تتدفق مشاعر الود، ويسحبني الماضي إلى عالمه كلما التقيت بأخ مغربي، خاصة إذا كان من أهل "وجدة"، ففي تلك المدينة صنع جزء كبير من تاريخ ثورتنا التحريرية بشقّيه الأمني والعسكري، ومنها جاء الدّهاء السّياسي لرجال قادوا الجزائر نحو عزتها، ومنهم أيضاً من دفعها إلى التّراجع عن دورها، وأشاع فيها ثقافة الفساد، وأسند أمرها لغير أهله، وما علينا إلا انتظار السّاعة. * مشاعر الودّ تلك عبّرت عنها في كثير من الأحيان في لقاءات ثنائية وجماعية وسأظل، فبناء على الميراث التاريخي لثورتنا أكنّ كل التقدير لما قام به الأخوة المغاربة من أجلنا، ولا يمكن لعاقل أن يجعل من خطأ النظام المغربي في "حرب الرمال" مدخلاً لعلاقة غير سويّة بين دولتين، بينهما من العوامل ما يقرّب أكثر مما يبعد، والذاكرة الجماعية للجزائريين، خاصة العسكريين منهم، لن تكون رهينة ثقافة الدماء، وإذا كان بعضهم يولي وجهه قبل المغرب من المدخل التاريخي السابق، فعليه إن غاب عنه العفو بعد أو وضعت الحرب أوزارها منذ 43 سنة أن يساوي على الأقل بين المغرب وفرنسا في المعاملة. * وبالمقابل على الذين يصنعون القرار السياسي في المغرب، خاصة جلالة الملك، أن يعيشوا الزمن العالمي لجهة حل النزاعات، والبحث عن علاقة طيّبة مع الصحراويين، بغض النظر إلى ما ستؤول إليه المفاوضات في المستقبل المنظور، والعمل من أجل التعاون مع الجزائريين الرسميين منهم والشعبيين ذلك لأنه ليس في مقدور الطرفين، الجزائري والمغربي، تغيير الجغرافيا، ولا حتى تغيير التاريخ.. فلنمد جسور المحبة بدلاً من أن نشعل الفتنة لإقامة جبال النار. * وإذا كنت ومثلي كُثر أبحث عن أمل يجمعنا في ظل فتنة شاملة تعمّ الدول العربية، بل والعالم الإسلامي كلّه، فإن جميعنا بحاجة إلى مساعدة من أطراف ثقافية فاعلة، صحيح أنه مطلوب منها التعبير عن موقف وتوجهات دولها، خاصة في زمن التوترات الكبرى وإلا اتهمت بالخيانة، لكن عليها أن تراعي الدار الآخرة أثناء إبداء رأيها، فحبّ الوطن من الإيمان، لكن ليس هو الإيمان ولن يكون بديلا عنه، وقد رُبط مفهوم الأمة في القرآن الكريم، الذي هو أكبر من الوطن، بالعبادة مرّة، وبالتقوى مرة أخرى. * عمليّا، لو نظرنا لما حدث بيننا وبين المغرب منذ الاستقلال إلى الآن سنجده قائما على سوء الفهم، والمحاولات التي قام بها الطرفان خلال العقود الأربعة الماضية، لم تناقش عمق المشكلات، ولم تبحث لها عن حلول حاسمة تصنع تاريخنا المعاصر، وظلّ الشك طاغيا حتى عندما كانت العلاقات في أوج ازدهارها، وقد أورثنا هذا النمط من السياسة الخفية تراكمات تستدعى إلى الواجهة، كلما علت لغة الخطاب السياسي بين الدولتين، لجهة النقد المباشر أو غير المباشر، ودافع رجال الإعلام والثقافة عن فعل صاحب القرار حتى لو كان عملا كارثياً والحالة الراهنة خير مثال على ذلك. * نحن إذن على الصعيدين الجزائري والمغربي نتحرّك على أرض مليئة بالألغام، تحول دون تفاعلنا مع التطورات الحاصلة في العالم، حيث نلتقي في تجمعات مع دول المتوسط الأوروبية، وتقطع أواصر القربي عند حدود "زُوج ابغال"، وهذا يعود إما لسيطرة المواقف السياسية، وإما إلى إبعاد المثقفين عن دورهم. * تلك حالة مغاربية بدأت من أيام الثورات، فصانع القرار السياسي، وصاحب الأمر العسكري، والمالك للملف الأمني.. ثلاثتهم يتحكّمون في مصيرنا، ويوجهوننا بالطريقة التي يريدون، وإذا كنّا لا ننكر حاجتنا إليهم، وإلا عمت الفوضى وانهارت الدولة، فإن عليهم أيضاً الاعتراف بحاجتهم إلينا، إن لم يكن اعترافا منهم بدورنا، فعلى الأقل البحث عن قبول لدى الآخرين الغربيين تحديدا الذين يعملون من أجل إرضائهم في مختلف مجالات الحياة، ومنها حقوق الإنسان والحريات والديموقراطية. * مهما يكن، فإن ميراث "وجدة" لايزال يطاردنا، وخلافات التاريخ تحكمنا، وما الخلاف الراهن إلا دليلاً على عودة ذلك الميراث إلى الواجهة، وكان من المفروض أن يتم معرفة الشخصيتين المغربية والجزائرية انطلاقا من الميراث المشترك بينهما، تماما كما كان على المصريين أن يعرفوا نمط السلوك ورد الفعل لدى الجزائريين من خلال التاريخ الاجتماعي، وليس ذاك الخاص بالقيادات الجزائرية. * لست أدري لماذا لم يهتم المصريون مثلا بالتجربة الأولى للجزائريين الذين زاروا مصر، وذلك حين أهدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للجزائر مصنعاً للغزل والنسيج أقيم في "ذراع بن خدة" عام 1963. * كان من الطبيعي أن يتم تدريب الجزائريين على استعمال الآلات، لهذا حضرت مجموعة من الشباب إلى المحلة الكبرى، التي تعدّ كبرى مدن محافظة الغربية ودلتا النيل في مصر، كما تعد إحدى أكبر مدن جمهورية مصر العربية من حيث السكان والمساحة، وفيها يوجد أكبر مصنع للغزل والنسيج في الشرق الأوسط وهو مصنع "شركة مصر للغزل والنسيج" الذي يعمل فيه حوالي 27 ألف عامل وموظف في الوقت الرّاهن، وباختصار يمثّل مصنعها فخرا للعرب جميعهم، وهو نتيجة القرار السياسي العربي المستقل، حين كان القائد إبنا بارّا لبلاده مصر ولأمته العربية، ثم أنّ قاعدته العمالية لاتزال شاهدة على دور الطبقة العاملة في القطاع العام، ومقاومتها في زمن بيعه وتسليمه للقطاع الخاص. * جاء بعض من الشباب الجزائري للتدريب في مصنع الغزل والنسيج المحلة الكبرى محملا بانتصار كبير، خيّل إليه من خلاله أن الجزائريين سادة العالم، وأنهم قادرون على بسط نفوذهم على أي مكان يتواجدون فيه، حتى أنهم كانوا ينزلون إلى مدينة المحلة ويطالبون المصريين أحياناً بالقوة بعدم الخروج مع نسائهم أو بناتهم أو أخواتهم بعد المغرب، لأن تواجد الرجال والنساء خارج البيوت في ذلك الوقت خروج عن النظام العام، ويبيّن سوء الأخلاق وانعدام الحياء، وقد تسبب ذلك في مشجاراتهم مع سكان المحلة خاصّة الشباب. * كانت تلك المجموعة من الشباب الجزائري تنطلق من قيم مجتمعية عاشتها أيّام الثورة.. المدهش أن السلطات المصرية بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر أدركت أهمية أن يكون الشباب الجزائري محملاً بتلك القيم، فطالبت السكان بالالتزام بمطالب الجزائريين، خاصة وأن إقامتهم كانت في المحلّة لشهور فقط. * لو عادت السلطات المصرية أيام الفتنة الإعلامية مع الجزائر لا أعادها الله إلى السّجلات الخاصة بشركة مصر للغزل والنسيج في تلك المرحلة من التاريخ، لتمكّنت من معرفة السلوك العفوي للشعب الجزائري تجاه مختلف القضايا، وبالذات تلك المرتبطة بالثورة وبالشهداء، فداخل كل الجزائري مهما بدا هادئا تتحرك دماء الشهداء، وهذه يشترك فيها مع كل الشعوب المسلمة مع اختلاف في طريقة التعبير عنها. * في رحلة الجزائريين إلى المغرب أو إلى مصر، ظلوا على طبيعتهم ولايزالون عليها، وهم في التعبير عن الحب أكثر عنفاً من تعبيرهم عن الكراهية، فالمدخل إذن للعلاقة معهم ينطلق من فهم طبيعة الشخصية الجزائرية، وهي بالطبع تحمل صفات الشخصية العربية والأمازيغية، مضاف إليهما شعورها بالانتصار.. شعور زيّف الوعي لدى كثير منّا. * من خلال ذلك الانتصار يقيّم الجزائريون القرارات والمواقف العربية.. إنهم أناس حنّكتهم التجارب من أيام ماسينيسا ويوغرطة، وصولا إلى الفاتحين الأوائل وليس انتهاء * ب(طارق بن زياد)، وخلال تجاربهم مع الأمم السابقة وإلى غاية الاستعمار الفرنسي، ظل الجامع بينهم قيم الثورة أو الجهاد، ولمن ناصرهم فيها أيام الشّدة نصيباً مفروضاً، وإخوانهم في المغرب أو مصر، مثلهم مع الاحتفاظ بالخصوصية، فليحافظ الجميع على تلك الخصوصية، لأنها تمثل التنوع، وقد تكون تلك الخصوصية هي المدخل الأفضل لوحدة مستقبلية، ستجبرنا عليها الظروف التي ستكون أشد من حروب الاستقلال في القرن الماضي.