذ التجربة الديمقراطية في العراق والصومال والسودان.. ولم يعد الليبراليون قادرين على المناداة بأطروحاتهم بعد ان استولت عليها الادارة الامريكية، وها هي توظفها في تحطيم الدول وتفسيخ المجتمعات وإثارة الفوضى في الابنية الثقافية والاقتصادية.. فأصبح كل من يدعو لحل ليبرالي يكون على مسافة قريبة او بعيدة من الحل الامريكي المطروح لمجتمعاتنا.. أما الفكر الاسلامي فأصبحت تهمة الارهاب ممحاة لوجود الخطاب الاسلامي.. ويرجع المثقف الاسلامي خطوات كبيرة لأنه سيكون معزولا بعد ان جذبت الدنيا ببهرجها ومواقع الامتيازات فيها معظم من بدأ نجمه يلمع او كان مؤهلا ليصبح علما الى حيث مائدة السلطان.. المثقفون العرب والشعوذة المعاصرة معركة لم ينتصر فيها المثقف العربي رغم تضحياته الباسلة، ورغم كرهه للشعوذة الا انه اصبح للأسف في كثير من الاحيان مشعوذا يستخدم البخور ونار المواقد، يقرأ احلامه وبعض ما اصابه وينشر كلمات على الاوراق، هو يدرك ان لا قيمة لها لأنه يتلاعب بالالفاظ وبأساليب اللف والدوران التي استفادها من مطالعاته.. ذلك لأن طبيعة انظمة الحكم تتلون كالحرباء وتكون قد سحبت من المثقفين مادة تحريضهم ولسان شعوبهم.. وضيقت عليهم سبل الحياة الكريمة. ان الفوضى والبعثرة والانتقائية واللا معيارية اصبحت سمات واضحة لدى المثقف العربي الذي انسحب من قضاياه الكبرى الى قضايا جزئية مشوهة.. ويكفي ان نستعرض موقف المثقف العربي من قضايا حساسة وحيوية وكبيرة لنرى حجم الضباب الذي يلفه.. فأين المثقف العربي من قضية الامن القومي العربي المهدد؟ اينه من قضية القرن الافريقي والصومال وجنوب السودان ودارفور والعراق وأزمة الثنائية الدينية في مصر وتمدد المقولة الصهيونية في الخطاب العربي..؟ اين المثقف العربي من التنمية والحريات السياسية واينه من العدو المركزي للأمة ممثلا في سياسات الادارة الامريكية..؟ وما هو موقف المثقف العربي من زوابع تكاد تعصف بالبيت العربي كله؟ المثقف العربي الليبرالي يتجه لنقد الدين والمقدس ويدخل معركة محكومة نتائجها بالفشل.. والمثقف الاسلامي اصبح مثقف الحزب الاسلامي وأصبحت احتياجات الحزب محركه وموجهه.. وخلت الساحة لمنظري الجهل والعنف والحسم الظالم في الآخر ولمنظري الرذيلة السياسية والاقتصادية. اننا في ظل النظام العربي التلفيقي وأزمته البنيوية وترابط اجزائه بالخطوط الغربية في شتى الميادين لا نرى من نوعية المثقفين الا المنهارين او المتطرفين، وفي كلتا الحالتين نعاني التمزق او التطرف.. ولا يملك أي من اصحاب الخيارين الا الشعوذة للتدليل على وجوده. اننا مدعوون الى البحث عن عناصر ارساء قناعات تبني قواعد لثقافة محصنة من الهزيمة والاختراق تفضح جريمة الشعوذة وترفض التنطع والميوعة.. نحن محتاجون إلى ثقافة تحمي الناشئة من الانحراف والمجتمع من الفوضى.. ولعل هذه الخطوة تكون من الخطوات الاولى للنهضة.