كل أمم الأرض، بما فيها تلك العاجزة عن حل مشكلاتها، تعلن أو تسعى أو حتى تتحايل هذه الأيام من أجل المساهمة في حل الأزمات العربية المتتالية، من أزمة شرعية السلطة إلى تحصيل رغيف العيش، هذا في الوقت الذي اكتفت فيه بعض الدول العربية "الناجية إلى حين بالقول: لست هذه الدولة المنهارة أو تلك". * الواقع أننا حين كنا أمة واحدة شكلنا قلقا للآخر بغض النظر عن علاقته بنا واليوم، ونحن دويلات متفرقة، لانزال مزعجين لأهل ملل ونحل كثيرة، وهذا القول لا يؤسس فقط على احتمالية المؤامرة، ولكن يؤكدها بعد الإعلان صراحة عنها من طرف الأعداء والأصدقاء. * لذلك فجميع العرب الذين يبغون العزة أو الحميّة أو النصرة عند الولاياتالمتحدةالأمريكية أو روسيا أو الصين أو الاتحاد الأروربي أو الاتحاد الأفريقي، أو غيرها من الدول الأخرى أذلّهم الله.. فما كان لأمة مؤمنة أن تبحث عن حلول خارج فضائها الإيماني، لكن هل في مساعدة الدول المسلمة غير العربية جدوى في ظل الأزمة الراهنة، وتحديدا تركيا وإيران؟. * ليست هناك من جدوى على الإطلاق، لأن تركيا وإيران تنطلقان مثل الدول الأخرى من مصالحهما في المنطقة وليستا من منطلق الشراكة مع العرب، والتعويل عليهما هو نوع من الأمل الضعيف عند الغريق، وإذا كان العرب عاجزين عن تقديم الخير لأنفسهم، فكيف لهم أن ينتظروا الدعم من الآخرين؟. * لقد أثبتت العلاقات خلال السنوات الماضية بين الدولتين الكبيرتين تركيا وإيران وبين العرب، أن تلك العلاقة تحكمها المصالح، التي هي السمة الأساسية للعلاقات بين الدول، بالرغم من أن تركيا لا تزال مدافعة عن قضايا العرب المسلمين، خاصة القضية الفلسطينية، وكذلك الحال بالنسبة لإيران المساندة علانية للمقاومة في لبنان وفلسطين ولنظام الحكم في سوريا. * في ساعة الجد، وفي أزمنة الحرب حين كشرت بعض الدول عن أنيابها تجاه العراق وبعدها السودان، ثم ليبيا، واليمن وسوريا، بدا موقف دول العالم كله جليا.. إنه مع الشرعية الدولية، أو مؤيد للفعل الأمريكي بعد أن تضع الحرب أوزارها، وكلما أذل العرب أنفسهم في طلب الحماية من القوى الدولية، سواء أكانت مطالب أنظمة كما هي في السابق، أو مطالب شعوب في الحاضر، كلما أصبح هناك مبرر لبحث كل القوى الدولية عن مصالحها بما يخالف ما أظهرته لسنوات من علاقة ركزت فيها عن إظهار التحالف، ربما يستثنى من ذلك التأييد الروسي لسوريا لدرجة القول باستعمال حق الفيتو في مجلس الأمن، إذا دعت الضرورة لذلك، وإن كان البعض يرى في هذا مجرد تلويح من بعيد، حتى إذا حان وقت الانقضاض على سوريا ولّت روسيا الأدبار، وكذلك الحال بالنسبة للصين، وشدتا الرحال إلى حيث المصالح المشتركة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. * يقودنا كل هذا إلى وهم الثورات العربية، والتي يطلق عليها الغرب ظلما وبهتانا وزورا اسم "الربيع العربي"، إذ لو كانت كما يدّعي لكانت الحياة عنده شتاء قارسا.. قد يكون المقصود من كلامه هو ربيعه في دولنا، لأنه وقف ضد أي تقدم في المنطقة وحارب كل دعاة الحق والعدل والديمقراطية وساند أنظمة متخلفة ومستبدة ولا يزال إلى الآن يساند أخرى آيلة للسقوط، ويعمل من أجل حمايتها، وحين تحركت الشعوب من أجل التغيير أيّدها إعلاميا وسياسيا لضرب شرعية الدولة الوطنية، وجعل الشعوب تكفر بسنوات الاستقلال بسبب حكومات كانت تحقق مصالحه في المنطقة.. واليوم يحاول التحكم في مصير الشعوب، وقد كان له ما أراد. * الانتفاضات المتتالية في الدول العربية، دفعت إليها أوضاع بعينها، لكن لم يكن وارد تحولها إلى فتنة تشارك فيها كل الأطراف، ويتساوى فيها أهل الرشد مع أصحاب الغي، ويصبح فيه سفك الدماء حقا مشروعا، وتقتص المجتمعات من نفسها بأثر رجعي، وتتحول أخطاء وفساد الأنظمة إلى مشروع مستقبلي، لدرجة يعلو فيها صوت الشعب ويتم الاستجابة إليه بما يخالف شرع الله أحيانا. * نحن إذن في بداية شتاء عربي دموي، ما أطول لياليه، وهو لن ينتهي في دول عربية ليبدأ في أخرى، ولكنه متواصل، ومرهون بما ستؤول إليه التجربة المصرية، والدول الغربية تعتبر أن حيرة النظام الحالي في مصر، وأخطاء العسكريين السياسية، ومنها: العجز عن توفير الأمان، والاستجابة أحيانا للشروط التعجيزية، حالة قابلة للتكرار وبشكل أبشع في الدول العربية الأخرى. * لتكن عيوننا مركزة على مصر، فهي الترمومتر لما يريد الغرب لنا، والعرب جميعهم سيواجهون مصيرا لا يتوقعونه على الإطلاق، إن استمرت مصر على ماهي عليه الآن، ولا يغرنّ بعض قاصري النظر في المجال السياسي، الذي يروجون إلى فكرة مفادها: أن الأحداث الراهنة هي من تبعات الثورة. * حقيقة الأمر أن هناك خارطة عربية تتشكل الآن، ستظل فيها الدولة القطرية قائمة، ولكن على مساحة أقل جغرافيا مما كانت عليه زمن نشوئها، وأن التقسيم الجديد للوطن العربي في إطار الصراع الدولي يقوم على استراتيجية بدأت تظهر ملامحها، من أهم بنودها »تلهية مصر وإشغالها لمدة لا تقل عن خمس سنوات وقد تصل إلى عشر سنوات في مشاكلها الداخلية، حتى تنتهي القوى الدولية من تشكيل خارطة العالم العربي«. * لذلك من غير المستبعد أن تشهد الجبهة الداخلية في مصر مزيدا من التوترات يحول دون قيامها بأي دور دولي قومي أو أقليمي، وأعتقد أن كثيرا من عناصر النخبة السياسية والثقافية والأمنية المصرية تعرف هذا، لكن بعضها أخذته العزة بالإثم، والبعض الآخر لزم الصمت لطبيعة المرحلة، وخوفا من اتهامه بالعداء للثورة، وفريق ثالث ينتظر الفرصة لإحداث تغيير غير متوقع. * مهما يكن، فإن الخروج من الشتاء العربي مرهون بما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، التي لا يرجح سقوط نظامها نظام حزب البعث حتى لو تغير رئيسها، لكن دخولنا في فصل الربيع حقا، وليس كما يروج الغرب، مرتبط بأوضاع مصر، وذلك حين تمسك السلطة قوى ثالثة آخذة في التشكل الآن تعيد للدولة المصرية هيبتها بعد أن فقدتها بسبب فوضى الحرية، شرط أن تسبق زمنيا قوى أخرى تجمّع الآن عناصرها في الداخل والخارج لترد على الانتقام بانتقام آخر. * إذن، لننتظر ما ستنتهي إليه ثورتان مضادتان في مصر، تلوجان في الأفق تتسابقان لإحداث، الأولى ستبني مصر الحاضر والمستقبل، والثانية ستكرس إن نجحت فوضى تؤدي إلى فتنة كبرى وتعطل مصر لسنوات عجاف، وللجيش دور في كل منهما، لكن بحسب بعض المصادر المطلعة لن يتم ذلك بإشراف المجلس العسكري ولا تلك القيادات التي عمّرت طويلا، وخدمت الرئيس مبارك وزوجته طيلة ثلاثة عقود الماضية.