تونس هذا البلد الصغير جغرافيا في شمال إفريقيا، صنع الحدث في العالم العربي، حين نجح شعبه التونسي الشقيق في تكسير جدار الخوف المفضي إلى إسقاط النظام السياسي الديكتاتوري الجاثم على تونس منذ استرجاع استقلالها سنة 1956. احتل الواجهة كصانع لحدث سياسي عظيم، يعد بمثابة مقدمة لتحرير الشعوب العربية من الأنظمة السياسية المستبدة التي أهلكت البلاد والعباد، والحرث والنسل، على مدار عقود طويلة. * لم ينطلق هذا البلد من الفراغ، بل له رصيد محترم في الإصلاح السياسي العربي، الذي ظهر في القرن التاسع عشر، كانت فيه جهود خير الدين التونسي بمثابة واسطة عقد هذه الإصلاحات. * * شيء من تاريخ تونس المضيء * يملك بلد تونس رصيدا حضاريا أكبر من حجمه الجغرافي، تراكم عبر تاريخه الطويل، له ذكر بين الحضارات التي سادت ثم بادت بحكم سنة الحياة. فقد تأسست في الأرض التونسية، دولة قرطاجنة منذ القرن التاسع قبل الميلاد، على أيدي الفنينقيين، بقيادة امرأة تدعى عليسة ديدون. ومن مآثر هذه الدولة أنها رفعت صرح الحضارة في شمال إفريقيا، حين أسست أول جمهورية في المنطقة تسيرها مجالس كانت تمثل الطبقات الشعبية المختلفة. وقد نجحت في مزج المكوّنات الحضارية الوافدة (الفينيقية) والمحلية (الأمازيغية)، فأثمرت " الحضارة البونيقية - اللوبية "(1)، التي أنجبت أعلاما كثيرين في السياسة، ك"حنبعل" قاهر الرومان، وحنون العالم الذي جاب إفريقيا، وعملقون الذي جاب سواحل انكلترا، وكلاهما دوّن مشاهداته في كتب قيّمة، و ماڤون الذي ألف كتابا في الفلاحة. وقد خاضت هذه الدولة حروبا ضد اليونان عرفت باسم حروب صقلية (536 - 306 ق. م)، و حروبا ضد الرومان عرفت باسم الحروب البونيقية (262 - 146 ق. م) انتهت بانتصار الرومان الذين قضوا على الدولة القرطاجنية، واحتلوا شمال إفريقيا. * ثم لم تلبث أن عادت تونس إلى الواجهة في ظل الحضارة الإسلامية، بعد أن أسس فيها الصحابي الفاتح عقبة بن نافع مدينة القيروان في القرن السابع الميلادي، اتخذها المسلمون كقاعدة لنشر الإسلام في شمال إفريقيا. ونظرا لموقع تونس الاستراتيجي فقد اختارها السياسيون لتأسيس دول عديدة، كالأغالبة، والزيريين، والحفصيين. ومن أشهر المؤسسات العلمية التي برزت في ظل الحضارة الإسلامية، جامع الزيتونة الذي أدى دور الجامعة في المغرب الإسلامي طيلة قرون عديدة، ومنه تخرج العديد من رواد الإصلاح في الجزائر، وفي مقدمتهم الشيخ العلامة عيد الحميد بن باديس. * * جهود تونس الإصلاحية في عصر النهضة * ساهمت تونس في عصر النهضة في استنبات الإصلاح السياسي الديمقراطي، منذ النصف الثاني من القرن 19م، ولعل أبرز رموز من حمل لواء التنوير، هو خير الدين التونسي المتوفى سنة 1889م بتركيا. واللافت في حياة هذا المصلح التونسي، أنه عبد مملوك أشتراه الباي أحمد (حاكم تونس) من تركيا، ثم رعاه بالتربية والتعليم حتى صار شخصية بارزة في السياسة التونسية. وقد مكنته الإقامة في فرنسا لمدة خمس سنوات (1852 - 1856) من الاطلاع على مزايا الحداثة، فحاول بعد عودته إصلاح النظام السياسي التونسي، دون انبهار، آخذا الواقع التونسي بعين الاعتبار ».. والغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروباوية، إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية،أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا، ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا«. (2) وفي هذا السياق دعا إلى تأسيس مجلس الشورى (البرلمان) للحد من طغيان الباي، ولمحاربة الفساد المستشري في مفاصل الدولة. وبالفعل فقد تم تأسيس هذا المجلس وترأسه لمدة سنتين، اصطدم خلالها بتعنت الباي وحاشيته الفاسدة من جهة، وبالذهنية المتزمتة العارمة من جهة أخرى، التي كانت تعتبر كل ما يرد من الغرب من تحديث ومعارف وعلوم ونظم سياسية، مرفوضة. فاضطر إلى تقديم استقالته من وزارة الحربية سنة 1877م. غير أن كفاءته السياسية التي ذاع صيتها في أوروبا، قد وصلت إلى مسامع السلطان العثماني عبد الحميد، فاستدعاه وكلفه برئاسة الوزراء لبعض الوقت، غير أن جسارته في طرح الإصلاح السياسي جعلته يفقد منصبه ويعتزل السياسة. * * كتابه "أقوم المسالك" * إن ما يهمنا أكثر في حياة هذا السياسي المحنك، هو كتابه الموسوم "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" الذي تضمن أفكاره الإصلاحية، ولا شك أنه يعد من الكتب السياسية القيمة التي ظهرت في العالم العربي في القرن 19م، وقد أكد ذلك سمير أبو حمدان بقوله: "إن كتاب خير الدين التونسي"أقوم المسالك" يمكننا أن نضعه على منصة واحدة إلى جانب أبرز الكتب التي صدرت إبان القرن التاسع عشر، وأسهمت بسهم كبير في إيقاظ الشعور بالتجديد والتحديث داخل المجتمعات العربية والإسلامية. وبين هذه الكتب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، و"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي، و "علم الدين" لعلي مبارك، وغيرها من الكتب التي قيض لها أن تندرج في مشروع النهضة". (3) غير أن عزوف المدارس العربية عن إدراجه في البرامج التعليمية قد أدى إلى نسيانه، وبالتالي غمط حق هذا الرجل الذي جمع بين الممارسة السياسية والكتابة الإصلاحية. * أبان خير الدين التونسي في كتابه المذكور عن حصافة الرأي، جعله يعي أن العدل هو حارس الملك، والعدل بدوره مرهون بعمران البلاد وأمن العباد، في حين أن الظلم مؤذن بخراب العمران. كما أدرك في وقت مبكر أن العالم في طريقه ليصير بمثابة قرية واحدة تترابط أممها بالمصالح المتبادلة: "فلم نتوقف أن نتصور الدنيا بصورة بلدة متحدة، تسكنها أمم متعددة، حاجة بعضهم البعض متأكدة، ما ينجز بها (شعب) من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بني جنسه" (4). لذا كان لزاما على العرب أن يستعدوا ليصنعوا لأنفسهم موقعا في هذا العالم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفكير الجدي في بناء دولة حديثة تتمسك بأصالتها، وتقتبس أدوات العمل من الغرب المتطور الذي قطع أشواطا بعيدة في الرقي والتقدم والحداثة. * * دولة المؤسسات لا دولة الأشخاص * دعا خير الدين التونسي في كتابه إلى تغيير الحكم الفردي، وإحلال محله مؤسسات سياسية قوية تلتزم بالقانون، لأن الاستبداد بالرأي مذموم مهما كانت كفاءة الفرد ونزاهته، وعليه فالصواب هو إشراك الجماعة في الأمور السياسية، عن طريق تأسيس مجلس شورى (البرلمان)، مع إسناد مسؤولية التسيير لوزراء يخضعون للقانون ".. إنا لا ننكر إمكان أن يوجد في الملوك، من يحسن تصرفه في المملكة، بدون مشورة أهل الحل والعقد، ويحمله حب الإنصاف، على الاستعانة بالوزير العارف النصوح، فيما يشكل عليه من المصالح، لكن لكون ذلك من النادر الذي لا يعتبر، لإسناده إلى أوصاف قلما تجتمع في إنسان، وعلى فرض اجتماعها ودوامها له، تزول بزواله، وجب علينا أن نجزم، بأن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة، مع جعل المسؤولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها، بمقتضى قوانين مضبوطة، مراعى فيها حال الملكة، أجلب لخيرها وأحفظ لها". (5) * * أسباب الفساد السياسي * بعد معاينة أوضاع الدولة العثمانية المهلهلة، اعتبر خير الدين التونسي إسناد المسؤولية إلى غير أهل الكفاءة، سببا رئيسا في الفساد السياسي، لأن هؤلاء يقدمون مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الدولة "ثم أنها أخذت في التأخر والنقص، لما قصّرت في إجراء المصالح الملكية على مقتضى الشرع والقوانين السياسية، وعدمت التحري في انتخاب أرباب الخطط المعتبرة، فتصرف بعضهم بحسب الفوائد الشخصية، لا باعتبار مصلحة الدولة والرعية" . (6) * ومن تداعيات تولي غير الأكفاء شؤون الدولة، أن تدخل العسكر في الشؤون السياسية على حساب مهمتهم الأساسية المتمثلة في الدفاع عن الوطن، وصار حكام الأقاليم يعبثون بمصالح الأمة: "إلى أن دخل في عسكر الانكشارية من أفسد حسن نظامهم وخلخل طاعتهم، حتى تداخلوا فيما ليس لهم من أحوال الملك، وحيّروا راحة السكان بظلمهم المتنوع، بعد أن كان يضرب المثل بطاعتهم، كما يضرب بشجاعتهم في ميادين الحرب. فنشأ من مجموع هذه الأمور وأمثالها الاضطراب في المملكة، واغتنم ولاة الممالك البعيدة الفرصة في الامتناع من الانقياد لأوامر الدولة، وأطلقوا أعنة الأغراض والشهوات".(7) * والخلاصة أن خير الدين التونسي قد حاول تحديث الدولة، بسعيه نحو تكريس المؤسسات السياسية التي من شأنها أن تعمل على كبح جماح الاستبداد، بالحيلولة دون تركيز جميع السلطات في يد السلطان. فعمل على اقتباس الآليات السياسية الغربية، لكنه اصطدم بالحكام الذين ملأتهم ذهنية الاستبداد، وبرجال الدين المتزمتين الذين رفضوا التنظيمات الحديثة بحجة أنها واردة من الغرب الكافر، علما أنها مجرد أدوات تنظيمية لا تحمل شحنة إيديولوجية. واعتبارا لأهمية جهوده الإصلاحية فقد استحق لقب "أبو النهضة التونسية الحديثة" عن جدارة. * * الهوامش * 1- سليمان الصيد، تاريخ الجزائر القديم، ط 2 ، مطبعة البعث ، قسنطينة 1966، ص 73. * 2- سمير أبو حمدان، خير الدين التونسي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت ، 1993، ص 96. * 3- المرجع نفسه، ص 85. * 4- المرجع نفسه، ص 87. * 5- المرجع نفسه، ص 110. * 6- المرجع نفسه، ص 142. * 7- المرجع نفسه، ص 142.