تعيش الجزائر كغيرها من البلدان العربية المكتوية بنار الشمولية، مرحلة جديدة حبلى بالمتغيرات، ستكون منعرجا هاما في السير نحو تغيير النظام السياسي، صوب الديمقراطية، التي ستكرس ثقافة المواطنة والسيادة الشعبية. * أمَا وقد لاحت بوادر الانفراج في الأفق، فلن يكون بعد اليوم أي عذر لمن تأخر عن الركب، وقد جاء في أحد أعداد مجلة العروة الوثقى ما يلي: "الخائن ليس فقط الذي يبيع وطنه، وإنما هو ذلك الذي يستطيع أن يفعل شيئا لصالحه، ولم يفعل." * من المعلوم أن الشباب هم بناة الأوطان في كل الأزمان والأمصار، فكيف تحولت هذه الفئة في العالم العربي إلى مصدر قلق للأنظمة السياسية القائمة؟ لا بد أن هناك خللا في المجتمع العربي. وقد علمنا التاريخ أن التغيير نحو الأفضل، يتم في حالات كثيرة، عبر الحراك الاجتماعي بدلالاته الواسعة (صحافة/ نقابة/ عمال/ مثقفون/ جمعيات/ مظاهرات/ اعتصام...) باعتباره سلطة مضادة تراقب الحكام، وتحول دون انحرافهم. علمنا التاريخ أن الحكام لا يتنازلون أبدا عن امتيازاتهم السياسية بمحض أرادتهم. وفي هذا المعنى قال الشاعر قديما: * [ وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ] * * حركية عجلة التاريخ * علمنا التاريخ أيضا أن عجلته في حركية مستمرة، فبالأمس البعيد تحركت عجلة التاريخ لصالح الدول الصناعية الغربية، فعرف العالم ظاهرة الاستعمار التي قضت باستحلال استغلال الشعوب الضعيفة، لصالح الدول القوية. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تحركت عجلة التاريخ من جديد، في سياق ظروف سياسية عالمية جديدة، تميزت بظهور هيئة الأممالمتحدة، وبانقسام العالم إلى كتلتين شرقية و غربية، اشتد الصراع بينهما، الأمر الذي ساعد الشعوب المستعمَرة على إيجاد حليف في سعيها إلى التحرر، فعمت الحركات الاستقلالية، التي كُلل نضالها بتحرر الشعوب. وظهرت عقب ذلك دول قطرية، لم تستجب لتطلعات شعوبها، بل مارست الاستبداد باسم الوطنية لعقود طويلة نسبيا. * فها هي عجلة التاريخ قد بدأت تتحرك في اتجاه جديد في العالم العربي، ألا وهو التوجه الديمقراطي، نحو تكريس السيادة الشعبية، وتعددية الآراء، واسترجاع المواطنين لحقهم المغتصب في تسيير الشؤون العامة، وكذا تحطيم أصنام الاستبداد، والقضاء على ذهنية القطيع التي عرقلت روح المبادرة، وروح المنافسة السياسية في أوساط الشعب. * لا شك أن جيل مطلع الألفية الثالثة، قد كُتب له أن يعيش دورة جديدة لعجلة التاريخ، وجهتها نحو تغليب إرادة الشعوب التي طالما قمعها الحكام. وجاء ذلك بفضل إرادة الشباب القوية، التي اتخذت من وسائل الاتصال العصرية، وسيلة للتحرر من ذهنية الاستبداد، ولا عجب في ذلك ما دام الشباب هم صناع التاريخ. ولكن -مع الأسف- كثيرا ما حدثنا التاريخ عن سرقة أمجاد الشباب من طرف مَنْ يحسنون ركوبَ الأحداث وتوجيهَها نحو الوجهة التي تخدم مصالحهم. ويحرمون من قطف ثمارهم. وبالمناسبة فإن هذا الهاجس هو الذي جعل الشباب في تونس يلتزمون الحيطة والحذر بشكل كبير، حتى لا تسرق منهم ثورة الياسمين، وكأني بالشاعر قد استحضر هذا الهاجس منذ القديم حين قال: * [وإذ تكون كريهة ادعى لها وإذا يحاس الحَيس يدعى جُندب] * * خصائص حراك التغيير * إن الميزة العامة لهذا التغيير الذي تلوح ملامحه في الأفق، هي تفوق الشارع على الطبقة السياسية. فبماذا نفسر هذه المعاينة، رغم أن كلا الطرفين يعيشان نفس الظروف الصعبة ؟ ومهما كان الأمر، فإن ميزة الشباب الثائر أنه "لا منتمي"، لا زعيم له ولا قيادة، سلاحه الأساسي هو الفايس بوك، وهي وسيلة حديثة وفعالة للاتصال والتواصل، تجاوزت الأنظمة السياسية الشمولية. * فهل يمكن اعتبار ثورته نتيجة من نتائج العولمة، التي ألغت الحدود السياسية، وقلصت من صلاحيات الدول القطرية، وحولت العالم إلى قرية كوكبية؟ هل يمكن إدراج حراك الشباب، ضمن فلسفة "ما بعد الحداثة"؟ وهي مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية، والتي من صفاتها: نسبية القيم/ ذهنية استهلاكية/ تسليع الثقافة/ الدعوة إلى نهاية الإيديولوجية/ مجتمع معلوماتي/ كفاءة ذهنية عالية/ غياب النظام المرجعي/ الفردانية/ مجتمع الخدمة الذاتية/ شحنة التشاؤم/ انتهاء دور المثقف الرسولي. الأمر يحتمل أكثر من قراءة. * * دوافع الانفجار * ما هي الدوافع التي تجعل الشباب يصب جام غضبه على الأنظمة الشمولية في العالم العربي؟ لا شك أن هناك أسبابا سياسية واجتماعية، واقتصادية، وثقافية عديدة. لكن مهما تنوعت الأسباب، فإن هناك قاسما مشتركا بينها، يمكن إجماله في النقاط التالية: غياب الحرية، وفقدان الكرامة، وغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار الفساد المفضي إلى تعطيل المواطنة، التي أفرغت من محتواها، وصار وجودها شكليا، ووسيلة للخداع والمغالطة. * * ثورة نوفمبر وتعبئة الشباب * وبغض النظر عن القواسم المشتركة الكثيرة بين الشعوب العربية، هناك ميزة خاصة بالشعب الجزائري، تتمثل في مرجعية الثورة التحريرية، التي لها أهمية قصوى في تعبئة الشباب، وخلاصة هذه المرجعية، أنه لا يحق لأي كان أن يصادر الإرادة الشعبية، لأن الجزائر حررها الجميع، ويبنيها الجميع، مثلما قال محفوظ نحناح رحمه الله. كما ذكر بيان أول نوفمبر 1954، أن للثورة هدفين أساسين: * أ- استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة (وقد تم ذلك في سنة 1962). * ب- بناء دولة ذات نظام جمهوري، وديمقراطي، تكرس العدالة الاجتماعية، في إطار المبادءى الإسلامية. وما يزال هذا الهدف الثاني مشروعا، ينتظر تضافر جهود الأخيار لتجسيده على أرض الواقع. * وبمقتضى قيم هذه الثورة العظيمة، فإنه من واجب المواطن رفع عقيرته عاليا مناديا، أن هلمّوا إلى تحقيق الدولة الديمقراطية بمعاييرها المذكورة. وهذا المطلب أمانة في أعناقنا. وستظل أرواح الشهداء معلقة بين السماء والأرض حتى يتم تحقيقه، وآنذاك فقط سيرتاح الشهيد، قرير العين، هناك في الخلد. لذا لا يسعني أمام هذا المخاض العسير إلا أن أهيب بالشرفاء للعمل، من أجل دفع عجلة التغيير في الاتجاه الصحيح بطرائق سلمية. * ومن واجب أهل الحل والعقد في الدولة الجزائرية، أن يدركوا جيدا، أن جوهر الأزمة في الجزائر سياسيٌ، وبالتالي يحتاج الوضع إلى حل سياسي، وليس إلى حل أمني، أو إلى إجراءات تقنية، فالخرق قد اتسع على الراتق. وما دامت السماء لا تمطر ديمقراطية، فإنه من الواجب أن تتكاثف جهود الجميع؛ الجامعة، والمثقفون، والطبقة السياسية (سلطة ومعارضة)، والمجتمع المدني بصفة عامة، من أجل دراسة هذا الحراك الاجتماعي- السياسي، دراسة موضوعية هادئة، تمكننا من استخلاص العبر التي من شانها أن تساعد الجميع -حكاما ومحكومين- على تحقيق التغيير بأقل كلفة. * وما من شك أن تحقيق المشروع الديمقراطي بسلاسة، مرهون بتوافر الإرادة السياسية لدى النظام القائم، التي يمكن تلمس مصداقيتها من خلال مدى فتح المجال السياسي، أمام الأحزاب، والناشطين السياسيين الراغبين في تأسيس أحزابهم، وفتح المنابر الإعلامية المرئية والسمعية أمام الرأي الآخر، بإنصاف، وبدون إقصاء تحت أي غطاء قد يتذرع به، وبرفع حالة الطوارئ المعرقلة لتعاطي السياسة، في أقرب الآجال. * ومما جعلني أنظر إلى المستقبل بعين التفاؤل -ولو باحتشام- إبداء السلطة السياسية لبصيص من الإرادة السياسية، للتخلي عن منطق "سمعنا وعصينا" الذي ظلت تركبه إلى يوم الناس هذا. ومن نافلة القول التذكير بأن الوضع العام يحتاج إلى مزيد من الشجاعة السياسية، لدفع الإصلاحات نحو الأمام، بتأنٍ وهدوء ورزانة، قصد بلوغ نقطة اللارجوع في إرساء قواعد الديمقراطية. وإذا أصر النظام السياسي -لا قدر الله- على تجاهل المشروع الديمقراطي الذي تشرئب إليه جميع الأعناق، فإن الغضب الجماهيري الهادر كفيل بإفهام الحكام، أن الشعب قد عقد العزم على أن تحيا الديمقراطية مهما كان الثمن. * وبالنظر إلى تجذر ذهنية الاستبداد في العالم العربي، فإنني أرى أن النظام البرلماني أنسب لنا لتحقيق طموحات الشعوب، في تكريس الحرية والكرامة في ظل الازدهار والرقي.